بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، و الصّلاة و السّلام على من لا نبي بعده ، و على آله و صحبه و من تبعه . و بعد :
فإنّ ممّا حادوا به عن أصل معناه ، و أرادوا به غير ما وضع له ، من ألفاظ العربية ، شيء كثير . فكان من الظّلم الواقع على الكلمة و على اللّغة و على أهلها على حدّ السّواء . و كان له أثرٌ على فهم المقصود و الوصول إلى المنشود الأوّل في اللّسان العربي ، و مِيلَ به إلى ما راموه و أمّلوه .عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ ، يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا ، يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ ، يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ، وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ " . [ ابن ماجة 4018 ]
فها هم اليوم يسمّون الخمرة مشروبا روحيا ، و الرِّشوة قهوة و هديّة ، الرّبا فائدة ، و يسمّون المعازف و الغناء فنّا . و هذا ظلم للألفاظ و تعدٍّ على الأسماء و افتراء على المسمّيات ، حيث أريد بها غير ما وضعت له . و الظّالمون لهذه الكلمات العربية هم قوم دمهم عربيٌّ و لسانهم ، غربيٌّ منحاهم و وُدُّهم ، فعاثوا فسادا في أفصح لغة و أبين لسان . و إنّه ليحضرني الآن بثُّ طرفة بن العبد في معلّقته قائلا :
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضة ً ..... على المرءِ من وَقْعِ الحُسامِ المُهنّد
... و انظر يا رعاك الله إلى كلمة فنّ اليوم إذا أطلقت ، ماذا يكون المراد منها ؟ و ماذا يكون المتواثب إلى ألباب الأكثرين عند سماعها ؟!! إلّا الغناء و المسرح و السينما و الرّسم و الرّقص و غيرها محرّمات الأعمال و سفاسف الأفعال . و استروحوا في ذلك إلى المأثور عن الإغريق في حضارتهم اليونانية ، من تقسيمهم الفنون إلى ستّة أقسام معتبرة عندهم هي (العمارة و الموسيقى و الرّسم و النّحت و الشّعر و الرّقص) فلم يكتف المعاصرون ـ من الغربيين و المستغربين ـ بذلك حتى جعلوا لها سابعا و هو السينما ، و اصطلحوا عليه الفنّ السابع . ثمّ انتبهوا فلم يجدوا للمسرح ذكرا في مراتب الفنون ، فادّعوا أنّه أبوها و أنّها من صلبه . و يا ليت شعري ما ندري من أمُّها و في أيّ رحمٍ كانت ، إذا كان هذا أبوها . و المقصود يا أُخيّ : ما لنا و لميراث قوم من الوثنيّين الأوّلين ، كانت وثنيّتهم أدهى و أمرّ من وثنية قوم نوح و شركهم أشدّ و أطغى من شرك أبي جهل و أبي لهب . و نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام و أكرمنا باللّسان العربي المبين .
فالفنّ في لغة العرب كما جاء في لسان العرب عند مادة (ف ن ن) مختصرا :
[ الفَنُّ : واحد الفُنُون ، وهي الأَنواع ، والفَنُّ الحالُ .
والفَنُّ : الضَّرْبُ من الشيء ، والجمع أَفنان وفُنونٌ ، وهو الأُفْنُون .
يقال : رَعَيْنا فُنُونَ النَّباتِ ، وأَصَبْنا فُنُونَ الأَموال ؛
وأَنشد :
قد لَبِسْتُ الدَّهْرَ من أَفْنانِه ..... كلّ فَنٍّ ناعِمٍ منه حَبِرْ
ورجل مِفَنٌّ : يأْتي بالعجائب ، وامرأَة مِفْنَّة .
ورجل مِعَنٌّ مِفَنٌّ : ذو عَنَنٍ واعتراض وذو فُنُون من الكلام
... وافْتَنَّ : أَخذ في فُنُونٍ من القول .
