الإيمان بالقدر من أصول الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا بها، ففي (صحيح مسلم) من حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قالالإيمان بالقدر خيره وشره(أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال (أي جبريل عليه السلام): صدقت))
والقدر هو تقدير الله سبحانه وتعالى لِمَا يكون إلى يوم القيامة؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق القلم فقال له اكتب، قال: ربي وما أكتب؟ قال: اكتب ماهو كائن؟ فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة.
فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطاءه لم يكن ليصيبه، وقد ذكر الله هذا في كتابه إجمالًا فقال: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج: 70]، وقال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22]، من قبل أن نبرأها؛ أي: من قبل أن نخلقها؛ أي: من قبل أن نخلق الأرض، ومن قبل أن نخلق أنفسكم، ومن قبل أن نخلق المصيبة، فإن الله كتب هذا من قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
قال أهل العلم: ولا بد للإيمان بالقدر من أن تؤمن بكل مراتبه الأربع:
المرتبة الأولى: أن تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى عليم بكل شيء.
وهذا كثير في الكتاب العظيم، يذكر الله عموم علمه بكل شيء؛ كما قال الله تعالى: ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12]، ولقوله تعالى: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام:59].
المرتبة الثانية: أن تؤمن بأن الله تعالى كتب مقادير كل شيء إلى قيام الساعة، كتبه قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
فكل شيء كائن فإنه مكتوب قد انتُهيَ منه، جفَّت الأقلام وطُويَت الصحف، فما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإذا أصابك شيء لا تقل: لو فعلت كذا ما أصابني؛ لأن هذا الشيء مكتوب لابد أن يقع كما كتب سبحانه وتعالى، فلا مَفَرَّ منه مهما عملت، فالأمر سيكون على ما وقع لا يتغيَّر أبدًا؛ لأن هذا أمر قد كُتب.
فإن قال قائل: ألم يكن قد جاء في الحديث: «من أحب أن يُبسَطَ له في رزقه، ويُنسأ له في أثَرِه، فلْيَصِل رَحِمَه»؟
فالجواب: بلى قد جاء هذا، ولكن الإنسان الذي قد بُسط له في رزقه ونُسِئ له في أثره من أجل الصلة، قد كُتب أنه سيصلُ رحمه، وأنه سيُبسط له في الرزق، وأنه سيُنسأ له في الأثر، لابد أن يكون الأمر هكذا، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره»، الحديث، من أجل أن نُبادر ونسارع في صلة الرحم، وإلا فهو مكتوب أن الرجل سوف يصل رحمه ويحصل له هذا الثواب، أو أنه لن يصل رحمه ويحرم من هذا الثواب، أمرٌ منته، لكن أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا من أجل أن نحرص على صلة الرحم.
واعلم أن الكتابة في اللوح المحفوظ يعقبها كتابات أُخَر؛ منه: أن الجنين في بطن أمه إذا تم له أربعة أشهر أرسل الله إليه ملَكًا موكَّلًا بالأرحام فينفخ فيه الروح ويُؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشَقيٌّ أم سعيد، فيكتبُ ذلك.
وهذه الكتابة غير الكتابة في اللوح المحفوظ، هذه كتابة في مقتبل عمر الإنسان؛ ولهذا يسميها العلماء: الكتابة العُمرية؛ يعني نسبة للعُمر.
كذلك: هناك كتابة أخرى تكون في كل سنة، وهي في ليلة القدر، فإن ليلة القدر يكتب الله فيها ما يكون في تلك السنة، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 3، 4]، ﴿ يُفْرَقُ ﴾؛ أي: يُبيَّن ويُفصَّل؛ ولهذا سُميت ليلة القدر.
المرتبة الثالثة للإيمان بالقدر: أن تؤمن بأن كل شيء فهو بمشيئة الله، لا يخرج عن مشيئته شيء.
ولا فرق بين أن يكون هذا الواقع مما يختص الله به، كإنزال المطر وإحياء الموتى وما أشبه ذلك، أي مما يعلمه الخلق؛ كالصلاة والصيام وما أشبهها، فكل هذا بمشيئة الله، قال الله تعالى: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 28، 29].
وقال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]، فبيَّن الله سبحانه وتعالى لنا أنه لا مشيئة لنا إلا بمشيئة الله، وأن أفعالنا واقعة بمشيئة الله؛ ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ﴾، ولكن كل شيء فإنه واقع بمشيئة الله، فلا يكون في ملكه ما لا يشاء أبدًا.
ولهذا أجمع المسلمون على هذه الكلمة العظيمة: «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن».
وأما المرتبة الرابعة: فهي الإيمان بأن كل شيء مخلوق لله؛ لقول الله تبارك وتعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62]، وقال تعالى: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 2]
فكل شيء واقع فإنه مخلوق لله عز وجل، فالإنسان مخلوق لله وعمله مخلوق لله، قال الله عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو يُخاطب قومه: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96]، ففعل العبد مخلوق لله، لكن المباشر للفعل هو العبد وليس الله، لكن الله هو الذي خلق هذا الفعل ففعله العبد، فهو منسوب لله خلقًا ومنسوب إلى العبد كَسْبًا وفعلًا، فالفاعل هو العبد والكاسب هو العبد، والخالق هو الله.
فكل شيء مما يحدث فإنه مخلوق لله عز وجل؛ لكن ما كان من صفات الله فليس بمخلوق، فالقرآن مثلًا أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم لكنه ليست بمخلوق؛ لأن القرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته سبحانه، ليست مخلوقة.
هذه مراتب أربعٌ للإيمان بالقدر؛ يجب أن تؤمن بها كلها، وإلا فإنك لم تؤمن بالقدر.
وفائدة الإيمان بالقدر عظيمة جدًّا؛ لأن الإنسان إذا علم أن الشيء لابد أن يقع كما أمر الله، استراح، فإذا أُصيب بضراء صَبَر، وقال: هذا من عند الله، وإن أُصيب بسرَّاء شَكَر، وقال: هذا من عند الله.
وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمْرَهُ كلُهَّ خير، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له»؛ لأن المؤمن يؤمن أن كل شيء بقضاء الله، فيكون دائمًا في سرور، ودائمًا في انشراح؛ لأنه يعلم أن ما أصابه فإنه من الله، إن كان ضرَّاء صبر وانتظر الفرج من الله ولجأ إلى الله تعالى في كشف هذه الضراء، وإن كان سرَّاء شكر وحمد الله وعلم أن ذلك لم يكن بحوله ولا قوَّته لكن بفضل من الله ورحمة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «خيره وشرِّه»؛ الخيرُ ما ينتفع به الإنسان ويلائمه، من عِلمٍ نافع، ومالٍ واسعٍ طيِّب، وصحَّة، وأهل وبنين وما أشبه ذلك، والشرُّ ضدُّ ذلك، من الجهل والفقر والمرض وفقدان الأهل والأولاد وما أشبه هذا؛ كل هذا من الله سبحانه وتعالى، الخير والشر، فإن الله سبحانه يقدِّر الخير لحكمة ويقدِّر الشرَّ لحكمة؛ كما قال الله عز وجل: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون ﴾ [الأنبياء: 35]. فإذا علم الله أن من الخير والحكمة أن يقدِّر الشر قدَّره لما يترتب عليه من المصالح العظيمة؛ كقوله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].
فإذا قال قائل: كيف تجمع بين قول النبي عليه الصلاة والسلام: «وأن تؤمن بالقدر خيره وشره»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الشر ليس إليك»؛ فنفى أن يكون الشرُّ إليه؟
فالجواب على هذا أن نقول: إن الشر المحض لا يكون بفعل الله أبدًا، فالشر المحض الذي ليس فيه خيرٌ لا حالًا ولا مآلًا لا يمكن أن يوجد في فعل الله أبدًا، هذا من وجه؛ لأنه حتى الشر الذي قدره الله شرًّا لابد أن يكون له عاقبة حميدة، ويكون شرًّا على قوم وخيرًا عل آخرين؛ أرأيت لو أنزل الله المطر مطرًا كثيرا فأغرق زرع إنسان، لكنه نفع الأرض وانتفعت به أمة، لكان هذا خيرًا بالنسبة لمن انتفع به، شرًّا لمن تضرر به، فهو خير من وجه وشر من وجه.
ثانيا: حتى الشرُّ الذي يقدِّره الله على الإنسان هو خير في الحقيقة؛ لأنه إذا صبر واحتسب الأجر من الله نال بذلك أجرًا أكثر بأضعاف مضاعفة مما ناله من الشر، وربما يكون سببًا للاستقامة ومعرفة قدر نعمة الله على العبد فتكون العاقبة حميدة؛ ولهذا ذُكِرَ عن بعض العابدات أنها أصيبت في أصبعها أو يدها فانجرحت فصبرت وشكرت الله على هذا وقالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها!
ثم نقول: إن الشر في الحقيقة ليس في فعل الله نفسه، بل في مفعولاته، فالمفعولات هي التي فيها خير وشر، أما الفعل نفسه فهو خير؛ ولهذا قال الله عز وجل: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾ [الفلق: 1، 2]؛ أي: من شرِّ الذي خلقه الله، فالشر إنما يكون في المفعولات لا في الفعل نفسه، أما فعل الله فهو خير؛ ويدلك لهذا أنه لو كان عندك مريض وقيل: إن من شفائه أن تكويَهُ بالنار، فكويْتَهُ بالنار، فالنار مؤلمة بلا شك، لكن فعلُك هذا ليس بشر، بل هو خير للمريض؛ لأنك إنما تنتظر عاقبة حميدة بهذا الكي، كذلك فعل الله للأشياء المكروهة والأشياء التي فيها شر، هي بالنسبة لفعله وإيجاده خير؛ لأنه يترتب عليها خير كثير.
فإن قال قائل: كيف تجمع بين هذا وبين قوله تعالى: ﴿ مَّآأَصَابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفسِكَ ﴾ [النساء: 79]؟
فالجواب أن نقول: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾؛ يعني: من فضله، هو الذي مَنَّ عليك بها أوَّلًا وآخرًا، ﴿ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾؛ أي: أنت سببها، وإلا فالذي قدَّرها هو الله، لكن أنت السبب؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].
وخلاصة الكلام: أن كل شيء واقع فإنه بقدر الله، سواء كان خيرًا أم شرًّا.
المصدر: «شرح رياض الصالحين» (1 / 473 - 480)
والقدر هو تقدير الله سبحانه وتعالى لِمَا يكون إلى يوم القيامة؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق القلم فقال له اكتب، قال: ربي وما أكتب؟ قال: اكتب ماهو كائن؟ فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة.
فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطاءه لم يكن ليصيبه، وقد ذكر الله هذا في كتابه إجمالًا فقال: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج: 70]، وقال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22]، من قبل أن نبرأها؛ أي: من قبل أن نخلقها؛ أي: من قبل أن نخلق الأرض، ومن قبل أن نخلق أنفسكم، ومن قبل أن نخلق المصيبة، فإن الله كتب هذا من قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
قال أهل العلم: ولا بد للإيمان بالقدر من أن تؤمن بكل مراتبه الأربع:
المرتبة الأولى: أن تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى عليم بكل شيء.
وهذا كثير في الكتاب العظيم، يذكر الله عموم علمه بكل شيء؛ كما قال الله تعالى: ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12]، ولقوله تعالى: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام:59].
المرتبة الثانية: أن تؤمن بأن الله تعالى كتب مقادير كل شيء إلى قيام الساعة، كتبه قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
فكل شيء كائن فإنه مكتوب قد انتُهيَ منه، جفَّت الأقلام وطُويَت الصحف، فما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإذا أصابك شيء لا تقل: لو فعلت كذا ما أصابني؛ لأن هذا الشيء مكتوب لابد أن يقع كما كتب سبحانه وتعالى، فلا مَفَرَّ منه مهما عملت، فالأمر سيكون على ما وقع لا يتغيَّر أبدًا؛ لأن هذا أمر قد كُتب.
فإن قال قائل: ألم يكن قد جاء في الحديث: «من أحب أن يُبسَطَ له في رزقه، ويُنسأ له في أثَرِه، فلْيَصِل رَحِمَه»؟
فالجواب: بلى قد جاء هذا، ولكن الإنسان الذي قد بُسط له في رزقه ونُسِئ له في أثره من أجل الصلة، قد كُتب أنه سيصلُ رحمه، وأنه سيُبسط له في الرزق، وأنه سيُنسأ له في الأثر، لابد أن يكون الأمر هكذا، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره»، الحديث، من أجل أن نُبادر ونسارع في صلة الرحم، وإلا فهو مكتوب أن الرجل سوف يصل رحمه ويحصل له هذا الثواب، أو أنه لن يصل رحمه ويحرم من هذا الثواب، أمرٌ منته، لكن أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا من أجل أن نحرص على صلة الرحم.
واعلم أن الكتابة في اللوح المحفوظ يعقبها كتابات أُخَر؛ منه: أن الجنين في بطن أمه إذا تم له أربعة أشهر أرسل الله إليه ملَكًا موكَّلًا بالأرحام فينفخ فيه الروح ويُؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشَقيٌّ أم سعيد، فيكتبُ ذلك.
وهذه الكتابة غير الكتابة في اللوح المحفوظ، هذه كتابة في مقتبل عمر الإنسان؛ ولهذا يسميها العلماء: الكتابة العُمرية؛ يعني نسبة للعُمر.
كذلك: هناك كتابة أخرى تكون في كل سنة، وهي في ليلة القدر، فإن ليلة القدر يكتب الله فيها ما يكون في تلك السنة، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 3، 4]، ﴿ يُفْرَقُ ﴾؛ أي: يُبيَّن ويُفصَّل؛ ولهذا سُميت ليلة القدر.
المرتبة الثالثة للإيمان بالقدر: أن تؤمن بأن كل شيء فهو بمشيئة الله، لا يخرج عن مشيئته شيء.
ولا فرق بين أن يكون هذا الواقع مما يختص الله به، كإنزال المطر وإحياء الموتى وما أشبه ذلك، أي مما يعلمه الخلق؛ كالصلاة والصيام وما أشبهها، فكل هذا بمشيئة الله، قال الله تعالى: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 28، 29].
وقال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]، فبيَّن الله سبحانه وتعالى لنا أنه لا مشيئة لنا إلا بمشيئة الله، وأن أفعالنا واقعة بمشيئة الله؛ ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ﴾، ولكن كل شيء فإنه واقع بمشيئة الله، فلا يكون في ملكه ما لا يشاء أبدًا.
ولهذا أجمع المسلمون على هذه الكلمة العظيمة: «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن».
وأما المرتبة الرابعة: فهي الإيمان بأن كل شيء مخلوق لله؛ لقول الله تبارك وتعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62]، وقال تعالى: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 2]
فكل شيء واقع فإنه مخلوق لله عز وجل، فالإنسان مخلوق لله وعمله مخلوق لله، قال الله عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو يُخاطب قومه: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96]، ففعل العبد مخلوق لله، لكن المباشر للفعل هو العبد وليس الله، لكن الله هو الذي خلق هذا الفعل ففعله العبد، فهو منسوب لله خلقًا ومنسوب إلى العبد كَسْبًا وفعلًا، فالفاعل هو العبد والكاسب هو العبد، والخالق هو الله.
فكل شيء مما يحدث فإنه مخلوق لله عز وجل؛ لكن ما كان من صفات الله فليس بمخلوق، فالقرآن مثلًا أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم لكنه ليست بمخلوق؛ لأن القرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته سبحانه، ليست مخلوقة.
هذه مراتب أربعٌ للإيمان بالقدر؛ يجب أن تؤمن بها كلها، وإلا فإنك لم تؤمن بالقدر.
وفائدة الإيمان بالقدر عظيمة جدًّا؛ لأن الإنسان إذا علم أن الشيء لابد أن يقع كما أمر الله، استراح، فإذا أُصيب بضراء صَبَر، وقال: هذا من عند الله، وإن أُصيب بسرَّاء شَكَر، وقال: هذا من عند الله.
وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمْرَهُ كلُهَّ خير، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له»؛ لأن المؤمن يؤمن أن كل شيء بقضاء الله، فيكون دائمًا في سرور، ودائمًا في انشراح؛ لأنه يعلم أن ما أصابه فإنه من الله، إن كان ضرَّاء صبر وانتظر الفرج من الله ولجأ إلى الله تعالى في كشف هذه الضراء، وإن كان سرَّاء شكر وحمد الله وعلم أن ذلك لم يكن بحوله ولا قوَّته لكن بفضل من الله ورحمة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «خيره وشرِّه»؛ الخيرُ ما ينتفع به الإنسان ويلائمه، من عِلمٍ نافع، ومالٍ واسعٍ طيِّب، وصحَّة، وأهل وبنين وما أشبه ذلك، والشرُّ ضدُّ ذلك، من الجهل والفقر والمرض وفقدان الأهل والأولاد وما أشبه هذا؛ كل هذا من الله سبحانه وتعالى، الخير والشر، فإن الله سبحانه يقدِّر الخير لحكمة ويقدِّر الشرَّ لحكمة؛ كما قال الله عز وجل: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون ﴾ [الأنبياء: 35]. فإذا علم الله أن من الخير والحكمة أن يقدِّر الشر قدَّره لما يترتب عليه من المصالح العظيمة؛ كقوله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].
فإذا قال قائل: كيف تجمع بين قول النبي عليه الصلاة والسلام: «وأن تؤمن بالقدر خيره وشره»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الشر ليس إليك»؛ فنفى أن يكون الشرُّ إليه؟
فالجواب على هذا أن نقول: إن الشر المحض لا يكون بفعل الله أبدًا، فالشر المحض الذي ليس فيه خيرٌ لا حالًا ولا مآلًا لا يمكن أن يوجد في فعل الله أبدًا، هذا من وجه؛ لأنه حتى الشر الذي قدره الله شرًّا لابد أن يكون له عاقبة حميدة، ويكون شرًّا على قوم وخيرًا عل آخرين؛ أرأيت لو أنزل الله المطر مطرًا كثيرا فأغرق زرع إنسان، لكنه نفع الأرض وانتفعت به أمة، لكان هذا خيرًا بالنسبة لمن انتفع به، شرًّا لمن تضرر به، فهو خير من وجه وشر من وجه.
ثانيا: حتى الشرُّ الذي يقدِّره الله على الإنسان هو خير في الحقيقة؛ لأنه إذا صبر واحتسب الأجر من الله نال بذلك أجرًا أكثر بأضعاف مضاعفة مما ناله من الشر، وربما يكون سببًا للاستقامة ومعرفة قدر نعمة الله على العبد فتكون العاقبة حميدة؛ ولهذا ذُكِرَ عن بعض العابدات أنها أصيبت في أصبعها أو يدها فانجرحت فصبرت وشكرت الله على هذا وقالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها!
ثم نقول: إن الشر في الحقيقة ليس في فعل الله نفسه، بل في مفعولاته، فالمفعولات هي التي فيها خير وشر، أما الفعل نفسه فهو خير؛ ولهذا قال الله عز وجل: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾ [الفلق: 1، 2]؛ أي: من شرِّ الذي خلقه الله، فالشر إنما يكون في المفعولات لا في الفعل نفسه، أما فعل الله فهو خير؛ ويدلك لهذا أنه لو كان عندك مريض وقيل: إن من شفائه أن تكويَهُ بالنار، فكويْتَهُ بالنار، فالنار مؤلمة بلا شك، لكن فعلُك هذا ليس بشر، بل هو خير للمريض؛ لأنك إنما تنتظر عاقبة حميدة بهذا الكي، كذلك فعل الله للأشياء المكروهة والأشياء التي فيها شر، هي بالنسبة لفعله وإيجاده خير؛ لأنه يترتب عليها خير كثير.
فإن قال قائل: كيف تجمع بين هذا وبين قوله تعالى: ﴿ مَّآأَصَابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفسِكَ ﴾ [النساء: 79]؟
فالجواب أن نقول: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾؛ يعني: من فضله، هو الذي مَنَّ عليك بها أوَّلًا وآخرًا، ﴿ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾؛ أي: أنت سببها، وإلا فالذي قدَّرها هو الله، لكن أنت السبب؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].
وخلاصة الكلام: أن كل شيء واقع فإنه بقدر الله، سواء كان خيرًا أم شرًّا.
المصدر: «شرح رياض الصالحين» (1 / 473 - 480)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق