بسم الله الرحمن الرحيم
التغافل.. تسعة أعشار العافية
التغافل.. تسعة أعشار العافية
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلاه إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون) [آل عمران" 102]، أما بعد:
ففي كلّ يوم يواجه الواحد منا العديد من الأشخاص، في دوائر عدة، دائرة الأسرة، والأقارب، والأصدقاء، والزملاء، وعامة الناس... ولا شك أننا نرى الكثير من الأخطاء والزلات والهفوات في كل يوم، فما كان منها منكراً، فلا بدّ من إنكاره باليدّ أو باللسان أو بالقلب..
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". رواه مسلم.
والأول يكون لذي السلطان، كربِّ الأسرة على أسرته، والأمير على رعيته...
والثاني وهو باللسان، ولا بدّ فيه من اللين، فمقام الدّعوة مختلف عن مقام الجهاد، فهذا يناسبه الحزم والشدّة والبأس، والأول يناسبه اللين والرحمة والحنان..
وتأمل الحثّ على لين الخطاب في قوله عزّ وجلّ لموسى وأخيه عليهما الصلاة والسلام، لما أرسلهما إلى فرعون مُدعي الألوهية: (اذهبا إلى فرعون إنه طغا، فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى). [طه: 43-44].
سبحان الله، إذا كانت هذه رحمتك بمن قال أنا ربكم الأعلى، فكيف بمن يقول سبحان ربي الأعلى!
أما الثالث وهو الإنكار بالقلب، فهو أن تنكر بقلبك إن لم تستطع التغيير باليد أو اللسان، فإن لم تستطع فغادر المكان، ولا تبقى فيه..
التغافل هو..
بيد أن هناك أخطاءً وزلات، لا تعدّ منكراً شرعياً، تصدر من الناس الأقارب والأباعد، فلو تتبعتها، لفرّ الناس منك فرارهم من الأسد، وغَضُّ الطرف عن مثل هذه الأخطاء أمر حسن، هو ما يسمى بـ"التغافل"، وهو:
التغاضي وعدم التركيز على الأخطاء والزلات والهفوات الصغيرة، تكرماً وحلماً وترفعاً عن سفاسف الأمور وصغائرها، وترفقاً بالآخرين.
وإن شئت قل: هو تكلف الغفلة مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه تكرماً وترفعاً عن سفاسف الأمور.
أحبُ من الأخوانِ كلّ مواتيِ وكلّ غضيضُ الطّرفِ عن هفواتِ
قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: "تسعة أعشار العافية في التغافل".
وقال الإمام الزاهد الحسن البصري رحمه الله تعالى: "ما زال التغافل من فعل الكرام".
أعرف شخصاً لا يعرف من التغافل إلا اسمه، ففي بيته لو رأى فرضاً إناء في غير موضعه، زمجر وغضب، وفي عمله لو رأى أحداً يجرّ قدميه من التعب أنكر، فيريد المسكين كل شئ على التمام والكمال، لا يريد الناس أن تخطئ البتة، سبحان ربي!
من ذا الذي ما أساء قط ومن الذي له الحسنى فقط؟
وتجد بعضهم إذا ركب سيارته، لا ينزل منها إلا بقائمة طويلة من الملاحظات السلبية التي رآها في طريقه واحتفظ بها في ذهنه.
فمثل هذا يتعب ويُتعب، ولا يألف ولا يؤلف، حيث أن الناس لا يحبون من يُذكرهم بعيوبهم أو يتبع زلاتهم، ومثل صاحبنا الكثير، فقلّ من يتحلى بصفة التغافل، يقول الإمام الشعبي رحمه الله "لو أصبت تسعاً وتسعين وأخطأت واحدة لأخذوا الواحدة وتركوا التسع والتسعين"!
يزيد الألفة..
وعندما يصحب الرجل رجلاً آخر لا يتتبع الهفوات، ولا ينظر إلى سفاسف الأمور، فإن مثل هذه العلاقة تدوم، قال الأعمش رحمه الله تعالى: "التغافل يطفئ شراً كثيراً"، وقال بعض العارفين: "تناسَ مساوئ الإخوان تستدِم ودّهم".
تغافل في الأمور ولا تكثر تقصيها فالاستقصاء فرقة
وسامح في حقوقك بعض شيء فما استوفى كريم قط حقه
قال أكثم بن صيفي: "من تشدّد فرّق، ومن تراخى تألف، والسرور في التغافل".
وقيل: من شدد نفّر، ومن تراخى تألف.
وأنشدوا:
ومن لا يغمض عينه عن صديقه وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
أغمض عيني عن صديقي تغافلاً كأني بما يأتي من الأمر جاهل
تغافل تسد..
قال الامام ابن القيم رحمنا الله وإياه: "قال ابو علي الدقاق: جاءت امراة فسألت حاتما [الأصم] عن سألة فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة فخجلت فقال حاتم ارفعي صوتك، فأوهمها أنه أصم فسرت بذلك وقالت إنه لم يسمع الصوت فسرت بذلك ولقب بحاتم الأصم، وهذا التغافل هو نصف الفُتوَّة".
فيا أيها الكريم، ترفّع عن زلل الإخوان وسفاسف الأمور وارق إلى معاليها، فما ساد متتبع الهفوات، قال المتنبي:
ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي
وهذا كقول بعض الحكماء: "الكرمُ مِكْيالٌ ثُلُثاه التَّغابي".
وقال جعفر رحمه الله: "عظموا أقدراكم بالتغافل".
إذاً هو خلق الكرام، وميزة العظام، به يدوم الوئام، وتروض اللئام، به تألفك الناس وتألفها، وتحبك وتحبها، وتذكر أن من تتبع عورات الناس تتبعوا عوراته، وكما يقول المثل: إذا كان بيتك من زجاج فلا ترم الناس بالحجارة!
ثم اعلم يا رعاك الله أنك إن طلبت أخاً بلا عيب عشت سجيناً وإن كنت تمشي بين الناس، قال الفضيل بن عياض: من طلب أخاً بلا عيب بقي بلا أخ.
ومن ظريف كلام أبي العباس أول ملوك بني العباس: التغافل عن ذنوب الناس وعيوبهم من أخلاق الكرام، والتهاون بمفاضحتهم من أخلاق اللئام. والحمد لله رب العالمين.
صالح الشناط
__________________
قال شيخنا ابن القيم رحمه الله: كمال الإنسان بهمة ترقيه وعلم يبصره ويهديه.
ففي كلّ يوم يواجه الواحد منا العديد من الأشخاص، في دوائر عدة، دائرة الأسرة، والأقارب، والأصدقاء، والزملاء، وعامة الناس... ولا شك أننا نرى الكثير من الأخطاء والزلات والهفوات في كل يوم، فما كان منها منكراً، فلا بدّ من إنكاره باليدّ أو باللسان أو بالقلب..
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". رواه مسلم.
والأول يكون لذي السلطان، كربِّ الأسرة على أسرته، والأمير على رعيته...
والثاني وهو باللسان، ولا بدّ فيه من اللين، فمقام الدّعوة مختلف عن مقام الجهاد، فهذا يناسبه الحزم والشدّة والبأس، والأول يناسبه اللين والرحمة والحنان..
وتأمل الحثّ على لين الخطاب في قوله عزّ وجلّ لموسى وأخيه عليهما الصلاة والسلام، لما أرسلهما إلى فرعون مُدعي الألوهية: (اذهبا إلى فرعون إنه طغا، فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى). [طه: 43-44].
سبحان الله، إذا كانت هذه رحمتك بمن قال أنا ربكم الأعلى، فكيف بمن يقول سبحان ربي الأعلى!
أما الثالث وهو الإنكار بالقلب، فهو أن تنكر بقلبك إن لم تستطع التغيير باليد أو اللسان، فإن لم تستطع فغادر المكان، ولا تبقى فيه..
التغافل هو..
بيد أن هناك أخطاءً وزلات، لا تعدّ منكراً شرعياً، تصدر من الناس الأقارب والأباعد، فلو تتبعتها، لفرّ الناس منك فرارهم من الأسد، وغَضُّ الطرف عن مثل هذه الأخطاء أمر حسن، هو ما يسمى بـ"التغافل"، وهو:
التغاضي وعدم التركيز على الأخطاء والزلات والهفوات الصغيرة، تكرماً وحلماً وترفعاً عن سفاسف الأمور وصغائرها، وترفقاً بالآخرين.