والفُنُونُ : الأَخلاطُ من الناس .
وإِن المجلس ليجمع فُنُوناً من الناس أَي ناساً ليسوا من قبيلة واحدة .
وفَنَّنَ الناسَ : جعلهم فُنُوناً .
والتَّفْنينُ : التخليط ؛ يقال : ثوبٌ فيه تَفْنين إِذا كان فيه طرائق ليست من جِنْسه .
والفَنَّانُ في شعر الأَعشى : الحمارُ
قال ابن بري وبيت الأَعشى الذي أَشار إِليه هو قوله :
وإِنْ يَكُ تَقْرِيبٌ من الشَّدِّ غالَها ..... بمَيْعَةِ فَنَّانِ الأَجارِيِّ مُجْذِمِ
وفَنَّ الإِبلَ يَفُنُّها فَنّاً إِذا طردها ؛ قال الأَعشى :
والبِيضُ قد عَنَسَتْ وطال جِرَاؤُها ..... ونَشَأْنَ في فَنٍّ وفي أَذْوادِ
والفَنُّ : العَناء .
فنَنْتُ الرجلَ أَفُنُّه فَنّاً إِذا عَنَّيْتَه ، وفنَّه يَفُنُّه فَنّاً : عَنَّاه ؛
قال :
لأجْعَلَنْ لابنة عَمْرو والله فَناً .... حتى يَكُونَ مَهْرُها دُهْدُنَّا
والفَنُّ : المَطْلُ .
والفَنُّ : الغَبْنُ ، والفعل كالفعل ، والمصدر كالمصدر .
وامرأَة مِفَنَّة : يكون من الغَبْنِ ويكون من الطَّرْدِ والتَّغْبِيَة .
وأُفْنُونُ الشَّبابِ : أوَّله ، وكذلك أُفْنُونُ السحاب .
والفَنَنُ : الغُصْنُ المستقيم طُولاً وعَرْضاً ؛ قال العجاج : والفَنَنُ الشَّارِقُ والغَرْبيُّ والفَنَنُ : الغُصْنُ ، وقيل : الغُصْنُ القَضِيب يعني المقضوب ، والفَنَنُ : ما تشَعَّبَ منه ، والجمع أَفْنان .
قال سيبويه : لم يُجاوِزُوا به هذا البناء . ] اهـ
و إن أحقّ ما يصدق على أهل فن اليوم ما أراد به الأعشى في بيته
وإِنْ يَكُ تَقْرِيبٌ من الشَّدِّ غالَها ..... بمَيْعَةِ فَنَّانِ الأَجارِيِّ مُجْذِمِ
و الفنون في أعراف سلفنا الصّالحين ، أجلّ شأنا و أرفع مكانا و أحلى ثمارا . ففي علوم القرآن فنون ، و في علوم الحديث فنون ، و في علوم الفقه فنون ، و في علوم العربية فنون ، و في علم الحساب فنون ، و في الجهاد فنون ، و في السياسة فنون ... و هكذا في كل علم جليل نافع ، منير الثمرات ، مشرق الآثار .
و كان الأوائل يستزيدون من كلّ فنّ فاضل نافع محمود العاقبة ، مأمون الغائلة ، و لم يكونوا يقربون علوم الكلام و لا علوم النّجوم و لا إشارات الزّنادقة و الطّرقيين . بل يحذّرون منها و من أهلها و لا يرفعون بهم رأسا .
[[ وخذ مثالاً للدلالة على سَعَة اطلاع شيخ الإسلام، قال الصفديُّ -تلميذه-: ( أخبرني المولى علاء الدين عليُّ بن الآمدي -وهو من كبار كُتَّاب الحساب- قال: دخلتُ يومًا إليه أنا والشمس النفيس عامل بيت المال -ولم يكن في وقته أكتبَ منه- فأخذ الشيخ تقي الدين يسأله عن الارتفاع وعما بين الفَذْلكة واستقرار الجملة من الأبواب، وعن الفَذْلكة الثانية وخَصْمها، وعن أعمال الاستحقاق، وعن الخَتْم والتوالي، وما يُطلب من العامل. وهو يجيبُه عن البعض، ويسكت عن البعض، ويسأله عن تعليل ذلك؟ إلى أن أوضح له ذلك وعلَّله، قال: فلمَّا خرجنا من عنده قال لي النفيس: والله تعلَّمت اليومَ منه مالا كنت أتعلمه. انتهى ما ذكره علاءُ الدين ) [الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص/ 310)]
واستمع إلى هذا الوصف العجيب، الذي يُوْقِفُك على سَعَة اطلاع شيخ الإسلام، ذكر السخاوي في " الجواهر والدرر " (1/ 117) عن القاضي شمس الدين بن الديري يقول: ( سمعتُ الشيخَ علاء الدين البسطامي -ببيت المقدس- يقول وقد سأله: هل رأيت الشيخ تقيَّ الدين ابن تيميَّة، فقال: نعم. قلتُ: كيف كانت صِفَتُه؟ فقال: هل رأيتَ قُبَّةَ الصَّخرة ؟ قلت: نعم. قال: كان كقُبَّة الصخرة مُلأ كتبًا لها لسان ينطق !! ) ]] المشوق ص:22
و قد جاء في المشوّق : [[ علماء يعرفون علومًا لا يعرفها أهل عصرهم
وإن تَعْجَب فَعَجَبٌ ما وجدته في تراجم بعض العلماء، وما ذُكر من سَعَة اطلاعهم وتنوُّع معارفهم، بل تصريح جماعةٍ منهم بمعرفتهم لعلومٍ لا يعرفها أهلُ عصرهم، بل لا يعرفون أسماءها!! وإليك ما وجدت:
1- كان ابن الخشَّاب النحوي الحنبلي ت (567) يقول: إني متقنٌ في ثمانية علوم، ما يسألني أحدٌ عن علم منها، ولا أجد لها أهلاً . [الذيل على طبقات الحنابلة (1/ 317)]
2- وكان أبو البقاء السُّبْكي ت (777) يقول: أعرف عشرين علمًا، لم يسألني عنها بالقاهرة أحد. [درَّة الحِجال (2/ 132)]
3- وقال محمد بن أبي بكر بن جَمَاعة ت (819) : أعرف خمسة عشر علمًا، لا يعرف علماء عصري أسماءها. [البدر الطالع (2/ 148)]
4- ويُروى أن محمد بن أحمد بن عثمان بن عليم المالكي ت (842) قال: أعرف عشرين علمًا ما سُئلْتُ عن مسألةٍ منها!! .
5- وكان أحمد بُو نافع الفاسي ت (1260) يقول: عندي أربعة وعشرون علمًا، لم يسألني عنها أحد . [فهرس الفهارس (1/ 124)]
. 6- وفي ترجمة أبي الطيب عبد المنعم الكندي ت (435) ، حكى بعضُهم أَنَّه دخلَ عليه، فوجَدَه ينظر في اثني عشر علمًا، وكان له حظ من الحسابِ والهندسةِ والعلوم القديمةِ . [ترتيب المدارك (8/ 67)]
7- وانظر ما ذكره الجبرتي المؤرِّخ في [تاريخ الجبرتي (1/ 397)] عن والده العلامة حسن الجبرتي الكبير ت (1188) من تفنُّنه في علوم الشرع، ثم اعتكافه عشر سنوات (1144- 1154) لدراسة (العلوم التجريبية) من الهندسة والكيمياء والفلك والصنائع الحضارية كلِّها، حتى النِّجارة والخِراطة والحِدادة والسَّمكرة والتجليد والنقش والموازين، حتى صار بيته زاخِرًا بكلِّ أداةٍ في صناعةٍ وكلِّ آلةٍ ...
فتزوَّد من العلم والْحَق بالرَّكب . ]] المشوّق ص:24
و لا أدلّ على ذلك من كتاب الفنون لأبي الوفاء بن عقيل الحنبلي و هو كتاب كبيرٌ جداً ، قيل أنه بلغ ثمانمئة مجلد ، فيه فوائد كثيرة في الوعظ والتفسير والفقه والأصول ، والنحو واللغة والشعر و التاريخ والحكايات وفيه مناظراتُه ومجالسُه التي وقعت له وخواطره ونتائج فكره فيَّدها فيه .
و قال ابن رجب : وأخبرني أبو حفص عمر بن علي القزويني ببغداد ، قال : سمعتُ بعض مشايخنا يقول : هو ثمانمائة مجلدة .
وقال الحافظ الذهبي في تاريخه : لم يُصنف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب ، حدثني من رأى منه المجلد الفلاني بعد الأربعمائة .
وقال عبد الرزاق الرسعني في تفسيره : قال لي أبو البقاء اللغوي : سمعتُ الشيخ أبا حكيم النهرواني يقول : وقفتُ على السفر الرابع بعد الثلاثمائة من كتاب الفنون .
وقال ابن الجوزي : وهذا الكتاب مائتا مجلد . وقع لي منه نحو من مائة وخمسين مجلدة .
هذه هي حقّا الفنون ، لا ذاك المعنى المأفون ، الذي قرّت به أعين أهل المجون ، فإذا ذكرت كلمة الفنِّ اليوم اشمئزّت قلوبنا و أظلمت نفوسنا ، لما نالها من الظّلم ، و ما وقع عليها من التّحوير و التحريف ، و أيم الله لو أنّهم أثبتوا بين فاءها و نونها عينا لأصابوا كبد الحقيقة ، فما يقصدونه هو : العَفَن لا الفنّ ، و لكن لهذه اللّفظة أهل يعرفون كنهها و قيمتها ، و عندما تراهم يُوظّفونها و يستعملونها ترى لها بريقا و لمعانا ، و تجد لصدرك انشرحا و لقلبك استرواحا إلى وقع طنين حروفها على طبلة السّمع و شغف الفؤاد ، و إذا أردت أن تعرف الفرق بين المعنى المأفون و المعنى المدفون ، فإليك مقطع يُبيّن لك ما أقول :
قال الشوكاني رحمه الله في أدب الطلب ومنتهى الأدب : ( ... وَمن لم يفهم هَذَا فَهُوَ بَهِيمَة لَا يسْتَحق أَن يُخَاطب بِمَا يُخَاطب بِهِ النَّوْع الإنساني وَغَايَة مَا ظفر بِهِ من الْفَائِدَة بمعاداة كتب السّنة التسجيل على نَفسه بِأَنَّهُ مُبْتَدع أَشد ابتداع فَإِن أهل الْبدع لم ينكروا جَمِيع السّنة وَلَا عَادوا كتبهَا الْمَوْضُوعَة لجمعها بل حق عَلَيْهِم اسْم الْبِدْعَة عِنْد سَائِر الْمُسلمين بمخالفة بعض مسَائِل الشَّرْع
فَانْظُر أصلحك الله مَا يصنع الْجَهْل بأَهْله ويبلغ مِنْهُم حَتَّى يوقعهم فِي هَذِه الهوة فيعترفون على أنفسهم بِمَا يقشعر لَهُ جلد الْإِسْلَام وتبكي مِنْهُ عُيُون أَهله
وليتهم نزلُوا كتب السّنة منزلَة فن من الْفُنُون الَّتِي يَعْتَقِدُونَ أَن أَهله أعرف بِهِ من غَيرهم وَأعلم مِمَّن سواهُم فَإِن هَؤُلَاءِ المقلدة على اخْتِلَاف مذاهبهم وتباين نحلهم إِذا نظرُوا فِي مَسْأَلَة من مسَائِل النَّحْو بحثوا كتب النُّحَاة وَأخذُوا بأقوال أَهله وأكابر أئمته كسيبويه والأخفش وَنَحْوهمَا وَلم يلتفتوا إِلَى مَا قَالَه من قلدوهم فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة النحوية لأَنهم يعلمُونَ أَن لهَذَا الْفَنّ أَهلا هم المرجوع إِلَيْهِم فِيهِ
فَلَو فَرضنَا أَنه اخْتلف أحد المؤلفين فِي الْفِقْه من أهل الْمَذْهَب الْمَأْخُوذ بقَوْلهمْ المرجوع إِلَى تقليدهم وسيبويه فِي مَسْأَلَة نحوية لم يشك أحد أَن سِيبَوَيْهٍ هُوَ أولى بِالْحَقِّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة من ذَلِك الْفَقِيه لِأَنَّهُ صَاحب الْفَنّ وإمامه وَهَكَذَا لَو احْتَاجَ أحد من المقلدين أَن ينظر فِي مَسْأَلَة لغوية لرجع إِلَى كتب اللُّغَة وَأخذ بقول أَهلهَا وَلم يلْتَفت فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة إِلَى مَا قَالَه من هُوَ مقلد لَهُ وَلَا عول عَلَيْهِ وَلَا سِيمَا إِذا عَارض مَا يَقُوله أَقْوَال أَئِمَّة اللُّغَة وَخَالف مَا يُوجد فِي كتبهَا
وَهَكَذَا لَو أَرَادَ أحدهم أَن يبْحَث عَن مَسْأَلَة أصولية أَو كلامية أَو تَفْسِير أَو غير ذَلِك من عُلُوم الْعقل وَالنَّقْل لم يرجع فِي كل فن إِلَّا إِلَى أَهله وَلَا يعول على سواهُم أَنه قد عرف أَن أهل تِلْكَ الْفُنُون أخبر بهَا وأتقن لَهَا وَأعرف بدقائقها وخفياتها وراجحها ومرجوحها وصحيحها وسقيمها بِخِلَاف من يقلدونه فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ فِي علم الْفِقْه بارعا عَارِفًا بِهِ لكنه فِي هَذِه الْفُنُون لَا يرتقي إِلَى أقل رُتْبَة وأحقرهم معرفَة لَا يرضى مقلدوه أَن يعارضوا بقوله فِي هَذِه الْفُنُون قَول من هُوَ من أَهلهَا
وَإِذا عرفت هَذَا من صنيعهم وتبينته فَقل لَهُم مَا بالكم تركْتُم خير الْفُنُون نفعا وأشرفه أَهلا وأفضله وَاضِعا وَهُوَ علم السّنة فَإِنَّكُم قد علمْتُم أَن اشْتِغَال أهل هَذَا الْعلم بِهِ أعظم من اشْتِغَال أهل سَائِر الْفُنُون بفنونهم وتنقيحهم لَهُ وتهذيبه والبحث عَن صَحِيحه وسقيمه وَمَعْرِفَة علله والإحاطة بأحوال رُوَاته وإتعاب أنفسهم فِي هَذَا الشَّأْن مَالا يتبعهُ أحد من أهل الْفُنُون فِي فنونهم حَتَّى صَار طَالب الحَدِيث فِي تِلْكَ العصور لَا يكون طَالبا إِلَّا بعد أَن يرحل إِلَى أقطار متباينة وَيسمع من شُيُوخ عدَّة وَيعرف العالي والنازل وَالصَّحِيح وَغَيره على وَجه لَا يخفى عَلَيْهِ مخرج الْحَرْف الْوَاحِد من الحَدِيث الْوَاحِد فضلا عَن زِيَادَة على ذَلِك وَفِيهِمْ من يحفظ مائَة ألف حَدِيث إِلَى خَمْسمِائَة ألف حَدِيث إِلَى ألف ألف حَدِيث هِيَ على ظهر قلبه لَا تخفى عَلَيْهِ مِنْهَا خافية وَلَا يلتبس عَلَيْهِ فِيهَا حرف وَاحِد وَمَعَ هَذَا الْحِفْظ والإتقان فِي الْمُتُون كَذَلِك يحفظون ويتقنون أسانيدهم على حد لَا يخفى عَلَيْهِم من أَحْوَال الروَاة شَيْء وَلَا يلتبس عَلَيْهِم مَا كَانَ فِيهِ من خير وَشر وجرح وتعديل ويتركون من وجدوا فِي حفظه أدنى ضعف أَو كَانَ بِهِ أقل تساهل أَو أَحْقَر مَا يُوجب الْجرْح
وَبِالْجُمْلَةِ فَمن عرف الْفُنُون وَأَهْلهَا معرفَة صَحِيحَة لم يبْق عِنْده شكّ أَن اشْتِغَال أهل الحَدِيث بفنهم لَا يُسَاوِيه اشْتِغَال سَائِر أهل الْفُنُون بفنونهم وَلَا يُقَارِبه بل لَا يعد بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كثير شَيْء فَإِن طَالب الحَدِيث لَا يكَاد يبلغ من هَذَا الْفَنّ بعض مَا يُريدهُ إِلَّا بعد أَن يفنى صباه وشبابه وكهولته وشيخوخته فِيهِ وَيَطوف الأقطار ويستغرق بِالسَّمَاعِ والكتب اللَّيْل وَالنَّهَار وَنحن نجد الرجل يشْتَغل بفن من تِلْكَ الْفُنُون الْعَام والعامين وَالثَّلَاثَة فَيكون معدودا من محققي أَهله ومتقنيهم
فَمَا بالكم أَيهَا المقلدة إِذا أردتم الرُّجُوع إِلَى فن السّنة لم تصنعوا فِيهِ كَمَا تصنعونه فِي غَيره من الرُّجُوع إِلَى أهل الْفَنّ وَعدم الِاعْتِدَاد بغيرهم وَهل هَذَا مِنْكُم إِلَّا التعصب البحت والتعسف الْخَالِص والتحكم الصّرْف فَهَلا صَنَعْتُم فِي هَذَا الْفَنّ الَّذِي هُوَ رَأس الْفُنُون وَأَشْرَفهَا كَمَا صَنَعْتُم فِي غَيره فرجعتم إِلَى أَهله وتركتم مَا تجدونه مِمَّا يُخَالف ذَلِك فِي مؤلفات المشتغلين بالفقه الَّذين لَا يفرقون بَين أصح الصَّحِيح وأكذب الْكَذِب كَمَا يعرف ذَلِك من يعرف نَصِيبا من الْعلم وحظا من الْعرْفَان ... ) (1 / 72-74)
هذه هي حقيقة الفنون ، لا أفلام المجون ، و وخزات الجنون ، و مستنقعات الفتون
و هذا هو معنى الفنّ الذي دفنه النّاس اليوم و غيّبوه ، لا ما أقامه السّفهاء و أذناب الغرب و دعاة الإباحية و التّمييع ، من المعنى المأفون و الكنه الخبيث . و بالرّغم من شيوع هذا المعنى و ذيوعه ، لكنّه لا ينطلي على المُطّلع على ثرات الأوائل و مسطورات السّلف
أُولَئِكَ آبَائي فَجِئْني بمِثْلِهِمْ ..... إذا جَمَعَتْنا يا جَرِيرُ المَجَامِع
و ما أكثر ظلم النّاس لألفاظ لغتهم ، و هذا غيضٌ من فيض ، أحببتُ به أن أرفع ظُلامة هذه اللّفظة إلى أهلها و أشياعه
و الله الموفق و هو يهدي إلى سواء السبيل
أبو عاصم مصطفى بن محمد
السُّــــلمي
تبلـــــبالة الأحد 03 شعبان 1438 هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق