الجمعة، 31 يناير 2020

أعمال صالحات في الخلوات

أعمال صالحات في الخلوات([1])

الخطبة الأولى


الحمد لله الذي عرّف عباده بما شاء من أسمائه وصفاته، وأطلعهم على ما أراد من حقائق ألوهيته وربوبيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ملأ قلوبَ من شاء عباده بمعرفته المثمرة لخشيته، وأشهد أن نبينا وإمامنا محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خليقته، صلى الله عليه، وعلى آله وصحابته، صلاةً وسلاماً دائمَين بدوام فضله ورحمته، أما بعد:

فلئن كانت ذنوب الخلوات من أعظم مفسدات القلب؛ فإن الأعمال الصالحات في الخلوات من أعظم أسباب صلاحه، ولهذا كان السلف يوصون ويتواصون بهذا النوع من الأعمال.

يقول الزبير رضي الله عنه: من استطاع أن تكون له خبيئةٌ مِنْ عملٍ صالحٍ فليفعل([2]).

ويقول عبدالله بن داود الخريبي: كانوا يستحبون أَن يَكُون للرجل خبيئة من عمل صَالِح لا تعلم بِهِ زوجته، ولا غيرها([3]).

وكان السلف يثنون على الرجل بهذه الخصلة العزيزة النادرة، فهذا ابن المبارك يذكر الإمام مالك -رحمة الله عليهما- فيقول: ما رأيت رجلاً ارتفع مثل مالك بن أنس! ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أن تكون له سريرة([4]).

وسئل ابن المبارك عن إبراهيم بن أدهم؟ فقال: له فضل في نفسه، صاحب سرائر([5]).

أيها المسلمون:

إن أعمال السر الصالحة ترجمةٌ حقيقية للعبودية الباطنة؛ ذلك أن العبدَ عليه عبوديتان: عبوديةٌ باطنةٌ، وعبوديةٌ ظاهرة، وقيامُ الإنسان بالعبودية الظاهرة مع تعرّيه عن حقيقة العبودية الباطنة لا يقربّه إلى ربه، ولا يوجب له الثواب وقبول العمل؛ فإن المقصود امتحان القلوب وابتلاء السرائر، فعمل القلب هو روح العبودية ولبّها، فإذا خلا عملُ الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح. ا.هـ([6]).

وإذا كان هذا هو موقع أعمال القلوب؛ فخليق بالمؤمن أن يكون له نصيب منها، ومن تلك الأعمال:


1) بل من أجلها، وعنها تثمر عبادات كثيرة: التعبد لله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، خاصة تلك التي تدل على سعة العلم والاطلاع والخبرة -كالعليم، والسميع، والبصير، والباطن، والقريب، وغيرها- فالعبدُ حين يتعبد لله بها يتذكر إِحاطة الله بالعوالم كلها، ويستشعر قربَ الله منه، وأن ما أخفاه فهو ظاهر معلوم كله لله سبحانه، وأنه لا يخفى عليه شيء من سريرته، فإن هذا يُعيْن العبد على تطهير سريرته، التي هي عند الله علانية، ويُصلِح له غيبته فإِنها عند الله شهادة، ويزكِّي باطنه؛ فإِنه عند الله ظاهر([7]).

ومن جملة الأمثلة التطبيقية لهذا المعنى: ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله عن أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظلّه: "ورجلٌ ذَكرَ الله خالياً ففاضت عيناه"([8])، تفيض عيناه إما محبةً وشوقاً إلى لقاء الله، أو تفيض خوفاً من المقام بين يديه سبحانه إذا تحرك داعي المعصية.

2) ومن عبادات السرائر: مناجاة الله والتضرع إليه، خصوصاً في الأسحار، ووقت هجوع العيون، فهذا القرآن يحدثنا عن أهل الجنة: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 17، 18].

3) ومن أجلّ الأعمال التي يتحرك بها القلب في حال الخلوات: محبّة الله عز وجل، "فهذه المحبة هي التي تلطّف وتخفِّف أثقال التكاليف، وتروّضُ النفس، وتطيبُ الحياة على الحقيقة، وهذه المحبة هي التي تنّور الوجه، وتشرح الصدر، وتحيي القلب"([9]).

4) ومن عبادات الخلوات: صدقة السرّ، التي يجتهد العبدُ في إخفائها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمنيه"([10])، كان زين العابدين يَعوْل عشرات البيوت في المدينة، ويوصل الصدقة لهم ليلاً، فلم يُعرف ذلك عنه إلا بعد موته؛ من سوادٍ وجدوه في ظهره عند التغسيل.

5) ومن أجلّ عبادات الخلوات: الإخلاص لله تعالى، يقول أبو سليمان الداراني -رحمه الله- لما سئل عن أقرب أحوال العبد من الله؟ فقال: "أن يطّلع على قلبك وأنت لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو"!([11]) "فالمعوَّل على السرائر، والمقاصد، والنيات، والهمم؛ فهي الإكسير الذي يقلب نحاس الأعمال ذهباً، أو يردها خبثاً"([12]).

6) ويتبع هذا: كراهيتك لاطلاع الناس على سريرة عملٍ بينك وبين الله، قال بعض السلف: "ثلاثة من أعلام الصدق: ملازمة الصادقين، والسكون عند نظر المنفوسين، ووجدان الكراهة لاطلاع الخلق على السرائر"([13]).

أيها المسلمون! إن مَن وُفّق لعبادات الخلوات؛ فسيجني ثمراتها في الدنيا والآخرة، فمن هذه الثمرات:

1) أنها أحد أسباب دخول الجنة: ففي قصة بلال رضي الله عنه، لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "حدثنى بأرجى عمل عملتَه في الإسلام؟" فإني سمعت دفّ نعليك بين يدي في الجنة! قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهورا في ساعةِ ليلٍ أو نهارٍ إلا صليتُ بذلك الطهور ما كُتب لي أن أصلى([14])، "ففيه دليل أن الله يعظم المجازاة على ما ستر العبد بينه وبين ربه، مما لا يطّلع عليه أحد، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف عمل بلالٍ حتى سأله عنه"([15]).

2) أن أعمال الخلوات من أسباب حسن الختام: فإذا كانت دسائس السوء -والعياذ بالله- سبباً في سوء الختام، كما ثبت في قصة الذي كان يقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأَخبر أنه من أهل النار؛ لدسيسة سوء في قلبه، فإن السرائر الصالحة من أسباب حسن الخاتمة، نسأل الله من فضله.

3) ومن ثمراتها الجليلة: أنها علامة على أن العبد ممن وفّق للإخلاص، الذي هو من أعظم أسباب النجاة يوم القيامة، والمخلِصون هم أسعد الناس بشفاعته صلى الله عليه وسلم.

ومن المؤكد أن العامل إذا اعتاد على أعمال الخفاء ما أمكن؛ فإنه يتربى على الراحة من مجاهدة نفسه على الإخلاص، فيبقى عليه مجاهدتها على دفع العُجب، ومن استعان بربه كفاه وآواه.

4) أنها سبب للرفعة وحسن الذِّكر في الدنيا: قال ابن الجوزي رحمه الله: "والله! لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت، ويتخشع في نفسه ولباسه، والقلوب تنبو عنه! وقدْره في النفوس ليس بذاك! ورأيتُ من يلبس فاخر الثياب، وليس له كبير نفل، ولا تخشع، والقلوب تتهافت على محبته، فتدبرت السبب، فوجدته السريرة! فمن أصلح سريرته فاح عبيرُ فضله، وعبقت القلوبُ بنشر طيبه، فالله الله في السرائر؛ فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر"([16]).

5) أنها من أمارات صدق العبودية: يقول مطرّف رحمه الله: إذا استوت سريرةُ العبد وعلانيته قال الله عز وجل: «هذا عبدي حقاً»([17]).

6) ومنها: أن أعمال الخلوات: من أسباب الرفعة والنجاة يوم القيامة: تأمل في قوله تعالى: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)[الطارق: 9]، "وفي التعبير عن الأعمال بالسر لطيفة؛ وهو أن الأعمال نتائج السرائر الباطنة، فمن كانت سريرتُه صالحة كان عملُه صالحاً، فتبدو سريرته على وجهه نوراً وإشراقاً وحياء، ومن كانت سريرته فاسدة كان عمله تابعاً لسريرته، لا اعتبار بصورته؛ فتبدو سريرته على وجهه سواداً وظلمة وشَيناً، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته ويكون الحكم والظهور لها"([18]).

يقول الإمام مالك رحمه الله: مَن أحب أن يَفْتَحَ له فُرجةً في قلبه، وينجو من غمرات الموت، وأهوال يوم القيامة؛ فليكن في عمله في السر أكثر منه في العلانية ([19])، وتأمل في قائل هذه الكلمة، إنه الإمام مالك الذي أثنى عليه ابنُ المبارك بأن مالكاً كان صاحب سريرة.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...


الخطبة الثانية


الحمد لله ... أما بعد:

فإن الإنسان الناصح لنفسه، حين يسمع ثمرات عبادات السر؛ فخليق به أن يجتهد في البحث عن الأسباب التي تعينه عليها، ولعل من أبرزها:


1) تقوية العلم بالله وبأسمائه وصفاته: قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر: 28]، فكلما زاد العلم المبارك المُزكّى، فينبغي أن يكون أثَرُه أكثر، خصوصاً في حال الخلوة.

2) الدعاء: فما دُعي رب العزة بمثل سؤال الله تعالى الإعانة على ذِكره وإجلاله في الخلوات.

3) كتم ما يعمله الإنسان في السرّ ولو قلّ، قال عبدالله بن دَاوُد الخريبي: كَانُوا يستحبون أَن يَكُون للرجل خبيئة من عمل صَالِح لا تعلم بِهِ زوجته، ولا غيرها([20]).

4) القراءة في سير الصالحين المخلصين؛ فإن لذلك أثراً معروفاً.

5) التوبة سريعاً إذا حصل هتكٌ لستر الخلوات: يقول الربيع بن خثيم رحمه الله موصياً تلاميذه: "السرائر السرائر اللاتي يخفين على الناس وهي عند الله بواد؛ التمسوا دواءهن! قيل: وما دواؤهن؟ قال: أن تتوب ثم لا تعود"([21]).

ختاماً أيها المسلمون .. يقول بعضُ السلف: "إذا كانت سريرةُ الرجل أفضل من علانيته فذلك الفضل، وإذا كانت سريرة الرجل وعلانيته سواء فذلك النصف، وإذا كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور"([22]).

اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، واجعلنا ممن رُزق الخوف من مقامك يوم نلقاك.. اللهم املأ قلوبنا خشيةً تحول بها بيننا وبين معاصيك، ويقيناً يعلقنا برضوانك وجنتك، ويزهّدنا بمعصيتك يا رب العالمين.


([1]) ألقيت في 13/5/1435هـ.

([2]) الزهد لأبي داود (ص: 122).

([3]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (14/ 464) .

([4]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 330) ، وينظر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك (2/ 51).

([5]) تاريخ الإسلام (4/ 290) .

([6]) ينظر: بدائع الفوائد (3/ 192).

([7]) ينظر: طريق الهجرتين (ص: 25).

([8]) البخاري ح(660) مسلم ح(1031).

([9]) الجواب الكافي (ص: 235).

([10]) البخاري ح(660) مسلم ح(1031).

([11]) روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 439).

([12]) زاد المعاد (3/ 376).

([13]) حلية الأولياء (9/ 394).

([14]) البخاري ح(1149) مسلم ح(2458).

([15]) شرح ابن بطال لصحيح البخاري (3/ 143).

([16]) صيد الخاطر (ص: 220)، وتنظر قصة مؤثرة تدل على هذا المعنى في رفعة العبد عند الله في الدنيا بصلاحه، في "ترتيب المدارك" (3/ 89) في ترجمة البهلول بن راشد.

([17]) "الزهد" لأحمد (ص: 194).

([18]) قاله ابن القيم رحمه الله في "التبيان في أقسام القرآن" (ص: 105).

([19]) ترتيب المدارك وتقريب المسالك (2/ 51) ، وينظر تعليق حسنٌ لشيخنا العثيمين رحمه الله في مجموع فتاويه (5/ 238).

([20]) تهذيب الكمال (14/ 464) .

([21]) الزهد لأحمد (ص: 271).

([22]) شعب الإيمان (9/ 228).

د. عمر بن عبد الله المقبل
الموقع الرسمى للدكتور عمر بن عبد الله المقبل


أعمال صالحات في الخلوات

أعمال صالحات في الخلوات([1])

الخطبة الأولى


الحمد لله الذي عرّف عباده بما شاء من أسمائه وصفاته، وأطلعهم على ما أراد من حقائق ألوهيته وربوبيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ملأ قلوبَ من شاء عباده بمعرفته المثمرة لخشيته، وأشهد أن نبينا وإمامنا محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خليقته، صلى الله عليه، وعلى آله وصحابته، صلاةً وسلاماً دائمَين بدوام فضله ورحمته، أما بعد:

فلئن كانت ذنوب الخلوات من أعظم مفسدات القلب؛ فإن الأعمال الصالحات في الخلوات من أعظم أسباب صلاحه، ولهذا كان السلف يوصون ويتواصون بهذا النوع من الأعمال.

يقول الزبير رضي الله عنه: من استطاع أن تكون له خبيئةٌ مِنْ عملٍ صالحٍ فليفعل([2]).

ويقول عبدالله بن داود الخريبي: كانوا يستحبون أَن يَكُون للرجل خبيئة من عمل صَالِح لا تعلم بِهِ زوجته، ولا غيرها([3]).

وكان السلف يثنون على الرجل بهذه الخصلة العزيزة النادرة، فهذا ابن المبارك يذكر الإمام مالك -رحمة الله عليهما- فيقول: ما رأيت رجلاً ارتفع مثل مالك بن أنس! ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أن تكون له سريرة([4]).

وسئل ابن المبارك عن إبراهيم بن أدهم؟ فقال: له فضل في نفسه، صاحب سرائر([5]).

أيها المسلمون:

إن أعمال السر الصالحة ترجمةٌ حقيقية للعبودية الباطنة؛ ذلك أن العبدَ عليه عبوديتان: عبوديةٌ باطنةٌ، وعبوديةٌ ظاهرة، وقيامُ الإنسان بالعبودية الظاهرة مع تعرّيه عن حقيقة العبودية الباطنة لا يقربّه إلى ربه، ولا يوجب له الثواب وقبول العمل؛ فإن المقصود امتحان القلوب وابتلاء السرائر، فعمل القلب هو روح العبودية ولبّها، فإذا خلا عملُ الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح. ا.هـ([6]).

وإذا كان هذا هو موقع أعمال القلوب؛ فخليق بالمؤمن أن يكون له نصيب منها، ومن تلك الأعمال:


1) بل من أجلها، وعنها تثمر عبادات كثيرة: التعبد لله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، خاصة تلك التي تدل على سعة العلم والاطلاع والخبرة -كالعليم، والسميع، والبصير، والباطن، والقريب، وغيرها- فالعبدُ حين يتعبد لله بها يتذكر إِحاطة الله بالعوالم كلها، ويستشعر قربَ الله منه، وأن ما أخفاه فهو ظاهر معلوم كله لله سبحانه، وأنه لا يخفى عليه شيء من سريرته، فإن هذا يُعيْن العبد على تطهير سريرته، التي هي عند الله علانية، ويُصلِح له غيبته فإِنها عند الله شهادة، ويزكِّي باطنه؛ فإِنه عند الله ظاهر([7]).

ومن جملة الأمثلة التطبيقية لهذا المعنى: ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله عن أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظلّه: "ورجلٌ ذَكرَ الله خالياً ففاضت عيناه"([8])، تفيض عيناه إما محبةً وشوقاً إلى لقاء الله، أو تفيض خوفاً من المقام بين يديه سبحانه إذا تحرك داعي المعصية.

2) ومن عبادات السرائر: مناجاة الله والتضرع إليه، خصوصاً في الأسحار، ووقت هجوع العيون، فهذا القرآن يحدثنا عن أهل الجنة: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 17، 18].

3) ومن أجلّ الأعمال التي يتحرك بها القلب في حال الخلوات: محبّة الله عز وجل، "فهذه المحبة هي التي تلطّف وتخفِّف أثقال التكاليف، وتروّضُ النفس، وتطيبُ الحياة على الحقيقة، وهذه المحبة هي التي تنّور الوجه، وتشرح الصدر، وتحيي القلب"([9]).

4) ومن عبادات الخلوات: صدقة السرّ، التي يجتهد العبدُ في إخفائها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمنيه"([10])، كان زين العابدين يَعوْل عشرات البيوت في المدينة، ويوصل الصدقة لهم ليلاً، فلم يُعرف ذلك عنه إلا بعد موته؛ من سوادٍ وجدوه في ظهره عند التغسيل.

5) ومن أجلّ عبادات الخلوات: الإخلاص لله تعالى، يقول أبو سليمان الداراني -رحمه الله- لما سئل عن أقرب أحوال العبد من الله؟ فقال: "أن يطّلع على قلبك وأنت لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو"!([11]) "فالمعوَّل على السرائر، والمقاصد، والنيات، والهمم؛ فهي الإكسير الذي يقلب نحاس الأعمال ذهباً، أو يردها خبثاً"([12]).

6) ويتبع هذا: كراهيتك لاطلاع الناس على سريرة عملٍ بينك وبين الله، قال بعض السلف: "ثلاثة من أعلام الصدق: ملازمة الصادقين، والسكون عند نظر المنفوسين، ووجدان الكراهة لاطلاع الخلق على السرائر"([13]).

أيها المسلمون! إن مَن وُفّق لعبادات الخلوات؛ فسيجني ثمراتها في الدنيا والآخرة، فمن هذه الثمرات:

1) أنها أحد أسباب دخول الجنة: ففي قصة بلال رضي الله عنه، لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "حدثنى بأرجى عمل عملتَه في الإسلام؟" فإني سمعت دفّ نعليك بين يدي في الجنة! قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهورا في ساعةِ ليلٍ أو نهارٍ إلا صليتُ بذلك الطهور ما كُتب لي أن أصلى([14])، "ففيه دليل أن الله يعظم المجازاة على ما ستر العبد بينه وبين ربه، مما لا يطّلع عليه أحد، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف عمل بلالٍ حتى سأله عنه"([15]).

2) أن أعمال الخلوات من أسباب حسن الختام: فإذا كانت دسائس السوء -والعياذ بالله- سبباً في سوء الختام، كما ثبت في قصة الذي كان يقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأَخبر أنه من أهل النار؛ لدسيسة سوء في قلبه، فإن السرائر الصالحة من أسباب حسن الخاتمة، نسأل الله من فضله.

3) ومن ثمراتها الجليلة: أنها علامة على أن العبد ممن وفّق للإخلاص، الذي هو من أعظم أسباب النجاة يوم القيامة، والمخلِصون هم أسعد الناس بشفاعته صلى الله عليه وسلم.

ومن المؤكد أن العامل إذا اعتاد على أعمال الخفاء ما أمكن؛ فإنه يتربى على الراحة من مجاهدة نفسه على الإخلاص، فيبقى عليه مجاهدتها على دفع العُجب، ومن استعان بربه كفاه وآواه.

4) أنها سبب للرفعة وحسن الذِّكر في الدنيا: قال ابن الجوزي رحمه الله: "والله! لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت، ويتخشع في نفسه ولباسه، والقلوب تنبو عنه! وقدْره في النفوس ليس بذاك! ورأيتُ من يلبس فاخر الثياب، وليس له كبير نفل، ولا تخشع، والقلوب تتهافت على محبته، فتدبرت السبب، فوجدته السريرة! فمن أصلح سريرته فاح عبيرُ فضله، وعبقت القلوبُ بنشر طيبه، فالله الله في السرائر؛ فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر"([16]).

5) أنها من أمارات صدق العبودية: يقول مطرّف رحمه الله: إذا استوت سريرةُ العبد وعلانيته قال الله عز وجل: «هذا عبدي حقاً»([17]).

6) ومنها: أن أعمال الخلوات: من أسباب الرفعة والنجاة يوم القيامة: تأمل في قوله تعالى: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)[الطارق: 9]، "وفي التعبير عن الأعمال بالسر لطيفة؛ وهو أن الأعمال نتائج السرائر الباطنة، فمن كانت سريرتُه صالحة كان عملُه صالحاً، فتبدو سريرته على وجهه نوراً وإشراقاً وحياء، ومن كانت سريرته فاسدة كان عمله تابعاً لسريرته، لا اعتبار بصورته؛ فتبدو سريرته على وجهه سواداً وظلمة وشَيناً، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته ويكون الحكم والظهور لها"([18]).

يقول الإمام مالك رحمه الله: مَن أحب أن يَفْتَحَ له فُرجةً في قلبه، وينجو من غمرات الموت، وأهوال يوم القيامة؛ فليكن في عمله في السر أكثر منه في العلانية ([19])، وتأمل في قائل هذه الكلمة، إنه الإمام مالك الذي أثنى عليه ابنُ المبارك بأن مالكاً كان صاحب سريرة.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...


الخطبة الثانية


الحمد لله ... أما بعد:

فإن الإنسان الناصح لنفسه، حين يسمع ثمرات عبادات السر؛ فخليق به أن يجتهد في البحث عن الأسباب التي تعينه عليها، ولعل من أبرزها:


1) تقوية العلم بالله وبأسمائه وصفاته: قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر: 28]، فكلما زاد العلم المبارك المُزكّى، فينبغي أن يكون أثَرُه أكثر، خصوصاً في حال الخلوة.

2) الدعاء: فما دُعي رب العزة بمثل سؤال الله تعالى الإعانة على ذِكره وإجلاله في الخلوات.

3) كتم ما يعمله الإنسان في السرّ ولو قلّ، قال عبدالله بن دَاوُد الخريبي: كَانُوا يستحبون أَن يَكُون للرجل خبيئة من عمل صَالِح لا تعلم بِهِ زوجته، ولا غيرها([20]).

4) القراءة في سير الصالحين المخلصين؛ فإن لذلك أثراً معروفاً.

5) التوبة سريعاً إذا حصل هتكٌ لستر الخلوات: يقول الربيع بن خثيم رحمه الله موصياً تلاميذه: "السرائر السرائر اللاتي يخفين على الناس وهي عند الله بواد؛ التمسوا دواءهن! قيل: وما دواؤهن؟ قال: أن تتوب ثم لا تعود"([21]).

ختاماً أيها المسلمون .. يقول بعضُ السلف: "إذا كانت سريرةُ الرجل أفضل من علانيته فذلك الفضل، وإذا كانت سريرة الرجل وعلانيته سواء فذلك النصف، وإذا كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور"([22]).

اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، واجعلنا ممن رُزق الخوف من مقامك يوم نلقاك.. اللهم املأ قلوبنا خشيةً تحول بها بيننا وبين معاصيك، ويقيناً يعلقنا برضوانك وجنتك، ويزهّدنا بمعصيتك يا رب العالمين.


([1]) ألقيت في 13/5/1435هـ.

([2]) الزهد لأبي داود (ص: 122).

([3]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (14/ 464) .

([4]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 330) ، وينظر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك (2/ 51).

([5]) تاريخ الإسلام (4/ 290) .

([6]) ينظر: بدائع الفوائد (3/ 192).

([7]) ينظر: طريق الهجرتين (ص: 25).

([8]) البخاري ح(660) مسلم ح(1031).

([9]) الجواب الكافي (ص: 235).

([10]) البخاري ح(660) مسلم ح(1031).

([11]) روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 439).

([12]) زاد المعاد (3/ 376).

([13]) حلية الأولياء (9/ 394).

([14]) البخاري ح(1149) مسلم ح(2458).

([15]) شرح ابن بطال لصحيح البخاري (3/ 143).

([16]) صيد الخاطر (ص: 220)، وتنظر قصة مؤثرة تدل على هذا المعنى في رفعة العبد عند الله في الدنيا بصلاحه، في "ترتيب المدارك" (3/ 89) في ترجمة البهلول بن راشد.

([17]) "الزهد" لأحمد (ص: 194).

([18]) قاله ابن القيم رحمه الله في "التبيان في أقسام القرآن" (ص: 105).

([19]) ترتيب المدارك وتقريب المسالك (2/ 51) ، وينظر تعليق حسنٌ لشيخنا العثيمين رحمه الله في مجموع فتاويه (5/ 238).

([20]) تهذيب الكمال (14/ 464) .

([21]) الزهد لأحمد (ص: 271).

([22]) شعب الإيمان (9/ 228).

د. عمر بن عبد الله المقبل
الموقع الرسمى للدكتور عمر بن عبد الله المقبل


قصة أهل الكهف قصص من القرآن الكريم للأطفال

قصة أهل الكهف قصص من القرآن الكريم للأطفال

الخوف يحكم المدينة ، وكأن الناس يغمسون خبزهم في الجبن ويأكون ، اما الهمس الذي يدور بين جدران البيوت ، فكان يتردد مرتعش الشفين ثم يذوب في أصداء الصمت ، ألا تعرفون كم صلب الملك حتى الآن ، ألا تعرفون كم قتل ؟

لقد أقسم أمام تمثال كبير الآلهة أن يقتل كل من يدخل الدين الجديد ، الدين الذي يؤمن بإله واحد ويؤمن ببعث الموتى وقيامهم للحساب ، كانت الأحاديث تدور همسا في المدينة ، وكان النظام الحاكم يؤن بالأوثان والأصنام والآلهة المتعددة ، وأعتبر الملك دخول الناس في دين التوحيد خيانة تمثل خطرا على أمن المملكة ، ومن ثم فقد أصدر أوارمره لعيونه وأتباعة أن يقبضوا على كل من يشكون في انتمائه للدين الجديد .

وهكذا بدأت المطاردة بين المؤمنين والكافرين ، كان عدد المؤمنين قليل جدا وعدد الكافرين أغلبية ، ووقف الملك أمام تمثال كبير الأصنام وأشار إلى رجلين معلقين وقال :

هذا جزاء من يخرج على عبادة الهتنا ، القتل أصدر أوامره إلى أتباعة أن يتعقبوا المؤمنين ، فلن يستريح الملك حتى يراهم جميعا ، وقد وصلوا غلى جدران قصره ، تسربت أخبار مطاردة المؤمنين إلى المدينة وعرف الناس جميعا حجم الأخطار التي تهدد المؤمنين ، ووصل الخبر إلى المؤمنين فاجتمعوا في بيت احدهم ، واغلقوا الباب جيدا وأضاءوا شعة لتبديد الظلام ودار بينهم حوار هامس ، قال احدهم ، ماذا نفعل ؟

قال الثاني ، يجب أن نتحرك بسرعة إن الدائرة ضيق حولنا ، وليس أمامنا إلا أر من اثنين ، إما أن نهرب بديننا ، أو نستسلم لعذاب الملك ومحاولات اعادتنا في ملته .

انغمس المؤمنون في حوار سريع ، كانت فكرة بقائهم في المدينة وتعريض دينهم للخطر تبدوا فكرة مستحيلة ، ومن ثم استقر عزمهم على تحذير بقية المؤمنين والخروج جميعا من المدينة ، الى الجبال القريبة .

قال أحدهم وكان راعيا ، أعرف كهوفا في الجبل لا يستطيع جنود الملك أن يعثروا عليها ولو أفنةا عمرهم في البحث ، استقر رأي المؤمنين النهائي على الخروج ، كان إيمانهم بالله وحرصهم على عقيدة التوحيد أغلى من بقائهم في بيوتهم وأهم من ظروف الحياة الطبيعية المعتادة .

ووقف كلب الراعي جوار الباب ، وقد أرهف أذنيه لأي صوت غريب ثم وقف الكلب فجأة ونبح يحذرهم من جنود قادمين ، قال احدهم ، ان الكلب يحذرنا من شيء ، ماذا نفعل الآن وكيف نتصرف ، قال صاحب البيت ، ان لهذا البيت بابا سريا يقود إلى الجبال ، قال الراعي ، لنسرع الآن إن الكلب يحس بالذئب ، حين يظهر عند الأفق ولا ريب أن لنباحة الآن معنى لنخرج على الفور .

وسار المؤمنون طويلا في الخلاء حتى وصلوا الى الجبال ، وبدأ الراعي يتقدمهم في طريق مهجور لا يعرفه احد سواه ، اخيرا وصلوا الى كهف في الجبل ، اقاموا الصلاة حين وصلوا الى الكهف ودعوا الله قائلين :

” ربنا اتنا من لدنك رحمة وهييء لنا من امرنا رشدا ”

وهكذا اسلموا امرهم لله واختار كل واحد منهم ركنا في الكهف ، وتزايد احساسهم بالتعب ، وكان سيرهم الطويل قد ارهقهم فهاجمهم نعاس ثقيل ، ولم تمض لحظات حتى كانوا جميعا قد استغرقوا في النوم داخل الكهف ، وقف الكلب على باب الكهف يقوم بمهمة الحراسة ، ثم بسط ذراعية عند فتحة الكهف واستسلم للنعاس هو الاخر واشتد الظلام ومر الوقت .

نشر الله بارك وتعالى من رحمتة على الكهف ، وقعت للفتية المؤمنين ثلاث معجزات وهم راقدون في فجوة منه ، المعجزة الاولى ان الله ضرب على آذانهم فما عادوا يسمعون صوتا ولا حسا ، وهكذا حيل بينهم وبين الصوت .

وفي غياب الصةت والضوء استمر نومهم سنوات ، كانت المعجزة الثالثة التي وقعت لهم انهم المعجزة ظلوا نائمين سنوات وراء سنوات ، حتى مر القرن الاول ، والثاني والثالث ، ثم انقضت تسع سنوات بعد القرون الثلاثة .

وخلال هذا النوم المعجزة كانوا يتقلبون في نومهم ، وخلال هذا كله طالت لحاهم واظافرهم حتى بدا منظرهم مخيفا ، ” لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرار ولمئت منهم رعبا ”

بعد مرور 309 سنوات ، شاء الله تعالى ان يقوظهم فقاموا ، استيقظ اصحاب الكهف من نومهم يحسون بالجوع الذي يحسه المرء عادة بعد نوم طويل ، لم يعرفوا كم مكثوا نائمين ، دار الجوار بينهم ، سأل أحدهم ، كم لبثنا ؟

قال الراعي ، لبثنا يوما أو بعض يوم ، دار الحوار بينهم عن المدة التي قضوها نائمين ، وحل أحدهم القضية بقوله ، ربكم أعلم بما لبثتم أحس المؤمنون بالجوع ، اتفق رأيهم على أن يبعثوا الراعي بنقودهم إلى المدينة لشراء طعام لهم ، وأوصوه أن يكون حذرا حتى لا يفتضح أمرهم .

وخرج الراعي ووقف في الضوء ، أمام باب الكهف ، ضيق من حدقتي عينية أمام الشمس وصلى صلاة قصيرة قبل أن يبدأ طريقه هابطا نحو المدينة.

كانت لحيته قد طالت ولم يكن قد لاحظ ذلك من فرط انشغاله بدواعي الخوف ، من اكتشاف امره ، سار الراعى وكلبه يتقدمه حتى وصل الى السوق في المدينة ، لم يجد السوق في مكانه وعثر على السوق في مكان أخر ، لاحظ الراعي ايضا أن المدينة قد تغيرت كثيرا ، ان قصورا كان يعرفها قد صارت خراب ، وخرائب وكان يرعى فيها اغنامه قد صارت قصورا ، ادهشة ذلك كثيرا كيف تتغير المدينة من يوم وليلة ، اخرج الراعي نقوده في السوق ودفعها ثمنا للطعام له وللفتية .

لم يكد البائع يتأمل النقود حتى قال هذة نقود اثرية ، هذة عمله مضى عليها اكثر من ثلاثة قرون احس الراعي بالدهشة الكبيرة ، وتحلق الناس من حوله وراحوا يتأملون لحيته التي تصل لقدمية واظافره الطويلة ، كما راحوا يتأملون كلبه الذي طال شعره هو الآخر ، وأدرك الراعي أن أمره قد اكتشف وفكر أن يستدير ويسرع بالهروب لكن السوق كله يسجنه وسط اظار مركزة تمتلىء بالدهشة ، واقبل جند الملك على الضجيج ، قاد الجند الراعي الى الملك سأله الملك ، من اين احضرت هذة النقود ايها الراعي لطيب ؟

قال الراعي ، هذة نقودنا يا سيدي لقد خرجنا بالامس واختبأنا في الكهف فرارا بديننا ، سأل الملك أيها الراعي المؤمن لماذا تفرون بدينكم ونحن جميعا نعبد الها واحد ، ونحن له مسلمون ، قال الراعي لم يكن هذا هو الوضع امس ، سأل الملك ، يا الهي أتكونون انتم اشراف هذه الأمة الذين فروا بدينهم من الطاغية ن اكثر من ثلاثة قرون ، هذه معجزة ، أين أنتم أيها المباركون الأولياء ، أين أنتم أيها المؤمنون ؟

قال الراعي ، نحن في كهف غائر في الجبال القريبة ، قال الملك ، أذهب معك بنفسي ، اطمأن الراعي إلى أن النظام القاسي الذي خرجوا فرارا منه قد سقط وجاء بدلا منه نظام مؤمن ، تقدم الراعي ، والملك ووزراءه حتى وصل الى الكهف ، وهنا خرج الفية المؤمنون وانحنى أمامهم الملك ووزراؤه ، وكانوا ينحنون خشوعا أمام المعجزة الخارقة التي وقعت لهم في الكهف في البداية لم يدرك أصحاب الكهف ما وقع لهم ، تساءل أحدهم من يكون هؤلاء ؟

قال الراعي ، هؤلاء هم الملك الجديد للمملكة ووزراؤه ، سأل أحدهم ، لماذا يركعون لنا قال الراعي انهم يقولون اننا مباركون لاننا فررنا بديننا منذ اكثر من ثلاثمائة سنه ، سأل أحدهم لعلهم لا يسخرون منا ، قال الملك ، نحن لا نسخر منكم أيها الباركون لقد لكم ايه من ايات الله ، ووقعت لهذا البلد اية من أيات الله .

سأل أهل الكهف ، حدثنا عما وقع لنا ، لقد دخلنا هذا الكهف بالأمس ونمنا فيه مرهقين من الرحلة ، كيف تقول إننا فيه مرهقين من الرحلة ، كيف تقول إننا نمنا أكثر من ثلاثمائه سنة ، قال الملك لقد نمتم ثلاثة مائه سنة وتسع سنوات وهذة هي الأية الي وقعت لكم ، اما الاية التي وقعت لهذا البلد الذي فررتم منه فغنني امثلها لكم ، لقد تغير النظام الوثني الذي كان يحكم ، وجاء بدلا منه نظام مؤمن ، نحن الان نعبد الله تعالى لا الأوثان ، وما فررتم منه قديما لم يعد قائما الآن .

ومع الوقت ادرك اصحاب الكهف ما وقع لهم ، كان ما وقع لهم كرامة لهم ومعجزة لقومهم وعجيبة من عجائب القدرة الخالقة العظمة ، ادركوا أن وعد الله حق وادركوا أن أعداء الله تعالى قد ذهبوا بلا أثر ، وادركوا أن الله يبعث النيام والموتى بمجرد الأمر ، ادركوا أن الله حماهم حين حموا عقيدتهم وانه سبحانه دافع عنهم حين دافعوا عن التوحيد ، وادركوا ايضا انه لم يعد لهم مكان في التاريخ لقد ذهب اهلهم واقاربهم وزمنهم ، وصاروا من جيل لم يعد يربطه بالحياة شيء وتمنوا العودة الى الله ورحمهم الله فماتوا ، وقال اهل المدينة ” لنتخذن عليهم مسجدا “


قصة أهل الكهف قصص من القرآن الكريم للأطفال

قصة أهل الكهف قصص من القرآن الكريم للأطفال

الخوف يحكم المدينة ، وكأن الناس يغمسون خبزهم في الجبن ويأكون ، اما الهمس الذي يدور بين جدران البيوت ، فكان يتردد مرتعش الشفين ثم يذوب في أصداء الصمت ، ألا تعرفون كم صلب الملك حتى الآن ، ألا تعرفون كم قتل ؟

لقد أقسم أمام تمثال كبير الآلهة أن يقتل كل من يدخل الدين الجديد ، الدين الذي يؤمن بإله واحد ويؤمن ببعث الموتى وقيامهم للحساب ، كانت الأحاديث تدور همسا في المدينة ، وكان النظام الحاكم يؤن بالأوثان والأصنام والآلهة المتعددة ، وأعتبر الملك دخول الناس في دين التوحيد خيانة تمثل خطرا على أمن المملكة ، ومن ثم فقد أصدر أوارمره لعيونه وأتباعة أن يقبضوا على كل من يشكون في انتمائه للدين الجديد .

وهكذا بدأت المطاردة بين المؤمنين والكافرين ، كان عدد المؤمنين قليل جدا وعدد الكافرين أغلبية ، ووقف الملك أمام تمثال كبير الأصنام وأشار إلى رجلين معلقين وقال :

هذا جزاء من يخرج على عبادة الهتنا ، القتل أصدر أوامره إلى أتباعة أن يتعقبوا المؤمنين ، فلن يستريح الملك حتى يراهم جميعا ، وقد وصلوا غلى جدران قصره ، تسربت أخبار مطاردة المؤمنين إلى المدينة وعرف الناس جميعا حجم الأخطار التي تهدد المؤمنين ، ووصل الخبر إلى المؤمنين فاجتمعوا في بيت احدهم ، واغلقوا الباب جيدا وأضاءوا شعة لتبديد الظلام ودار بينهم حوار هامس ، قال احدهم ، ماذا نفعل ؟

قال الثاني ، يجب أن نتحرك بسرعة إن الدائرة ضيق حولنا ، وليس أمامنا إلا أر من اثنين ، إما أن نهرب بديننا ، أو نستسلم لعذاب الملك ومحاولات اعادتنا في ملته .

انغمس المؤمنون في حوار سريع ، كانت فكرة بقائهم في المدينة وتعريض دينهم للخطر تبدوا فكرة مستحيلة ، ومن ثم استقر عزمهم على تحذير بقية المؤمنين والخروج جميعا من المدينة ، الى الجبال القريبة .

قال أحدهم وكان راعيا ، أعرف كهوفا في الجبل لا يستطيع جنود الملك أن يعثروا عليها ولو أفنةا عمرهم في البحث ، استقر رأي المؤمنين النهائي على الخروج ، كان إيمانهم بالله وحرصهم على عقيدة التوحيد أغلى من بقائهم في بيوتهم وأهم من ظروف الحياة الطبيعية المعتادة .

ووقف كلب الراعي جوار الباب ، وقد أرهف أذنيه لأي صوت غريب ثم وقف الكلب فجأة ونبح يحذرهم من جنود قادمين ، قال احدهم ، ان الكلب يحذرنا من شيء ، ماذا نفعل الآن وكيف نتصرف ، قال صاحب البيت ، ان لهذا البيت بابا سريا يقود إلى الجبال ، قال الراعي ، لنسرع الآن إن الكلب يحس بالذئب ، حين يظهر عند الأفق ولا ريب أن لنباحة الآن معنى لنخرج على الفور .

وسار المؤمنون طويلا في الخلاء حتى وصلوا الى الجبال ، وبدأ الراعي يتقدمهم في طريق مهجور لا يعرفه احد سواه ، اخيرا وصلوا الى كهف في الجبل ، اقاموا الصلاة حين وصلوا الى الكهف ودعوا الله قائلين :

” ربنا اتنا من لدنك رحمة وهييء لنا من امرنا رشدا ”

وهكذا اسلموا امرهم لله واختار كل واحد منهم ركنا في الكهف ، وتزايد احساسهم بالتعب ، وكان سيرهم الطويل قد ارهقهم فهاجمهم نعاس ثقيل ، ولم تمض لحظات حتى كانوا جميعا قد استغرقوا في النوم داخل الكهف ، وقف الكلب على باب الكهف يقوم بمهمة الحراسة ، ثم بسط ذراعية عند فتحة الكهف واستسلم للنعاس هو الاخر واشتد الظلام ومر الوقت .

نشر الله بارك وتعالى من رحمتة على الكهف ، وقعت للفتية المؤمنين ثلاث معجزات وهم راقدون في فجوة منه ، المعجزة الاولى ان الله ضرب على آذانهم فما عادوا يسمعون صوتا ولا حسا ، وهكذا حيل بينهم وبين الصوت .

وفي غياب الصةت والضوء استمر نومهم سنوات ، كانت المعجزة الثالثة التي وقعت لهم انهم المعجزة ظلوا نائمين سنوات وراء سنوات ، حتى مر القرن الاول ، والثاني والثالث ، ثم انقضت تسع سنوات بعد القرون الثلاثة .

وخلال هذا النوم المعجزة كانوا يتقلبون في نومهم ، وخلال هذا كله طالت لحاهم واظافرهم حتى بدا منظرهم مخيفا ، ” لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرار ولمئت منهم رعبا ”

بعد مرور 309 سنوات ، شاء الله تعالى ان يقوظهم فقاموا ، استيقظ اصحاب الكهف من نومهم يحسون بالجوع الذي يحسه المرء عادة بعد نوم طويل ، لم يعرفوا كم مكثوا نائمين ، دار الجوار بينهم ، سأل أحدهم ، كم لبثنا ؟

قال الراعي ، لبثنا يوما أو بعض يوم ، دار الحوار بينهم عن المدة التي قضوها نائمين ، وحل أحدهم القضية بقوله ، ربكم أعلم بما لبثتم أحس المؤمنون بالجوع ، اتفق رأيهم على أن يبعثوا الراعي بنقودهم إلى المدينة لشراء طعام لهم ، وأوصوه أن يكون حذرا حتى لا يفتضح أمرهم .

وخرج الراعي ووقف في الضوء ، أمام باب الكهف ، ضيق من حدقتي عينية أمام الشمس وصلى صلاة قصيرة قبل أن يبدأ طريقه هابطا نحو المدينة.

كانت لحيته قد طالت ولم يكن قد لاحظ ذلك من فرط انشغاله بدواعي الخوف ، من اكتشاف امره ، سار الراعى وكلبه يتقدمه حتى وصل الى السوق في المدينة ، لم يجد السوق في مكانه وعثر على السوق في مكان أخر ، لاحظ الراعي ايضا أن المدينة قد تغيرت كثيرا ، ان قصورا كان يعرفها قد صارت خراب ، وخرائب وكان يرعى فيها اغنامه قد صارت قصورا ، ادهشة ذلك كثيرا كيف تتغير المدينة من يوم وليلة ، اخرج الراعي نقوده في السوق ودفعها ثمنا للطعام له وللفتية .

لم يكد البائع يتأمل النقود حتى قال هذة نقود اثرية ، هذة عمله مضى عليها اكثر من ثلاثة قرون احس الراعي بالدهشة الكبيرة ، وتحلق الناس من حوله وراحوا يتأملون لحيته التي تصل لقدمية واظافره الطويلة ، كما راحوا يتأملون كلبه الذي طال شعره هو الآخر ، وأدرك الراعي أن أمره قد اكتشف وفكر أن يستدير ويسرع بالهروب لكن السوق كله يسجنه وسط اظار مركزة تمتلىء بالدهشة ، واقبل جند الملك على الضجيج ، قاد الجند الراعي الى الملك سأله الملك ، من اين احضرت هذة النقود ايها الراعي لطيب ؟

قال الراعي ، هذة نقودنا يا سيدي لقد خرجنا بالامس واختبأنا في الكهف فرارا بديننا ، سأل الملك أيها الراعي المؤمن لماذا تفرون بدينكم ونحن جميعا نعبد الها واحد ، ونحن له مسلمون ، قال الراعي لم يكن هذا هو الوضع امس ، سأل الملك ، يا الهي أتكونون انتم اشراف هذه الأمة الذين فروا بدينهم من الطاغية ن اكثر من ثلاثة قرون ، هذه معجزة ، أين أنتم أيها المباركون الأولياء ، أين أنتم أيها المؤمنون ؟

قال الراعي ، نحن في كهف غائر في الجبال القريبة ، قال الملك ، أذهب معك بنفسي ، اطمأن الراعي إلى أن النظام القاسي الذي خرجوا فرارا منه قد سقط وجاء بدلا منه نظام مؤمن ، تقدم الراعي ، والملك ووزراءه حتى وصل الى الكهف ، وهنا خرج الفية المؤمنون وانحنى أمامهم الملك ووزراؤه ، وكانوا ينحنون خشوعا أمام المعجزة الخارقة التي وقعت لهم في الكهف في البداية لم يدرك أصحاب الكهف ما وقع لهم ، تساءل أحدهم من يكون هؤلاء ؟

قال الراعي ، هؤلاء هم الملك الجديد للمملكة ووزراؤه ، سأل أحدهم ، لماذا يركعون لنا قال الراعي انهم يقولون اننا مباركون لاننا فررنا بديننا منذ اكثر من ثلاثمائة سنه ، سأل أحدهم لعلهم لا يسخرون منا ، قال الملك ، نحن لا نسخر منكم أيها الباركون لقد لكم ايه من ايات الله ، ووقعت لهذا البلد اية من أيات الله .

سأل أهل الكهف ، حدثنا عما وقع لنا ، لقد دخلنا هذا الكهف بالأمس ونمنا فيه مرهقين من الرحلة ، كيف تقول إننا فيه مرهقين من الرحلة ، كيف تقول إننا نمنا أكثر من ثلاثمائه سنة ، قال الملك لقد نمتم ثلاثة مائه سنة وتسع سنوات وهذة هي الأية الي وقعت لكم ، اما الاية التي وقعت لهذا البلد الذي فررتم منه فغنني امثلها لكم ، لقد تغير النظام الوثني الذي كان يحكم ، وجاء بدلا منه نظام مؤمن ، نحن الان نعبد الله تعالى لا الأوثان ، وما فررتم منه قديما لم يعد قائما الآن .

ومع الوقت ادرك اصحاب الكهف ما وقع لهم ، كان ما وقع لهم كرامة لهم ومعجزة لقومهم وعجيبة من عجائب القدرة الخالقة العظمة ، ادركوا أن وعد الله حق وادركوا أن أعداء الله تعالى قد ذهبوا بلا أثر ، وادركوا أن الله يبعث النيام والموتى بمجرد الأمر ، ادركوا أن الله حماهم حين حموا عقيدتهم وانه سبحانه دافع عنهم حين دافعوا عن التوحيد ، وادركوا ايضا انه لم يعد لهم مكان في التاريخ لقد ذهب اهلهم واقاربهم وزمنهم ، وصاروا من جيل لم يعد يربطه بالحياة شيء وتمنوا العودة الى الله ورحمهم الله فماتوا ، وقال اهل المدينة ” لنتخذن عليهم مسجدا “


الخميس، 30 يناير 2020

هل ينطبق حديث: الزم بيتك .... على زمننا هذا

هل ينطبق حديث: الزم بيتك .... على زمننا هذا

إلـزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة. رواه أحمد وأبوداود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

هذا إذا لم يوجد مصغ للخير ولا معين على الدعوة إليه، وأما من علم بانتفاع بعض الناس به، أو أمكنه التعاون مع غيره، فإنه لا تسوغ له العزلة، بل عليه مخالطة الناس والصبر على أذاهم، ولا يخفى أن هذا العصر لا تزال فيه بقية خير، فعلى المسلم اليوم أن ينضم إلى ركب الخير ودعاته، تعاوناً على البر والتقوى


فإنه لا ريب أن الدعوة إلى الله تعالى فريضة عظيمة وفضيلة وقربة إلى الله تعالى. قال سبحانه: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {آل عمران: 104}
وثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.. الحديث.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: بلغو عني ولو آية.رواه البخاري وغيره.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ليبلغ الشاهد منكم الغائب.. وهو في الصحيحين وغيرهما.
ويقول: إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير. رواه الترمذي.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه. أخرجه الإمام مسلم.

إسلام ويب


.................................


إذا رغب البعض العزلة من أجل قضاء الوقت في العبادة فليعلموا أن حضورَ مجالس العلم إفادةً وعيادة المريض عبادة، والقيام بحقوق الإخوان عبادة، وإرشاد الناس عبادة، ومدَّ يد العون عبادة


وان المؤمن محتاج مخالطة الصالحين للتقويم المستمر { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ }

{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً } .

من هنا نعلم :

- أن الإنسان لا يستغني من غيره ولا يستغني من صديق صادق صالح .

- إذا يأتي دور المجالسة الدائمة والهادفة .

- و يجب علينا الاختيار الصائب .

- لأن مجالسة الصالحين من عباد الله سبيل إلى الالتزام ومن ثم سبيل إلى المكث تحت عرشه ثم إلى الجنة .



حينما يكون الحثُّ على الجماعة والاجتمَاع فليس المقصود من ذلك صرفَ جميع الأوقات في التردّد على البيوت وغشيان جميع المجالس، فالحقّ أنّ كلَّ إنسان محتاجٌ لأوقات يخلو فيها بنفسه؛ ليقوم بواجبٍ خاص، أو يتقرَّب بنافلة، أو يقضيَ مصلحة، وفي مثل هذا يقول عمر - رضي الله عنه -: (خذوا حظّكم من العزلة). فالمسلك العدلُ والمنهج الوسط في تقسيم المسلم وقتَه بين خلطةٍ حسنة وخلوةٍ نافعة؛ ليخرج من الحالين بما يصلح به الشأن كلّه.



فاتقوا الله رحمكم الله، وأصلحوا ذاتَ بينكم، واحفظوا حقوقَ إخوانكم، واحرصوا على الجماعة والألفَة، ولا تتجشَّموا التكلّف، وأخلصوا في الودّ، واحفظوا العهد، فلقد قال الفضيل - رحمه الله -: (إنما تقاطَع الناس بالتكلّف، يزور أحدهم أخاه فيتكلّف له، فيقطعه ذلك عنه)، واحفظوا كلمةَ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين قال: (لا تظنَّ بكلمة خرجت من مسلم شراً وأنت تجدُ لها في الخير محملا).

قد روى أصحاب السنن عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم

هذا وصلوا وسلموا على خير البرية نبيكم محمد رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].


شبكة مشكاة الأسلامية


هل ينطبق حديث: الزم بيتك .... على زمننا هذا

هل ينطبق حديث: الزم بيتك .... على زمننا هذا

إلـزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة. رواه أحمد وأبوداود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

هذا إذا لم يوجد مصغ للخير ولا معين على الدعوة إليه، وأما من علم بانتفاع بعض الناس به، أو أمكنه التعاون مع غيره، فإنه لا تسوغ له العزلة، بل عليه مخالطة الناس والصبر على أذاهم، ولا يخفى أن هذا العصر لا تزال فيه بقية خير، فعلى المسلم اليوم أن ينضم إلى ركب الخير ودعاته، تعاوناً على البر والتقوى


فإنه لا ريب أن الدعوة إلى الله تعالى فريضة عظيمة وفضيلة وقربة إلى الله تعالى. قال سبحانه: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {آل عمران: 104}
وثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.. الحديث.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: بلغو عني ولو آية.رواه البخاري وغيره.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ليبلغ الشاهد منكم الغائب.. وهو في الصحيحين وغيرهما.
ويقول: إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير. رواه الترمذي.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه. أخرجه الإمام مسلم.

إسلام ويب


.................................


إذا رغب البعض العزلة من أجل قضاء الوقت في العبادة فليعلموا أن حضورَ مجالس العلم إفادةً وعيادة المريض عبادة، والقيام بحقوق الإخوان عبادة، وإرشاد الناس عبادة، ومدَّ يد العون عبادة


وان المؤمن محتاج مخالطة الصالحين للتقويم المستمر { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ }

{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً } .

من هنا نعلم :

- أن الإنسان لا يستغني من غيره ولا يستغني من صديق صادق صالح .

- إذا يأتي دور المجالسة الدائمة والهادفة .

- و يجب علينا الاختيار الصائب .

- لأن مجالسة الصالحين من عباد الله سبيل إلى الالتزام ومن ثم سبيل إلى المكث تحت عرشه ثم إلى الجنة .



حينما يكون الحثُّ على الجماعة والاجتمَاع فليس المقصود من ذلك صرفَ جميع الأوقات في التردّد على البيوت وغشيان جميع المجالس، فالحقّ أنّ كلَّ إنسان محتاجٌ لأوقات يخلو فيها بنفسه؛ ليقوم بواجبٍ خاص، أو يتقرَّب بنافلة، أو يقضيَ مصلحة، وفي مثل هذا يقول عمر - رضي الله عنه -: (خذوا حظّكم من العزلة). فالمسلك العدلُ والمنهج الوسط في تقسيم المسلم وقتَه بين خلطةٍ حسنة وخلوةٍ نافعة؛ ليخرج من الحالين بما يصلح به الشأن كلّه.



فاتقوا الله رحمكم الله، وأصلحوا ذاتَ بينكم، واحفظوا حقوقَ إخوانكم، واحرصوا على الجماعة والألفَة، ولا تتجشَّموا التكلّف، وأخلصوا في الودّ، واحفظوا العهد، فلقد قال الفضيل - رحمه الله -: (إنما تقاطَع الناس بالتكلّف، يزور أحدهم أخاه فيتكلّف له، فيقطعه ذلك عنه)، واحفظوا كلمةَ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين قال: (لا تظنَّ بكلمة خرجت من مسلم شراً وأنت تجدُ لها في الخير محملا).

قد روى أصحاب السنن عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم

هذا وصلوا وسلموا على خير البرية نبيكم محمد رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].


شبكة مشكاة الأسلامية


الخشوع في الصلاة

*واقع مؤلم :
*نصلي بغرفة فيها ناس يتحدثون وتنتهي من صلاتك وقد عرفت كل ما دار في الغرفة من كلام وأحاديث جانبية؟؟؟*
*وفي المقابل حينما تكون مشغول بـ"الجوال" فقد لا تعي كلام أخيك الذي يخاطبك وهو بالقرب منك وتكون حينها في حالة خروج عن التغطية !!*
*أليست هذه حقيقة نعايشها؟*
*أما آن لنا أن نخشع في صلاتنا !؟!*
مما يدل على أهمية الخشوع كونه السبب الأهم لقبول الصلاة التي هي أعظم أركان الدين بعد الشهادتين، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن العبد لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها » .


الخشوع- أهميته وأثره:
إن الظواهر التي تظهر على الكثير من قسوة القلب، وقحط العين، وانعدام التدبر، هي بسبب المادية التي طغت على قلوبنا فأصبحت تشاركنا في عبادتنا، ولا يمكن للقلوب أن ترجع لحالتها الصحيحة حتى تتطهر من كل ما علق بها من أدران. فهذا هو أمير المؤمنين عثمان بن عفان- رضي الله عنه- يضع يده على الداء لهذه الظاهرة فيقول: "لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله عزّ وجلّ".

والخشوع الحق يطلق عليه الإمام ابن القيم (خشوع الإيمان) ويُعرَّف بأنه:
(خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرة مُلتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء، وشهود نعم الله، وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة فيتبعه خشوع الجوارح).

كما أن الخُشوع يُسهل فعل الصلاة ويُحببها إلى النفس، قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي- رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: { وإنَّها لكبيرةٌ إلاَّ على الخاشعين } [البقرة:45]: أي فإنها سهلة عليهم خفيفة، لأن الخشوع وخشية الله ورجاء ما عنده يوجب له فعلها منشرحاً بها صدره، لترقبه للثواب، وخشية من العقاب.

كما أن الخشوع هو العلم الحقيقي؛ قال ابن رجب-رحمه الله- في شرح حديث أبي الدرداء في فضل طلب العلم: رُوي عن عبادة بن الصامت وعوف بن مالك وحذيفة رضي الله عنهم أنهم قالوا: "أول علم يُرفع من الناس الخشوع حتى لا ترى خاشعاً". وساق أحاديث أخر في هذا المعنى، ثم قال: "ففي هذه الأحاديث أن ذهاب العلم بذهاب العمل، وأن الصحابة رضي الله عنهم فسّروا ذلك بذهاب العلم الباطن من القلوب والخشوع". وقد ساق محقق الكتاب للأثر السابق عدة طرق وقال: إنها يتقوى بها.

فالصلاة إذاً صلة بين العبد وربه، ينقطع فيها الإنسان عن شواغل الحياة، ويتجه بكيانه كله إلى ربه، يستمد منه الهداية والعون والتسديد، ويسأله الثبات على الصراط المستقيم، ولكن الناس يختلفون في هذه الصلاة، فمنهم من تزيده صلاته إقبالاً على الله تبارك وتعالى، ومنهم من لا تؤثر فيه صلاته إلى ذلك الحد الملموس، بل هو يؤديها بحركات وقراءة وذكر وتسبيح، ولكن من غير شعور كامل لما يفعل، ولا استحضار لما يقول. والصلاة التي يرديها الإسلام ليست مجرد أقوال يلوكها اللسان، وحركات تؤديها الجوارح، بلا تدبر من عقل، ولا خشوع من قلب. ففي سنن الترمذي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح ونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فرضته شيءٌ، قال الرب عزّ وجلّ: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة؟ ثم تكون سائر أعماله على هذا » .

ولما يعانيه كثير من الناس من قلة الخشوع في الصلاة، فقد رأينا أن نلتمس بعض الأسباب التي تعيدنا إلى الصلاة الحقيقية التي توثق صلتنا بربنا عزّ وجلّ وهي صلاة القلب والجوارح وتذللها لله تبارك وتعالى. وقد امتدح الله عزّ وجلّ أهل هذه الصفة من المؤمنين حيث قال تعالى: { قدْ أفلح المُؤمنون . الذين هُم في صلاتهم خاشعون } [المؤمنون:1-2].

ولعلنا بعد ما نقرأ قوله سبحانه وتعالى: { إنَّ الصَّلاة تنْهى عن الفحشاءِ والمُنكر } [العنكبوت:45]. نسأل أنفسنا ما بال الكثيرين منا يخرجون من صلاتهم، ثم يأتون بأفعال وأمور منكرة، شتان بينها وبين ما تتركه صلاة الخاشعين الأوابين من أثر على أصحابها، الذي يخرج أحدهم من صلاته وهو يُحس بأن كل صلاة تغسل ما في قلبه من أدران الدنيا وتقربه إلى الله عزّ وجلّ.

أسباب الخشوع:
إذاً فلا بد من أسباب لحصول الخشوع، ولا ريب أن هناك خللاً ونقصاً في أدائنا للصلاة، ولعلنا في هذه العجالة نستعرض بعض الأسباب المعينة- بإذن الله- على الخشوع في الصلاة وهي:

1- الإيمان الصادق والاعتقاد الجازم بما يترتب على الخشوع من فضل عظيم في الدنيا والآخرة، من الإحساس بالسكون والطمأنينة وراحة لا مثيل لها، وطيب نفس يفوق الوصف. قال تعالى: { قدْ أفلح المؤمنونَ . الذين هُم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون:1، 2]. وروى مسلم عن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله» والآيات والأحاديث الدالة على فضل الخشوع كثيرة.

2- الإكثار من قراءة القرآن والذكر والاستغفار وعدم الإكثار من الكلام بغير ذكر الله، كما في الحديث: « لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله؛ فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى قسوة للقلب! وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي » [رواه الترمذي]. فقراءة القرآن وتدبره من أعظم أسباب لين القلب قال تعالى: { اللهُ نزَّل أحْسن الحديث كتاباً مُّتشابهاً مَّثانيَ تقْشَعرُّ منه جلود الَّذين يخشَون ربَّهم ثُمَّ تلين جُلودهم وقُلُوبهم إلى ذكر الله } [الزمر: 23]. فالقراءة والذكر حصن من الشيطان ووساوسه، وهي سبب لاطمئنان القلوب الذي يفقده الكثير من الناس، قال تعالى: { الذين آمنوا وتطْمئِنُّ قُلُوبُهم بذكر الله ألا بذكر الله تطْمئنُّ القُلوب } [الرعد: 28]. كما أن الإكثار من ذكر الله عزّ وجلّ سبب للفلاح، قال تعالى: { واذكُرُوا الله كثيراً لَّعلَّكُم تُفلِحون } [الجمعة: 10]. وليس المقام لبيان فضل الذكر ، ولكن أردنا التنويه إلى أنه سبب من أسباب الخشوع، ومن يريد معرفة ذلك- فضل الذكر- فعليه الرجوع إلى كتاب الله والأذكار التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومع هذا أيضاً الحرص على مجاهدة الشيطان، وذلك بأن يعقد العزم على مجاهدته من قبل القيام إلى الصلاة، وإن دخل عليه في أول صلاته فلا يستسلم له في وسطها أو آخرها، بل ينبغي أن يجاهد الشيطان حتى اللحظة الأخيرة من الصلاة، فالشيطان يسعى إلى تشتيت الذهن حتى لا يعقل المصلي شيئاً من صلاته، وروى مسلم عن عثمان بن أبي العاص- رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله، إن الشيطان حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها عليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذاء أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثاً » ويقول راوي الحديث: ففعلت ذلك فأذهبه الله عزّ وجلّ عني.

إذاً فينبغي أن يستمر المصلي في المجاهدة ولا ينقطع بأن يشمر عن ساعد الجد، فإذا لم يخشع في هذه الصلاة فليعقد العزم على الخشوع في الأخرى، وإذا قل خشوعه في هذه فليحرص على كمال الخشوع في التي تليها، وهكذا ولا يتضجر من طول المجاهدة، ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يعينه على ذلك.

3- دوام محاسبة النفس ولومها على ما لا ينبغي من الاعتقاد والقول والفعل، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتَّقُوا الله ولتنظر نفسٌ مَّا قدَّمت لغدٍ واتَّقُوا الله إنَّ الله خبيرٌ بما تعملون } [الحشر: 18]. وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يقول: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر". وأيضاً البعد عن المعاصي بصرف النظر عما يحرم النظر إليه، وكذا حفظ اللسان والسمع وسائر الجوارح وإشغالها بما يخصها من عبودية، وصرفها بالنظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والكتب العلمية المفيدة، وما يباح النظر إليه، والتفكر في مخلوقاته سبحانه وتعالى، والاستماع إلى الطيب من القول، والتحدث في المفيد، فلا شك أن الذنوب تقيد المرء وتحجزه عن أداء العبادات على الوجه المطلوب، فكل إنسان يعرف ما هو واقع فيه من الذنوب وعليه أن يسعى في إصلاح حاله، والإصلاح متعلق بمحاسبة النفس، حيث إن المرء إذا حاسب نفسه بحث عما يُصلحها.

4- تدبر وتفهم ما يُقال في الصلاة وعدم صرف النظر فيما سوى موضوع السجود مستشعراً بذلك رهبة الموقف، يقول الإمام ابن القيم في الفوائد: "للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام يحق الموقف الأول هُوِّن عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفِّه حقه، شُدد عليه ذلك الموقف" قال تعالى: { ومن اللَّيْل فاسجد له وسبِّحه ليلاً طويلاً . إنِّ هؤلاء يُحبُّون العاحلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً } [الإنسان:26-27]. فلا بد من إعطاء هذا الموقف حقه من خضوع وخشوع وانكسار إجلالاً لله عزّ وجل، واستشعاراً بأن هذه الصلاة هي الصلاة الأخيرة في الدنيا، فلو استقر هذا الشعور في نفس المصلي لصلى صلاة خاشعة. روى الإمام أحمد بن أبي أيوب الأنصاري- رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله عظني وأوجز، فقال صلى الله عليه وسلم: « إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودّع، ولا تكلم بكلام تعْذُرُ منه غداً، واجمع اليأس مما في أيدي الناس » .

وأيضاً هناك أسباب أخرى للخشوع نذكر منها: .
الهمة: فإنه متى أهمك أمر حضر قلبك ضرورة، فلا علاج لإحضاره إلا صرف الهمة إلى الصلاة، وانصراف الهمة يقوى ويضعف بحسب قوة الإيمان بالآخرة واحتقار الدنيا. .
إدراك اللذة: التي يجدها العباد في صلاتهم وهي التي عبر عنها ابن تيمية- رحمه الله- بقوله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. ولا تظن أن مسلماً وجد هذه اللذة وذاق طعمها يُفرّط فيها ويتساهل في طلبها. وهذه اللذة كما قال ابن القيم- رحمه الله-: تقوى بقوة المحبة وتضعف بضعفها. لذا ينبغي للمسلم أن يسعى في الطرق الموصلة إلى محبة الله تبارك وتعالى. .
التبكير إلى الصلاة: وذلك بأن يُهيأ القلب للوقوف أمام الله عزّ وجلّ، فينبغي للمسلم أن يأتي إلى الصلاة مبكراً ويقرأ ما تيسر من القرآن بتدبر وخشوع، فذلك أدعى للخشوع في الصلاة، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه-: « لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه.. » الحديث. وفرْقٌ بين شخص جاء إلى الصلاة من مجلس كله لغو وحديث في الدنيا، وبين شخص قام إلى الصلاة وقد هيأ قلبه للوقوف أمام الله تبارك وتعالى لما قرأه من كلام الله عزّ وجلّ ، فلا شك أن حال الثاني مع الله تبارك وتعالى أفضل من الأول بكثير. .
أن يستحي العبد من الله أن يتقرب إليه عزّ وجلّ بصلاة جوفاء خالية من الخشوع والخوف، فالشعور بالاستحياء من الله تعالى يدفع المسلم إلى إتقان العبادة والتقرب إلى الله عزّ وجلّ بصلاة خاشعة فيها معاني الخوف والرهبة. .
أن يدرك المسلم حال الصحابة والسلف في الصلاة، فقد ذكر ابن تيمية- رحمه الله- أن مسلم بن يسار كان يُصلي في المسجد فانهدم طائفة منه وقام الناس، وهو في الصلاة لم يشعر. وكان عبد الله بن الزبير- رضي الله عنه- يسجد، فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه، وهو في الصلاة لا يرفع رأسه، وقالوا لعامر ابن عبد القيس: أتُحدث نفسك بشيء في الصلاة؟ فقال: أو شيء أحب إليَّ من الصلاة أحدث به نفسي؟! قالوا: لا، ولكن بأهلينا وأموالنا، فقال: لأن تختلف الأسنة (الرماح) في َّأحب إليَّ من أن أحدث نفسي بذلك. وأمثال هذا متعدد. تلك بعض الأسباب المعينة- بإذن الله- على الخشوع في الصلاة ، والله نسأل أن يعيننا على طاعته- عزّ وجلّ- على الوجه الذي يرضيه عنا.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

طريق الاسلام


الخشوع في الصلاة

*واقع مؤلم :
*نصلي بغرفة فيها ناس يتحدثون وتنتهي من صلاتك وقد عرفت كل ما دار في الغرفة من كلام وأحاديث جانبية؟؟؟*
*وفي المقابل حينما تكون مشغول بـ"الجوال" فقد لا تعي كلام أخيك الذي يخاطبك وهو بالقرب منك وتكون حينها في حالة خروج عن التغطية !!*
*أليست هذه حقيقة نعايشها؟*
*أما آن لنا أن نخشع في صلاتنا !؟!*
مما يدل على أهمية الخشوع كونه السبب الأهم لقبول الصلاة التي هي أعظم أركان الدين بعد الشهادتين، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن العبد لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها » .


الخشوع- أهميته وأثره:
إن الظواهر التي تظهر على الكثير من قسوة القلب، وقحط العين، وانعدام التدبر، هي بسبب المادية التي طغت على قلوبنا فأصبحت تشاركنا في عبادتنا، ولا يمكن للقلوب أن ترجع لحالتها الصحيحة حتى تتطهر من كل ما علق بها من أدران. فهذا هو أمير المؤمنين عثمان بن عفان- رضي الله عنه- يضع يده على الداء لهذه الظاهرة فيقول: "لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله عزّ وجلّ".

والخشوع الحق يطلق عليه الإمام ابن القيم (خشوع الإيمان) ويُعرَّف بأنه:
(خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرة مُلتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء، وشهود نعم الله، وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة فيتبعه خشوع الجوارح).

كما أن الخُشوع يُسهل فعل الصلاة ويُحببها إلى النفس، قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي- رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: { وإنَّها لكبيرةٌ إلاَّ على الخاشعين } [البقرة:45]: أي فإنها سهلة عليهم خفيفة، لأن الخشوع وخشية الله ورجاء ما عنده يوجب له فعلها منشرحاً بها صدره، لترقبه للثواب، وخشية من العقاب.

كما أن الخشوع هو العلم الحقيقي؛ قال ابن رجب-رحمه الله- في شرح حديث أبي الدرداء في فضل طلب العلم: رُوي عن عبادة بن الصامت وعوف بن مالك وحذيفة رضي الله عنهم أنهم قالوا: "أول علم يُرفع من الناس الخشوع حتى لا ترى خاشعاً". وساق أحاديث أخر في هذا المعنى، ثم قال: "ففي هذه الأحاديث أن ذهاب العلم بذهاب العمل، وأن الصحابة رضي الله عنهم فسّروا ذلك بذهاب العلم الباطن من القلوب والخشوع". وقد ساق محقق الكتاب للأثر السابق عدة طرق وقال: إنها يتقوى بها.

فالصلاة إذاً صلة بين العبد وربه، ينقطع فيها الإنسان عن شواغل الحياة، ويتجه بكيانه كله إلى ربه، يستمد منه الهداية والعون والتسديد، ويسأله الثبات على الصراط المستقيم، ولكن الناس يختلفون في هذه الصلاة، فمنهم من تزيده صلاته إقبالاً على الله تبارك وتعالى، ومنهم من لا تؤثر فيه صلاته إلى ذلك الحد الملموس، بل هو يؤديها بحركات وقراءة وذكر وتسبيح، ولكن من غير شعور كامل لما يفعل، ولا استحضار لما يقول. والصلاة التي يرديها الإسلام ليست مجرد أقوال يلوكها اللسان، وحركات تؤديها الجوارح، بلا تدبر من عقل، ولا خشوع من قلب. ففي سنن الترمذي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح ونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فرضته شيءٌ، قال الرب عزّ وجلّ: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة؟ ثم تكون سائر أعماله على هذا » .

ولما يعانيه كثير من الناس من قلة الخشوع في الصلاة، فقد رأينا أن نلتمس بعض الأسباب التي تعيدنا إلى الصلاة الحقيقية التي توثق صلتنا بربنا عزّ وجلّ وهي صلاة القلب والجوارح وتذللها لله تبارك وتعالى. وقد امتدح الله عزّ وجلّ أهل هذه الصفة من المؤمنين حيث قال تعالى: { قدْ أفلح المُؤمنون . الذين هُم في صلاتهم خاشعون } [المؤمنون:1-2].

ولعلنا بعد ما نقرأ قوله سبحانه وتعالى: { إنَّ الصَّلاة تنْهى عن الفحشاءِ والمُنكر } [العنكبوت:45]. نسأل أنفسنا ما بال الكثيرين منا يخرجون من صلاتهم، ثم يأتون بأفعال وأمور منكرة، شتان بينها وبين ما تتركه صلاة الخاشعين الأوابين من أثر على أصحابها، الذي يخرج أحدهم من صلاته وهو يُحس بأن كل صلاة تغسل ما في قلبه من أدران الدنيا وتقربه إلى الله عزّ وجلّ.

أسباب الخشوع:
إذاً فلا بد من أسباب لحصول الخشوع، ولا ريب أن هناك خللاً ونقصاً في أدائنا للصلاة، ولعلنا في هذه العجالة نستعرض بعض الأسباب المعينة- بإذن الله- على الخشوع في الصلاة وهي:

1- الإيمان الصادق والاعتقاد الجازم بما يترتب على الخشوع من فضل عظيم في الدنيا والآخرة، من الإحساس بالسكون والطمأنينة وراحة لا مثيل لها، وطيب نفس يفوق الوصف. قال تعالى: { قدْ أفلح المؤمنونَ . الذين هُم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون:1، 2]. وروى مسلم عن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله» والآيات والأحاديث الدالة على فضل الخشوع كثيرة.

2- الإكثار من قراءة القرآن والذكر والاستغفار وعدم الإكثار من الكلام بغير ذكر الله، كما في الحديث: « لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله؛ فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى قسوة للقلب! وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي » [رواه الترمذي]. فقراءة القرآن وتدبره من أعظم أسباب لين القلب قال تعالى: { اللهُ نزَّل أحْسن الحديث كتاباً مُّتشابهاً مَّثانيَ تقْشَعرُّ منه جلود الَّذين يخشَون ربَّهم ثُمَّ تلين جُلودهم وقُلُوبهم إلى ذكر الله } [الزمر: 23]. فالقراءة والذكر حصن من الشيطان ووساوسه، وهي سبب لاطمئنان القلوب الذي يفقده الكثير من الناس، قال تعالى: { الذين آمنوا وتطْمئِنُّ قُلُوبُهم بذكر الله ألا بذكر الله تطْمئنُّ القُلوب } [الرعد: 28]. كما أن الإكثار من ذكر الله عزّ وجلّ سبب للفلاح، قال تعالى: { واذكُرُوا الله كثيراً لَّعلَّكُم تُفلِحون } [الجمعة: 10]. وليس المقام لبيان فضل الذكر ، ولكن أردنا التنويه إلى أنه سبب من أسباب الخشوع، ومن يريد معرفة ذلك- فضل الذكر- فعليه الرجوع إلى كتاب الله والأذكار التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومع هذا أيضاً الحرص على مجاهدة الشيطان، وذلك بأن يعقد العزم على مجاهدته من قبل القيام إلى الصلاة، وإن دخل عليه في أول صلاته فلا يستسلم له في وسطها أو آخرها، بل ينبغي أن يجاهد الشيطان حتى اللحظة الأخيرة من الصلاة، فالشيطان يسعى إلى تشتيت الذهن حتى لا يعقل المصلي شيئاً من صلاته، وروى مسلم عن عثمان بن أبي العاص- رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله، إن الشيطان حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها عليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذاء أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثاً » ويقول راوي الحديث: ففعلت ذلك فأذهبه الله عزّ وجلّ عني.

إذاً فينبغي أن يستمر المصلي في المجاهدة ولا ينقطع بأن يشمر عن ساعد الجد، فإذا لم يخشع في هذه الصلاة فليعقد العزم على الخشوع في الأخرى، وإذا قل خشوعه في هذه فليحرص على كمال الخشوع في التي تليها، وهكذا ولا يتضجر من طول المجاهدة، ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يعينه على ذلك.

3- دوام محاسبة النفس ولومها على ما لا ينبغي من الاعتقاد والقول والفعل، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتَّقُوا الله ولتنظر نفسٌ مَّا قدَّمت لغدٍ واتَّقُوا الله إنَّ الله خبيرٌ بما تعملون } [الحشر: 18]. وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يقول: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر". وأيضاً البعد عن المعاصي بصرف النظر عما يحرم النظر إليه، وكذا حفظ اللسان والسمع وسائر الجوارح وإشغالها بما يخصها من عبودية، وصرفها بالنظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والكتب العلمية المفيدة، وما يباح النظر إليه، والتفكر في مخلوقاته سبحانه وتعالى، والاستماع إلى الطيب من القول، والتحدث في المفيد، فلا شك أن الذنوب تقيد المرء وتحجزه عن أداء العبادات على الوجه المطلوب، فكل إنسان يعرف ما هو واقع فيه من الذنوب وعليه أن يسعى في إصلاح حاله، والإصلاح متعلق بمحاسبة النفس، حيث إن المرء إذا حاسب نفسه بحث عما يُصلحها.

4- تدبر وتفهم ما يُقال في الصلاة وعدم صرف النظر فيما سوى موضوع السجود مستشعراً بذلك رهبة الموقف، يقول الإمام ابن القيم في الفوائد: "للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام يحق الموقف الأول هُوِّن عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفِّه حقه، شُدد عليه ذلك الموقف" قال تعالى: { ومن اللَّيْل فاسجد له وسبِّحه ليلاً طويلاً . إنِّ هؤلاء يُحبُّون العاحلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً } [الإنسان:26-27]. فلا بد من إعطاء هذا الموقف حقه من خضوع وخشوع وانكسار إجلالاً لله عزّ وجل، واستشعاراً بأن هذه الصلاة هي الصلاة الأخيرة في الدنيا، فلو استقر هذا الشعور في نفس المصلي لصلى صلاة خاشعة. روى الإمام أحمد بن أبي أيوب الأنصاري- رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله عظني وأوجز، فقال صلى الله عليه وسلم: « إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودّع، ولا تكلم بكلام تعْذُرُ منه غداً، واجمع اليأس مما في أيدي الناس » .

وأيضاً هناك أسباب أخرى للخشوع نذكر منها: .
الهمة: فإنه متى أهمك أمر حضر قلبك ضرورة، فلا علاج لإحضاره إلا صرف الهمة إلى الصلاة، وانصراف الهمة يقوى ويضعف بحسب قوة الإيمان بالآخرة واحتقار الدنيا. .
إدراك اللذة: التي يجدها العباد في صلاتهم وهي التي عبر عنها ابن تيمية- رحمه الله- بقوله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. ولا تظن أن مسلماً وجد هذه اللذة وذاق طعمها يُفرّط فيها ويتساهل في طلبها. وهذه اللذة كما قال ابن القيم- رحمه الله-: تقوى بقوة المحبة وتضعف بضعفها. لذا ينبغي للمسلم أن يسعى في الطرق الموصلة إلى محبة الله تبارك وتعالى. .
التبكير إلى الصلاة: وذلك بأن يُهيأ القلب للوقوف أمام الله عزّ وجلّ، فينبغي للمسلم أن يأتي إلى الصلاة مبكراً ويقرأ ما تيسر من القرآن بتدبر وخشوع، فذلك أدعى للخشوع في الصلاة، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه-: « لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه.. » الحديث. وفرْقٌ بين شخص جاء إلى الصلاة من مجلس كله لغو وحديث في الدنيا، وبين شخص قام إلى الصلاة وقد هيأ قلبه للوقوف أمام الله تبارك وتعالى لما قرأه من كلام الله عزّ وجلّ ، فلا شك أن حال الثاني مع الله تبارك وتعالى أفضل من الأول بكثير. .
أن يستحي العبد من الله أن يتقرب إليه عزّ وجلّ بصلاة جوفاء خالية من الخشوع والخوف، فالشعور بالاستحياء من الله تعالى يدفع المسلم إلى إتقان العبادة والتقرب إلى الله عزّ وجلّ بصلاة خاشعة فيها معاني الخوف والرهبة. .
أن يدرك المسلم حال الصحابة والسلف في الصلاة، فقد ذكر ابن تيمية- رحمه الله- أن مسلم بن يسار كان يُصلي في المسجد فانهدم طائفة منه وقام الناس، وهو في الصلاة لم يشعر. وكان عبد الله بن الزبير- رضي الله عنه- يسجد، فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه، وهو في الصلاة لا يرفع رأسه، وقالوا لعامر ابن عبد القيس: أتُحدث نفسك بشيء في الصلاة؟ فقال: أو شيء أحب إليَّ من الصلاة أحدث به نفسي؟! قالوا: لا، ولكن بأهلينا وأموالنا، فقال: لأن تختلف الأسنة (الرماح) في َّأحب إليَّ من أن أحدث نفسي بذلك. وأمثال هذا متعدد. تلك بعض الأسباب المعينة- بإذن الله- على الخشوع في الصلاة ، والله نسأل أن يعيننا على طاعته- عزّ وجلّ- على الوجه الذي يرضيه عنا.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

طريق الاسلام


فيروس كورونا (مقال للشيخ عبدالرزاق البدر)

فيروس كورونا (مقال للشيخ الفاضل أ.د عبدالرزاق البدر)

يتردَّد كثيرًا في مجالس النّاس هذه الأيام حديثٌ عن مرض يتخوَّفون منه ويخشون من انتشاره والإصابة به ، بين حديث رجلٍ مُتَنَدِّرٍ مازح، أو رجلٍ مبيِّنٍ ناصح، أو غير ذلك من أغراض الأحاديث التي تدور حول هذا المرض . والواجب على المسلم في كلِّ حالٍ ووقت، ومع كلِّ نازلة ومصيبة أن يعتصم بالله جلّ وعلا وأن يكون انطلاقه في الحديث عنها أو مداواتها أو معالجتها قائمًا على أسسٍ شرعيَّة وأصولٍ مرعيّة وخوفٍ من الله جلّ وعلا ومراقبةٍ له.
وهـذه *ستُ وقفات* حول هـذا الموضوع الذي يشكِّلُ في حياة النَّاس هـذه الأيَّام أهمِّيةً بالغةً:

*الوَقْفَةُ الأُولَى:*
الواجب على كلٍّ مسلمٍ أن يكون في أحواله كلها معْتصمًا بربِّه جلّ وعلا متوكِّلاً عليه معتقدًا أنّ الأمور كلّها بيده (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن:11] ، فالأمور كلُّها بيد الله وطوْع تدبيره وتسخيره ؛ فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا عاصم إلَّا الله ( قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ) [الأحزاب:17] ، (إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) [الزمر:38]، (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ) [فاطر:02] .
وفي الحديث « وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ » ، وفي الحديث «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» ، وفي الحديث «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَة» .
فالواجب على كلّ مسلم أن يفوض أمره إلى الله راجيًا طامعًا معتمدًا متوكِّلاً ، لا يرجو عافيته وشفاءه وسلامتَه إلَّا من ربِّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، فلا تزيدُه الأحداثُ ولا يزيدُه حلول المصاب إلا التجاءً واعتصامًا بالله (وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) [الأعراف:101].

*الوَقْفَة الثَّانِيَة:*
إنّ الواجب على كلِّ مسلم أن يحفظ اللهَ -جلّ وعلا- بحفْظِ طاعته امتثالاً للأوامر واجتنابًا للنواهي، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصيّته لابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما : «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ» ؛ فالمحافظة على أوامر الله امتثالًا للمأمور وتركًا للمحظور سببٌ لوقاية العبْد وسلامته وحفْظِ الله جلّ وعلا له في دنياه وأخراه ، فإن أُصيب بمصيبة أو نزلت به ضرّاء فلن تكون إلاَّ رفعة له عند الله ، وفي هـذا يقول نبيُّنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ : «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» ؛ فالمؤمن في سرّائه وضرّائه وشدّته ورخائه من خيرٍ وإلى خيرٍ، وذلك كما قال نبيّنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ : «وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ».

*الوَقْفَة الثَّالِثَة:*
إنّ شريعة الإسلام جاءت ببذْل الأسباب والدّعوة إلى التّداوي ، وأنّ التَّداوي والاستشفاء لا يتنافى مع التّوكّل على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
والتّداوي الذي جاءت به شريعة الإسلام يتناول نوعي الطّب : الطّبّ الوِقَائي الذي يكون قبل نزول المرض ، والطّبّ العِلاجي الذي يكون بعد نزوله ؛ وبكلِّ ذلكم جاءت الشَّريعة. وجاء فيها أصول العلاج والشِّفاء وأصول التّداوي مما يحقِّق للمسلم سلامةً وعافيةً في دنياه وأخراه ، ومن يقرأ كتاب "الطِّبّ النّبوي" للعلاّمة ابن القيم رحمه الله يجد في هـذا الباب عجبًا ممّا جاءت به شريعةُ الإسلام وصحّ عن الرّسول الكريم عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ.
ففي مجال الطِّبّ الوقائي يقول نبيُّنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ : «مَنِ اصْطَبَحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ » ، وجاء عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث عثمان بن عفَّان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِى صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ : بِسْمِ اللَّهِ الَّذِى لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَىْءٌ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ـ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ـ فَيَضُرُّهُ شَىْءٌ» ، وجاء عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّه قال: «مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِى لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ» أي من كلِّ آفةٍ وسوءٍ وشرٍّ ، وجاء في حديث عبد الله بن خُبَيْب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: خَرَجْنَا فِى لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى لَنَا - قَالَ - فَأَدْرَكْتُهُ فَقَالَ « قُلْ ». فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ « قُلْ ». فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا. قَالَ « قُلْ ». قُلْتُ مَا أَقُولُ قَالَ « قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِى وَتُصْبِحُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ» ، وجاء عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ كما في حديث عبد الله بن عمر أنّه كان لا يدع هـؤلاء الدّعوات حين يصبح وحين يمسي: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِى دِينِى وَدُنْيَاىَ وَأَهْلِى وَمَالِى ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِى، وَآمِنْ رَوْعَاتِى ، اللَّهُمَّ احْفَظْنِى مِنْ بَيْنِ يَدَىَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» ؛ وفي هـذه الدّعوة تحصينٌ تامّ وحِفْظٌ كامل للعبد من جميع جهاته .
وفي مجال الطبِّ العِلاجيِّ جاء عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ إرْشادات عظيمة وتوجيهات كريمة وأَشْفِيَة متنوّعة جاءت مبيَّنةً في سنّته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ يطول المقامُ بذكرها أو الإشارة إليها، وينظر في هذا بسط هذا الموضوع الواسع في كتاب زاد المعاد لابن القيم.

*الوَقْفَة الرَّابِعَة:*
أنَّ الواجب على كلِّ مسلم أنْ لا ينساق مع إشاعات كاذبة ؛ لأنّ بعض النّاس في مثل هـذا المقام ربّما يروِّج أمورًا أو يذكُر أشياءَ لا صِحَّةَ لهَا ولا حقيقة فيرُوج بين النّاس رعبٌ وخوفٌ وهَلَعٌ لا أساسَ له ولا مسوِّغ لوجوده . فلا ينبغي لمسلمٍ أن يَنِسَاقَ مع شائعاتٍ ونحو ذلك فيُخلّ انسياقُه وراءَها بتمام إيمانه وكمال يقينه وحُسْن توكِّله على ربِّه جل وعلا .

*الوَقْفَة الخَامِسَة:*
أنَّ المصائب التي تُصيب المسلمَ سواءً في صحّته أو في أهله وولده أو في ماله وتجارته أو نحو ذلك إن تلقَّاها بالصَّبْر والاحتساب فإنها تكون له رِفْعَة عند الله جلّ وعلا ، قال الله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) [البقرة:155-157] ، فالله تبارك و تعالى يبتلي عبده ليسمع شكواه و تضرعه و دعاءه و صبره و رضاه بما قضاه عليه، فهو سبحانه وتعالى يرى عباده إذا نزل بهم ما يختبرهم به من المصائب و غيرها و يعلم خائنة أعينهم و ما تخفي صدورهم فيثيب كل عبد على قصده و نيته، ولهـذا من أُصيب بشيء من المرض أو أُصيب بشيء من الجوائح أو نقص المال أو نحو ذلك فعليه أن يحتسب ذلك عند الله وأن يتلقّى ذلك بالصّبر والرِّضا ليفوز بثواب الصّابرين ، ومن عوفي فليحمد الله ليفوز بثواب الشاكرين.

*الوَقْفَة السَادسة:*
أنَّ أعظم المصائب المصيبة في الدين فهي أعظم مصائب الدنيا و الآخرة، وهي نهاية الخسران الذي لا ربح معه والحرمان الذي لا طمع معه، فإذا ذكر المسلم ذلك عند مصابه في صحته أو ماله حمد الله على سلامة دينه، روى البيهقي في شعب الإيمان عن شريح القاضي رحمه الله أنه قال : « إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي , وأحمده إذ رزقني الصبر عليها , وأحمده إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فيه من الثواب , وأحمده إذ لم يجعلها في ديني». وأسأل الله أن يتولانا أجمعين بحفظه، وأن يمنَّ علينا بالعفو والعافية في ديننا ودنيانا وأهلينا ومالنا إنه سميع قريب مجيب. اهـ.
--------------------------------------------
*المصدر
https://al-badr.net/muqolat/3157


فيروس كورونا (مقال للشيخ عبدالرزاق البدر)

فيروس كورونا (مقال للشيخ الفاضل أ.د عبدالرزاق البدر)

يتردَّد كثيرًا في مجالس النّاس هذه الأيام حديثٌ عن مرض يتخوَّفون منه ويخشون من انتشاره والإصابة به ، بين حديث رجلٍ مُتَنَدِّرٍ مازح، أو رجلٍ مبيِّنٍ ناصح، أو غير ذلك من أغراض الأحاديث التي تدور حول هذا المرض . والواجب على المسلم في كلِّ حالٍ ووقت، ومع كلِّ نازلة ومصيبة أن يعتصم بالله جلّ وعلا وأن يكون انطلاقه في الحديث عنها أو مداواتها أو معالجتها قائمًا على أسسٍ شرعيَّة وأصولٍ مرعيّة وخوفٍ من الله جلّ وعلا ومراقبةٍ له.
وهـذه *ستُ وقفات* حول هـذا الموضوع الذي يشكِّلُ في حياة النَّاس هـذه الأيَّام أهمِّيةً بالغةً:

*الوَقْفَةُ الأُولَى:*
الواجب على كلٍّ مسلمٍ أن يكون في أحواله كلها معْتصمًا بربِّه جلّ وعلا متوكِّلاً عليه معتقدًا أنّ الأمور كلّها بيده (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن:11] ، فالأمور كلُّها بيد الله وطوْع تدبيره وتسخيره ؛ فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا عاصم إلَّا الله ( قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ) [الأحزاب:17] ، (إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) [الزمر:38]، (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ) [فاطر:02] .
وفي الحديث « وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ » ، وفي الحديث «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» ، وفي الحديث «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَة» .
فالواجب على كلّ مسلم أن يفوض أمره إلى الله راجيًا طامعًا معتمدًا متوكِّلاً ، لا يرجو عافيته وشفاءه وسلامتَه إلَّا من ربِّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، فلا تزيدُه الأحداثُ ولا يزيدُه حلول المصاب إلا التجاءً واعتصامًا بالله (وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) [الأعراف:101].

*الوَقْفَة الثَّانِيَة:*
إنّ الواجب على كلِّ مسلم أن يحفظ اللهَ -جلّ وعلا- بحفْظِ طاعته امتثالاً للأوامر واجتنابًا للنواهي، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصيّته لابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما : «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ» ؛ فالمحافظة على أوامر الله امتثالًا للمأمور وتركًا للمحظور سببٌ لوقاية العبْد وسلامته وحفْظِ الله جلّ وعلا له في دنياه وأخراه ، فإن أُصيب بمصيبة أو نزلت به ضرّاء فلن تكون إلاَّ رفعة له عند الله ، وفي هـذا يقول نبيُّنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ : «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» ؛ فالمؤمن في سرّائه وضرّائه وشدّته ورخائه من خيرٍ وإلى خيرٍ، وذلك كما قال نبيّنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ : «وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ».

*الوَقْفَة الثَّالِثَة:*
إنّ شريعة الإسلام جاءت ببذْل الأسباب والدّعوة إلى التّداوي ، وأنّ التَّداوي والاستشفاء لا يتنافى مع التّوكّل على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
والتّداوي الذي جاءت به شريعة الإسلام يتناول نوعي الطّب : الطّبّ الوِقَائي الذي يكون قبل نزول المرض ، والطّبّ العِلاجي الذي يكون بعد نزوله ؛ وبكلِّ ذلكم جاءت الشَّريعة. وجاء فيها أصول العلاج والشِّفاء وأصول التّداوي مما يحقِّق للمسلم سلامةً وعافيةً في دنياه وأخراه ، ومن يقرأ كتاب "الطِّبّ النّبوي" للعلاّمة ابن القيم رحمه الله يجد في هـذا الباب عجبًا ممّا جاءت به شريعةُ الإسلام وصحّ عن الرّسول الكريم عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ.
ففي مجال الطِّبّ الوقائي يقول نبيُّنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ : «مَنِ اصْطَبَحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ » ، وجاء عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث عثمان بن عفَّان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِى صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ : بِسْمِ اللَّهِ الَّذِى لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَىْءٌ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ـ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ـ فَيَضُرُّهُ شَىْءٌ» ، وجاء عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّه قال: «مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِى لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ» أي من كلِّ آفةٍ وسوءٍ وشرٍّ ، وجاء في حديث عبد الله بن خُبَيْب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: خَرَجْنَا فِى لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى لَنَا - قَالَ - فَأَدْرَكْتُهُ فَقَالَ « قُلْ ». فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ « قُلْ ». فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا. قَالَ « قُلْ ». قُلْتُ مَا أَقُولُ قَالَ « قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِى وَتُصْبِحُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ» ، وجاء عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ كما في حديث عبد الله بن عمر أنّه كان لا يدع هـؤلاء الدّعوات حين يصبح وحين يمسي: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِى دِينِى وَدُنْيَاىَ وَأَهْلِى وَمَالِى ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِى، وَآمِنْ رَوْعَاتِى ، اللَّهُمَّ احْفَظْنِى مِنْ بَيْنِ يَدَىَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» ؛ وفي هـذه الدّعوة تحصينٌ تامّ وحِفْظٌ كامل للعبد من جميع جهاته .
وفي مجال الطبِّ العِلاجيِّ جاء عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ إرْشادات عظيمة وتوجيهات كريمة وأَشْفِيَة متنوّعة جاءت مبيَّنةً في سنّته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ يطول المقامُ بذكرها أو الإشارة إليها، وينظر في هذا بسط هذا الموضوع الواسع في كتاب زاد المعاد لابن القيم.

*الوَقْفَة الرَّابِعَة:*
أنَّ الواجب على كلِّ مسلم أنْ لا ينساق مع إشاعات كاذبة ؛ لأنّ بعض النّاس في مثل هـذا المقام ربّما يروِّج أمورًا أو يذكُر أشياءَ لا صِحَّةَ لهَا ولا حقيقة فيرُوج بين النّاس رعبٌ وخوفٌ وهَلَعٌ لا أساسَ له ولا مسوِّغ لوجوده . فلا ينبغي لمسلمٍ أن يَنِسَاقَ مع شائعاتٍ ونحو ذلك فيُخلّ انسياقُه وراءَها بتمام إيمانه وكمال يقينه وحُسْن توكِّله على ربِّه جل وعلا .

*الوَقْفَة الخَامِسَة:*
أنَّ المصائب التي تُصيب المسلمَ سواءً في صحّته أو في أهله وولده أو في ماله وتجارته أو نحو ذلك إن تلقَّاها بالصَّبْر والاحتساب فإنها تكون له رِفْعَة عند الله جلّ وعلا ، قال الله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) [البقرة:155-157] ، فالله تبارك و تعالى يبتلي عبده ليسمع شكواه و تضرعه و دعاءه و صبره و رضاه بما قضاه عليه، فهو سبحانه وتعالى يرى عباده إذا نزل بهم ما يختبرهم به من المصائب و غيرها و يعلم خائنة أعينهم و ما تخفي صدورهم فيثيب كل عبد على قصده و نيته، ولهـذا من أُصيب بشيء من المرض أو أُصيب بشيء من الجوائح أو نقص المال أو نحو ذلك فعليه أن يحتسب ذلك عند الله وأن يتلقّى ذلك بالصّبر والرِّضا ليفوز بثواب الصّابرين ، ومن عوفي فليحمد الله ليفوز بثواب الشاكرين.

*الوَقْفَة السَادسة:*
أنَّ أعظم المصائب المصيبة في الدين فهي أعظم مصائب الدنيا و الآخرة، وهي نهاية الخسران الذي لا ربح معه والحرمان الذي لا طمع معه، فإذا ذكر المسلم ذلك عند مصابه في صحته أو ماله حمد الله على سلامة دينه، روى البيهقي في شعب الإيمان عن شريح القاضي رحمه الله أنه قال : « إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي , وأحمده إذ رزقني الصبر عليها , وأحمده إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فيه من الثواب , وأحمده إذ لم يجعلها في ديني». وأسأل الله أن يتولانا أجمعين بحفظه، وأن يمنَّ علينا بالعفو والعافية في ديننا ودنيانا وأهلينا ومالنا إنه سميع قريب مجيب. اهـ.
--------------------------------------------
*المصدر
https://al-badr.net/muqolat/3157


الأربعاء، 29 يناير 2020

الإيمان بالقدر خيره وشره

الإيمان بالقدر من أصول الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا بها، ففي (صحيح مسلم) من حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قالالإيمان بالقدر خيره وشره(أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال (أي جبريل عليه السلام): صدقت))

والقدر هو تقدير الله سبحانه وتعالى لِمَا يكون إلى يوم القيامة؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق القلم فقال له اكتب، قال: ربي وما أكتب؟ قال: اكتب ماهو كائن؟ فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة.

فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطاءه لم يكن ليصيبه، وقد ذكر الله هذا في كتابه إجمالًا فقال: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج: 70]، وقال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22]، من قبل أن نبرأها؛ أي: من قبل أن نخلقها؛ أي: من قبل أن نخلق الأرض، ومن قبل أن نخلق أنفسكم، ومن قبل أن نخلق المصيبة، فإن الله كتب هذا من قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

قال أهل العلم: ولا بد للإيمان بالقدر من أن تؤمن بكل مراتبه الأربع:

المرتبة الأولى: أن تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى عليم بكل شيء.

وهذا كثير في الكتاب العظيم، يذكر الله عموم علمه بكل شيء؛ كما قال الله تعالى: ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12]، ولقوله تعالى: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام:59].

المرتبة الثانية: أن تؤمن بأن الله تعالى كتب مقادير كل شيء إلى قيام الساعة، كتبه قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

فكل شيء كائن فإنه مكتوب قد انتُهيَ منه، جفَّت الأقلام وطُويَت الصحف، فما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإذا أصابك شيء لا تقل: لو فعلت كذا ما أصابني؛ لأن هذا الشيء مكتوب لابد أن يقع كما كتب سبحانه وتعالى، فلا مَفَرَّ منه مهما عملت، فالأمر سيكون على ما وقع لا يتغيَّر أبدًا؛ لأن هذا أمر قد كُتب.

فإن قال قائل: ألم يكن قد جاء في الحديث: «من أحب أن يُبسَطَ له في رزقه، ويُنسأ له في أثَرِه، فلْيَصِل رَحِمَه»؟

فالجواب: بلى قد جاء هذا، ولكن الإنسان الذي قد بُسط له في رزقه ونُسِئ له في أثره من أجل الصلة، قد كُتب أنه سيصلُ رحمه، وأنه سيُبسط له في الرزق، وأنه سيُنسأ له في الأثر، لابد أن يكون الأمر هكذا، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره»، الحديث، من أجل أن نُبادر ونسارع في صلة الرحم، وإلا فهو مكتوب أن الرجل سوف يصل رحمه ويحصل له هذا الثواب، أو أنه لن يصل رحمه ويحرم من هذا الثواب، أمرٌ منته، لكن أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا من أجل أن نحرص على صلة الرحم.

واعلم أن الكتابة في اللوح المحفوظ يعقبها كتابات أُخَر؛ منه: أن الجنين في بطن أمه إذا تم له أربعة أشهر أرسل الله إليه ملَكًا موكَّلًا بالأرحام فينفخ فيه الروح ويُؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشَقيٌّ أم سعيد، فيكتبُ ذلك.

وهذه الكتابة غير الكتابة في اللوح المحفوظ، هذه كتابة في مقتبل عمر الإنسان؛ ولهذا يسميها العلماء: الكتابة العُمرية؛ يعني نسبة للعُمر.

كذلك: هناك كتابة أخرى تكون في كل سنة، وهي في ليلة القدر، فإن ليلة القدر يكتب الله فيها ما يكون في تلك السنة، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 3، 4]، ﴿ يُفْرَقُ ﴾؛ أي: يُبيَّن ويُفصَّل؛ ولهذا سُميت ليلة القدر.

المرتبة الثالثة للإيمان بالقدر: أن تؤمن بأن كل شيء فهو بمشيئة الله، لا يخرج عن مشيئته شيء.

ولا فرق بين أن يكون هذا الواقع مما يختص الله به، كإنزال المطر وإحياء الموتى وما أشبه ذلك، أي مما يعلمه الخلق؛ كالصلاة والصيام وما أشبهها، فكل هذا بمشيئة الله، قال الله تعالى: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 28، 29].

وقال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]، فبيَّن الله سبحانه وتعالى لنا أنه لا مشيئة لنا إلا بمشيئة الله، وأن أفعالنا واقعة بمشيئة الله؛ ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ﴾، ولكن كل شيء فإنه واقع بمشيئة الله، فلا يكون في ملكه ما لا يشاء أبدًا.

ولهذا أجمع المسلمون على هذه الكلمة العظيمة: «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن».

وأما المرتبة الرابعة: فهي الإيمان بأن كل شيء مخلوق لله؛ لقول الله تبارك وتعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62]، وقال تعالى: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 2]

فكل شيء واقع فإنه مخلوق لله عز وجل، فالإنسان مخلوق لله وعمله مخلوق لله، قال الله عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو يُخاطب قومه: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96]، ففعل العبد مخلوق لله، لكن المباشر للفعل هو العبد وليس الله، لكن الله هو الذي خلق هذا الفعل ففعله العبد، فهو منسوب لله خلقًا ومنسوب إلى العبد كَسْبًا وفعلًا، فالفاعل هو العبد والكاسب هو العبد، والخالق هو الله.

فكل شيء مما يحدث فإنه مخلوق لله عز وجل؛ لكن ما كان من صفات الله فليس بمخلوق، فالقرآن مثلًا أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم لكنه ليست بمخلوق؛ لأن القرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته سبحانه، ليست مخلوقة.

هذه مراتب أربعٌ للإيمان بالقدر؛ يجب أن تؤمن بها كلها، وإلا فإنك لم تؤمن بالقدر.

وفائدة الإيمان بالقدر عظيمة جدًّا؛ لأن الإنسان إذا علم أن الشيء لابد أن يقع كما أمر الله، استراح، فإذا أُصيب بضراء صَبَر، وقال: هذا من عند الله، وإن أُصيب بسرَّاء شَكَر، وقال: هذا من عند الله.

وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمْرَهُ كلُهَّ خير، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له»؛ لأن المؤمن يؤمن أن كل شيء بقضاء الله، فيكون دائمًا في سرور، ودائمًا في انشراح؛ لأنه يعلم أن ما أصابه فإنه من الله، إن كان ضرَّاء صبر وانتظر الفرج من الله ولجأ إلى الله تعالى في كشف هذه الضراء، وإن كان سرَّاء شكر وحمد الله وعلم أن ذلك لم يكن بحوله ولا قوَّته لكن بفضل من الله ورحمة.

وقوله عليه الصلاة والسلام: «خيره وشرِّه»؛ الخيرُ ما ينتفع به الإنسان ويلائمه، من عِلمٍ نافع، ومالٍ واسعٍ طيِّب، وصحَّة، وأهل وبنين وما أشبه ذلك، والشرُّ ضدُّ ذلك، من الجهل والفقر والمرض وفقدان الأهل والأولاد وما أشبه هذا؛ كل هذا من الله سبحانه وتعالى، الخير والشر، فإن الله سبحانه يقدِّر الخير لحكمة ويقدِّر الشرَّ لحكمة؛ كما قال الله عز وجل: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون ﴾ [الأنبياء: 35]. فإذا علم الله أن من الخير والحكمة أن يقدِّر الشر قدَّره لما يترتب عليه من المصالح العظيمة؛ كقوله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].

فإذا قال قائل: كيف تجمع بين قول النبي عليه الصلاة والسلام: «وأن تؤمن بالقدر خيره وشره»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الشر ليس إليك»؛ فنفى أن يكون الشرُّ إليه؟

فالجواب على هذا أن نقول: إن الشر المحض لا يكون بفعل الله أبدًا، فالشر المحض الذي ليس فيه خيرٌ لا حالًا ولا مآلًا لا يمكن أن يوجد في فعل الله أبدًا، هذا من وجه؛ لأنه حتى الشر الذي قدره الله شرًّا لابد أن يكون له عاقبة حميدة، ويكون شرًّا على قوم وخيرًا عل آخرين؛ أرأيت لو أنزل الله المطر مطرًا كثيرا فأغرق زرع إنسان، لكنه نفع الأرض وانتفعت به أمة، لكان هذا خيرًا بالنسبة لمن انتفع به، شرًّا لمن تضرر به، فهو خير من وجه وشر من وجه.

ثانيا: حتى الشرُّ الذي يقدِّره الله على الإنسان هو خير في الحقيقة؛ لأنه إذا صبر واحتسب الأجر من الله نال بذلك أجرًا أكثر بأضعاف مضاعفة مما ناله من الشر، وربما يكون سببًا للاستقامة ومعرفة قدر نعمة الله على العبد فتكون العاقبة حميدة؛ ولهذا ذُكِرَ عن بعض العابدات أنها أصيبت في أصبعها أو يدها فانجرحت فصبرت وشكرت الله على هذا وقالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها!

ثم نقول: إن الشر في الحقيقة ليس في فعل الله نفسه، بل في مفعولاته، فالمفعولات هي التي فيها خير وشر، أما الفعل نفسه فهو خير؛ ولهذا قال الله عز وجل: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾ [الفلق: 1، 2]؛ أي: من شرِّ الذي خلقه الله، فالشر إنما يكون في المفعولات لا في الفعل نفسه، أما فعل الله فهو خير؛ ويدلك لهذا أنه لو كان عندك مريض وقيل: إن من شفائه أن تكويَهُ بالنار، فكويْتَهُ بالنار، فالنار مؤلمة بلا شك، لكن فعلُك هذا ليس بشر، بل هو خير للمريض؛ لأنك إنما تنتظر عاقبة حميدة بهذا الكي، كذلك فعل الله للأشياء المكروهة والأشياء التي فيها شر، هي بالنسبة لفعله وإيجاده خير؛ لأنه يترتب عليها خير كثير.

فإن قال قائل: كيف تجمع بين هذا وبين قوله تعالى: ﴿ مَّآأَصَابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفسِكَ ﴾ [النساء: 79]؟

فالجواب أن نقول: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾؛ يعني: من فضله، هو الذي مَنَّ عليك بها أوَّلًا وآخرًا، ﴿ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾؛ أي: أنت سببها، وإلا فالذي قدَّرها هو الله، لكن أنت السبب؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].

وخلاصة الكلام: أن كل شيء واقع فإنه بقدر الله، سواء كان خيرًا أم شرًّا.

المصدر: «شرح رياض الصالحين» (1 / 473 - 480)


الإيمان بالقدر خيره وشره

الإيمان بالقدر من أصول الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا بها، ففي (صحيح مسلم) من حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قالالإيمان بالقدر خيره وشره(أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال (أي جبريل عليه السلام): صدقت))

والقدر هو تقدير الله سبحانه وتعالى لِمَا يكون إلى يوم القيامة؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق القلم فقال له اكتب، قال: ربي وما أكتب؟ قال: اكتب ماهو كائن؟ فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة.

فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطاءه لم يكن ليصيبه، وقد ذكر الله هذا في كتابه إجمالًا فقال: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج: 70]، وقال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22]، من قبل أن نبرأها؛ أي: من قبل أن نخلقها؛ أي: من قبل أن نخلق الأرض، ومن قبل أن نخلق أنفسكم، ومن قبل أن نخلق المصيبة، فإن الله كتب هذا من قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

قال أهل العلم: ولا بد للإيمان بالقدر من أن تؤمن بكل مراتبه الأربع:

المرتبة الأولى: أن تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى عليم بكل شيء.

وهذا كثير في الكتاب العظيم، يذكر الله عموم علمه بكل شيء؛ كما قال الله تعالى: ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12]، ولقوله تعالى: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام:59].

المرتبة الثانية: أن تؤمن بأن الله تعالى كتب مقادير كل شيء إلى قيام الساعة، كتبه قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

فكل شيء كائن فإنه مكتوب قد انتُهيَ منه، جفَّت الأقلام وطُويَت الصحف، فما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإذا أصابك شيء لا تقل: لو فعلت كذا ما أصابني؛ لأن هذا الشيء مكتوب لابد أن يقع كما كتب سبحانه وتعالى، فلا مَفَرَّ منه مهما عملت، فالأمر سيكون على ما وقع لا يتغيَّر أبدًا؛ لأن هذا أمر قد كُتب.

فإن قال قائل: ألم يكن قد جاء في الحديث: «من أحب أن يُبسَطَ له في رزقه، ويُنسأ له في أثَرِه، فلْيَصِل رَحِمَه»؟

فالجواب: بلى قد جاء هذا، ولكن الإنسان الذي قد بُسط له في رزقه ونُسِئ له في أثره من أجل الصلة، قد كُتب أنه سيصلُ رحمه، وأنه سيُبسط له في الرزق، وأنه سيُنسأ له في الأثر، لابد أن يكون الأمر هكذا، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره»، الحديث، من أجل أن نُبادر ونسارع في صلة الرحم، وإلا فهو مكتوب أن الرجل سوف يصل رحمه ويحصل له هذا الثواب، أو أنه لن يصل رحمه ويحرم من هذا الثواب، أمرٌ منته، لكن أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا من أجل أن نحرص على صلة الرحم.

واعلم أن الكتابة في اللوح المحفوظ يعقبها كتابات أُخَر؛ منه: أن الجنين في بطن أمه إذا تم له أربعة أشهر أرسل الله إليه ملَكًا موكَّلًا بالأرحام فينفخ فيه الروح ويُؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشَقيٌّ أم سعيد، فيكتبُ ذلك.

وهذه الكتابة غير الكتابة في اللوح المحفوظ، هذه كتابة في مقتبل عمر الإنسان؛ ولهذا يسميها العلماء: الكتابة العُمرية؛ يعني نسبة للعُمر.

كذلك: هناك كتابة أخرى تكون في كل سنة، وهي في ليلة القدر، فإن ليلة القدر يكتب الله فيها ما يكون في تلك السنة، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 3، 4]، ﴿ يُفْرَقُ ﴾؛ أي: يُبيَّن ويُفصَّل؛ ولهذا سُميت ليلة القدر.

المرتبة الثالثة للإيمان بالقدر: أن تؤمن بأن كل شيء فهو بمشيئة الله، لا يخرج عن مشيئته شيء.

ولا فرق بين أن يكون هذا الواقع مما يختص الله به، كإنزال المطر وإحياء الموتى وما أشبه ذلك، أي مما يعلمه الخلق؛ كالصلاة والصيام وما أشبهها، فكل هذا بمشيئة الله، قال الله تعالى: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 28، 29].

وقال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]، فبيَّن الله سبحانه وتعالى لنا أنه لا مشيئة لنا إلا بمشيئة الله، وأن أفعالنا واقعة بمشيئة الله؛ ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ﴾، ولكن كل شيء فإنه واقع بمشيئة الله، فلا يكون في ملكه ما لا يشاء أبدًا.

ولهذا أجمع المسلمون على هذه الكلمة العظيمة: «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن».

وأما المرتبة الرابعة: فهي الإيمان بأن كل شيء مخلوق لله؛ لقول الله تبارك وتعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62]، وقال تعالى: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 2]

فكل شيء واقع فإنه مخلوق لله عز وجل، فالإنسان مخلوق لله وعمله مخلوق لله، قال الله عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو يُخاطب قومه: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96]، ففعل العبد مخلوق لله، لكن المباشر للفعل هو العبد وليس الله، لكن الله هو الذي خلق هذا الفعل ففعله العبد، فهو منسوب لله خلقًا ومنسوب إلى العبد كَسْبًا وفعلًا، فالفاعل هو العبد والكاسب هو العبد، والخالق هو الله.

فكل شيء مما يحدث فإنه مخلوق لله عز وجل؛ لكن ما كان من صفات الله فليس بمخلوق، فالقرآن مثلًا أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم لكنه ليست بمخلوق؛ لأن القرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته سبحانه، ليست مخلوقة.

هذه مراتب أربعٌ للإيمان بالقدر؛ يجب أن تؤمن بها كلها، وإلا فإنك لم تؤمن بالقدر.

وفائدة الإيمان بالقدر عظيمة جدًّا؛ لأن الإنسان إذا علم أن الشيء لابد أن يقع كما أمر الله، استراح، فإذا أُصيب بضراء صَبَر، وقال: هذا من عند الله، وإن أُصيب بسرَّاء شَكَر، وقال: هذا من عند الله.

وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمْرَهُ كلُهَّ خير، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له»؛ لأن المؤمن يؤمن أن كل شيء بقضاء الله، فيكون دائمًا في سرور، ودائمًا في انشراح؛ لأنه يعلم أن ما أصابه فإنه من الله، إن كان ضرَّاء صبر وانتظر الفرج من الله ولجأ إلى الله تعالى في كشف هذه الضراء، وإن كان سرَّاء شكر وحمد الله وعلم أن ذلك لم يكن بحوله ولا قوَّته لكن بفضل من الله ورحمة.

وقوله عليه الصلاة والسلام: «خيره وشرِّه»؛ الخيرُ ما ينتفع به الإنسان ويلائمه، من عِلمٍ نافع، ومالٍ واسعٍ طيِّب، وصحَّة، وأهل وبنين وما أشبه ذلك، والشرُّ ضدُّ ذلك، من الجهل والفقر والمرض وفقدان الأهل والأولاد وما أشبه هذا؛ كل هذا من الله سبحانه وتعالى، الخير والشر، فإن الله سبحانه يقدِّر الخير لحكمة ويقدِّر الشرَّ لحكمة؛ كما قال الله عز وجل: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون ﴾ [الأنبياء: 35]. فإذا علم الله أن من الخير والحكمة أن يقدِّر الشر قدَّره لما يترتب عليه من المصالح العظيمة؛ كقوله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].

فإذا قال قائل: كيف تجمع بين قول النبي عليه الصلاة والسلام: «وأن تؤمن بالقدر خيره وشره»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الشر ليس إليك»؛ فنفى أن يكون الشرُّ إليه؟

فالجواب على هذا أن نقول: إن الشر المحض لا يكون بفعل الله أبدًا، فالشر المحض الذي ليس فيه خيرٌ لا حالًا ولا مآلًا لا يمكن أن يوجد في فعل الله أبدًا، هذا من وجه؛ لأنه حتى الشر الذي قدره الله شرًّا لابد أن يكون له عاقبة حميدة، ويكون شرًّا على قوم وخيرًا عل آخرين؛ أرأيت لو أنزل الله المطر مطرًا كثيرا فأغرق زرع إنسان، لكنه نفع الأرض وانتفعت به أمة، لكان هذا خيرًا بالنسبة لمن انتفع به، شرًّا لمن تضرر به، فهو خير من وجه وشر من وجه.

ثانيا: حتى الشرُّ الذي يقدِّره الله على الإنسان هو خير في الحقيقة؛ لأنه إذا صبر واحتسب الأجر من الله نال بذلك أجرًا أكثر بأضعاف مضاعفة مما ناله من الشر، وربما يكون سببًا للاستقامة ومعرفة قدر نعمة الله على العبد فتكون العاقبة حميدة؛ ولهذا ذُكِرَ عن بعض العابدات أنها أصيبت في أصبعها أو يدها فانجرحت فصبرت وشكرت الله على هذا وقالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها!

ثم نقول: إن الشر في الحقيقة ليس في فعل الله نفسه، بل في مفعولاته، فالمفعولات هي التي فيها خير وشر، أما الفعل نفسه فهو خير؛ ولهذا قال الله عز وجل: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾ [الفلق: 1، 2]؛ أي: من شرِّ الذي خلقه الله، فالشر إنما يكون في المفعولات لا في الفعل نفسه، أما فعل الله فهو خير؛ ويدلك لهذا أنه لو كان عندك مريض وقيل: إن من شفائه أن تكويَهُ بالنار، فكويْتَهُ بالنار، فالنار مؤلمة بلا شك، لكن فعلُك هذا ليس بشر، بل هو خير للمريض؛ لأنك إنما تنتظر عاقبة حميدة بهذا الكي، كذلك فعل الله للأشياء المكروهة والأشياء التي فيها شر، هي بالنسبة لفعله وإيجاده خير؛ لأنه يترتب عليها خير كثير.

فإن قال قائل: كيف تجمع بين هذا وبين قوله تعالى: ﴿ مَّآأَصَابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفسِكَ ﴾ [النساء: 79]؟

فالجواب أن نقول: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾؛ يعني: من فضله، هو الذي مَنَّ عليك بها أوَّلًا وآخرًا، ﴿ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾؛ أي: أنت سببها، وإلا فالذي قدَّرها هو الله، لكن أنت السبب؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].

وخلاصة الكلام: أن كل شيء واقع فإنه بقدر الله، سواء كان خيرًا أم شرًّا.

المصدر: «شرح رياض الصالحين» (1 / 473 - 480)


كيف نستجلب البركة؟

البركة: هي ثبوت الخير الإلهي في الشيء؛ فإنها إذا حلت في قليل كثرته، وإذا حلت في كثير نفع، ومن أعظم ثمار البركة في الأمور كلها إستعمالها في طاعة الله عز وجل.

كيف نستجلب البركة؟


أولا: تقوى الله عز وجل مفتاح كل خير، قال تعالى:{ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض }[الأعراف:96]، وقال تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ، ويرزقه من حيث لايحتسب } [الطلاق:3-2] ، أي من جهة لا تخطر على باله.وعرف العلماء التقوى: بأن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله،وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله.قيل لأحد الصالحين: إن الأسعار قد ارتفعت. قال: أنزلوها بالتقوى.وقد قيل: ما احتاج تقي قط.

وقيل لرجل من الفقهاء : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ، ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق:3،2]، فقال الفقيه: والله، إنه ليجعل لنا المخرج، وما بلغنا من التقوى ما هو أهله، وإنه ليرزقنا وما اتقيناه، وإنا لنرجو الثالثة: ﴿ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا﴾ [الطلاق:5].

ثانيا: قراءة القرآن: فإنه كتاب مبارك وهو شفاءلأسقام القلوب ودواء لأمراض الأبدان : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب } [ص:29]. والأعمال الصالحة مجلبة للخير والبركة.

ثالثا: الدعاء؛ فقد كان النبي يطلب البركة في أمور كثيرة، فقد علمنا أن ندعو للمتزوج فنقول: « بارك الله لك، وبارك عليك،وجمع بينكما في خير » [رواه الترمذي]، وكذلك الدعاء لمن أطعمنا: « اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم ، وارحمهم » [رواه مسلم]. وغيرها كثير.

رابعا: عدم الشح والشره في أخذ المال: قال لحكيم بن حزام رضي الله عنه : « يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع »[رواه مسلم].

خامسا: الصدق في المعاملة من بيع وشراء قال : «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتماوكذبا محقت بركة بيعهما » [رواه البخاري].

سادسا: إنجاز الأعمال في أول النهار؛ التماس الدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد دعا عليه الصلاة والسلام بالبركة في ذلك : فعن صخر الغامدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « اللهم بارك لأمتي في بكورها » [رواه أحمد].قال بعض السلف: عجبت لمن يصلي الصبح بعد طلوع الشمس كيف يرزق؟!
قال: فكان رسول الله إذا بعث سرية بعثها أول النهار، وكان صخر رجلا تاجرا وكان لا يبعث غلمانه إلا من أول النهار، فكثر ماله حتى كان لا يدري أين يضع ماله.

سابعا: إتباع السنة في كل الأمور؛ فإنها لا تأتي إلا بخير. ومن الأحاديث في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم : « البركة تنزل وسط الطعام فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه » [رواه البخاري].وعن جابر بن عبدالله قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلعق الأصابع والصحفة، وقال: « إنكم لا تدرون في أى طعامكم البركة » [رواه مسلم].
ثامنا: حسن التوكل على الله عز وجل : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [الطلاق:3]. وقال - صلى الله عليه وسلم - : « لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا »[رواه أحمد].

تاسعا: استخارة المولى عز وجل في الأمور كلها،والتفويض والقبول بأن ما يختاره الله عز وجل لعبده خير مما يختاره العبد لنفسه في الدنيا والآخرة، وقد علمنا النبى - صلى الله عليه وسلم - الاستخارة: « إذاهم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولاأعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم فإن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني،ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجله، وآجله فاقدره لى ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال عاجله، وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به ».

عاشرا: ترك سؤال الناس؛ قال - صلى الله عليه وسلم: « من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمنا أن لا تسهل حاجته، ومن أنزلهابالله تعالى أتاه الله برزق عاجل أو بموت آجل » [رواه أحمد].

أحد عشر: الإنفاق والصدقة؛ فإنها مجلبة للرزق كماقال تعالى : { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه } [سبأ:39].وفي الحديث القدسي: قال الله تبارك وتعالى: « يا ابن آدم أنفق، أُنفق عليك »[رواه مسلم].
الثاني عشر: البعد عن المال الحرام بشتى أشكاله وصوره فإنه لا بركة فيه ولا بقاء والآيات في ذلك كثيرة منها { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } [البقرة:276]، وغيرها كثير.

الثالث عشر: الشكر والحمد لله على عطائه ونعمه؛ {وسيجزي الله الشاكرين } [آل عمران:144]، { لئن شكرتم لأزيدنكم } [إبراهيم:7].

الرابع عشر: أداء الصلاة المفروضة؛ قال تعالى : {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى }[طه:132].

الخامس عشر: المداومة على الاستغفار؛ لقوله تعالى: { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا } [نوح:10-12].

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا واجعله عونا على طاعتك، وصلى الله وسلم على نبيناوآله وصحبه أجمعين


عبد الملك القاسم

صيد الفوائد