وإن شئت قل: هو تكلف الغفلة مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه تكرماً وترفعاً عن سفاسف الأمور.
أحبُ من الأخوانِ كلّ مواتيِ وكلّ غضيضُ الطّرفِ عن هفواتِ
قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: "تسعة أعشار العافية في التغافل".
وقال الإمام الزاهد الحسن البصري رحمه الله تعالى: "ما زال التغافل من فعل الكرام".
أعرف شخصاً لا يعرف من التغافل إلا اسمه، ففي بيته لو رأى فرضاً إناء في غير موضعه، زمجر وغضب، وفي عمله لو رأى أحداً يجرّ قدميه من التعب أنكر، فيريد المسكين كل شئ على التمام والكمال، لا يريد الناس أن تخطئ البتة، سبحان ربي!
من ذا الذي ما أساء قط ومن الذي له الحسنى فقط؟
وتجد بعضهم إذا ركب سيارته، لا ينزل منها إلا بقائمة طويلة من الملاحظات السلبية التي رآها في طريقه واحتفظ بها في ذهنه.
فمثل هذا يتعب ويُتعب، ولا يألف ولا يؤلف، حيث أن الناس لا يحبون من يُذكرهم بعيوبهم أو يتبع زلاتهم، ومثل صاحبنا الكثير، فقلّ من يتحلى بصفة التغافل، يقول الإمام الشعبي رحمه الله "لو أصبت تسعاً وتسعين وأخطأت واحدة لأخذوا الواحدة وتركوا التسع والتسعين"!
يزيد الألفة..
وعندما يصحب الرجل رجلاً آخر لا يتتبع الهفوات، ولا ينظر إلى سفاسف الأمور، فإن مثل هذه العلاقة تدوم، قال الأعمش رحمه الله تعالى: "التغافل يطفئ شراً كثيراً"، وقال بعض العارفين: "تناسَ مساوئ الإخوان تستدِم ودّهم".
تغافل في الأمور ولا تكثر تقصيها فالاستقصاء فرقة
وسامح في حقوقك بعض شيء فما استوفى كريم قط حقه
قال أكثم بن صيفي: "من تشدّد فرّق، ومن تراخى تألف، والسرور في التغافل".
وقيل: من شدد نفّر، ومن تراخى تألف.
وأنشدوا:
ومن لا يغمض عينه عن صديقه وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
أغمض عيني عن صديقي تغافلاً كأني بما يأتي من الأمر جاهل
تغافل تسد..
قال الامام ابن القيم رحمنا الله وإياه: "قال ابو علي الدقاق: جاءت امراة فسألت حاتما [الأصم] عن سألة فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة فخجلت فقال حاتم ارفعي صوتك، فأوهمها أنه أصم فسرت بذلك وقالت إنه لم يسمع الصوت فسرت بذلك ولقب بحاتم الأصم، وهذا التغافل هو نصف الفُتوَّة".
فيا أيها الكريم، ترفّع عن زلل الإخوان وسفاسف الأمور وارق إلى معاليها، فما ساد متتبع الهفوات، قال المتنبي:
ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي
وهذا كقول بعض الحكماء: "الكرمُ مِكْيالٌ ثُلُثاه التَّغابي".
وقال جعفر رحمه الله: "عظموا أقدراكم بالتغافل".
إذاً هو خلق الكرام، وميزة العظام، به يدوم الوئام، وتروض اللئام، به تألفك الناس وتألفها، وتحبك وتحبها، وتذكر أن من تتبع عورات الناس تتبعوا عوراته، وكما يقول المثل: إذا كان بيتك من زجاج فلا ترم الناس بالحجارة!
ثم اعلم يا رعاك الله أنك إن طلبت أخاً بلا عيب عشت سجيناً وإن كنت تمشي بين الناس، قال الفضيل بن عياض: من طلب أخاً بلا عيب بقي بلا أخ.
ومن ظريف كلام أبي العباس أول ملوك بني العباس: التغافل عن ذنوب الناس وعيوبهم من أخلاق الكرام، والتهاون بمفاضحتهم من أخلاق اللئام. والحمد لله رب العالمين.
صالح الشناط
__________________
قال شيخنا ابن القيم رحمه الله: كمال الإنسان بهمة ترقيه وعلم يبصره ويهديه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق