لقد قرَّر علماءُ الاجتماع، ومنهم ابنُ خَلدون في مقدمته أنَّ الإنسان مدنيُّ الطبع؛ لذلك فهو دائمًا يعيش في المجتمعات، ويَسعى لإنشائها.
وفي سَعْي الإنسانية لبناء المجتمعات، تقرَّر لديهم أنَّه لا بُدَّ لهذا المجتمع من نظامٍ عام، ينضوي تحته أفرادُ هذا المجتمع، يحدِّد حرياتِهم، وينظم العلاقةَ بينهم، ويُجازي المعتدي منهم، ويُثيب المحسن، وتكون له مجموعة من القواعد والأعراف، تحمد أو تذم عند أفراده، ولا شك أن هذه الأمور تُبْنَى على أساسٍ يكون بمنزلة القاعدة لها.
ولو نظرنا عبر العصور وعلى اختلاف الأمم، نجد أن كل أمَّة اتخذتْ أساسًا لها - وهو ما يسمى الآن أيديولوجية - وبنت عليه قوانينَها، والنظام الذي تسير بموجبه.
فعلى سبيل المثال، مُجتمع الفُرس قبل الإسلام جعلوا القوة والقوميَّة الفارسية هي أساس نظام المجتمع، أمَّا العرب فكانت القبيلة، وجَعل الرُّومانُ المالَ والنفوذَ، ونرى الآن مجتمعاتٍ جعلوا الحرية المطلقة، أو العلمانية، أو الاشتراكية هي أساس نظام المجتمع.
ولا شكَّ أن كل مجتمع تأثَّر سلبًا أو إيجابًا بالأساس الذي وضعه؛ ليقوم عليه النظام العام للمجتمع، وتُستوحَى منه القوانين، حسب صلاح أو فساد ذلك الأساس.
وجاء الإسلام، فوضع معيارًا جديدًا لقيام المجتمع، ألا وهو العقيدة الإسلامية، فالمطلوب من المسلم في حياته هو إقامة الدين والدُّنيا لله - سبحانه وتعالى - والتعبُّد بذلك، وكما قلنا: إن الإنسان مدني الطبع، وهذا أيضًا ما تعلمه المسلمُ من دينه؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 14].
لذلك كان من البَدَهي أن يكون أساس قيام المجتمع العقيدةَ الإسلامية.
وبنظرة إلى الفَرْق بين الأسس الأخرى والإسلام، نَجد أنَّ الإسلام هو أصلحُ نظام يقوم عليه المجتمعُ؛ إذ كانت المجتمعات تقوم على أساس العِرْق، وليس لأحد اختيارُ عرقه، أو اللون وليس لأحد اختيار لونه، أو القبيلة وليس لأحد أيضًا اختيارُ قبيلته، وبذلك يكون أساس المجتمع قام من أجل فئة معينة، لا يصلح انضمام أي أحدٍ إليها.
أمَّا الإسلام، فهو أساسٌ وُضع للعالمين، ويقرر أنَّ أصل البشر واحد؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [النساء: 2]، وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيةَ الجاهلية وفخرَها بالآباء؛ مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدَعنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوام إنَّما هم فحمٌ من فحم جهنم، أو ليكونُنَّ أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن))؛ حسنه الألباني، فيستطيع أيُّ أحد الدخول إلى المجتمع الإسلامي من أي قبيلة أو عِرْق، وكذلك لا يوجد إقليمٌ مُفضَّل عن آخر، فالأرض كلها لله، فبمجرد النطق بالشَّهادتين، يصبح عضوًا في المجتمع الإسلامي، له كل الحقوق، وعليه كل الواجبات، شأنه شأن كل المسلمين.
أما إن رفض الدُّخول والانضمام إلى الإسلام، فإنه يستطيع أن يعيش بين المسلمين تحت عقد الذِّمة، وتكون له الحرية في ممارسة دينه، وله الأمان، ولكن بشرط الدخول تحت النظام العام الإسلامي.
ثم ننظر الآن إلى أثر اتِّخاذِ المجتمعِ العقيدةَ الإسلامية أساسًا له، وأثر هذه العَقيدة في تنظيم العَلاقة بين أفراده، والآثار الإيجابية التي تنتج عنها.
فبالنسبة للعلاقة بين أفراد المجتمع ككل، تُقرِّر العقيدةُ الإسلامية أنَّ التفاضُل بين الناس إنَّما يكون بالتقوى والصلاح وحسن الأخلاق؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 14]، وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحسنكم خلقًا))؛ حسنه الألباني.
كما تقوم العلاقةُ بينهم أيضًا على الأخُوة الإيمانية، فكما قلنا: إنَّ الإسلام يَعُدُّ أصلَ الناس واحدًا، وأن أباهم واحد، وأن المؤمنين إخوة في الدين؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 11]، وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المسلم أخو المسلم، لا يَظلمه ولا يُسلِمه، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلمٍ كربةً، فرج الله عنه كربةً من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة))؛ متفق عليه، وبذلك تذوب العصبية للجنس، أو القبيلة، أو اللون؛ إذ اعتبرها الإسلام من نتن القول والفعل؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - لما هاجت العصبية للقبيلة بين المهاجرين والأنصار: ((دَعُوها فإنَّها مُنْتِنَة)).
بل يكون الولاء والعداء، والحب والبغض لله وفي الله، هذا هو المعيار في المجتمع الإسلامي؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ [المائدة: 56]، وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أوثقُ عُرى الإيمان الموالاةُ في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله)؛ حسنه الألباني.
وتكون المودة والرحمة هي سِمَةَ المجتمع المسلم، فيكون المجتمع كالبُنيان الواحد؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطفهم مثلُ الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَر والحُمَّى))؛ متفق عليه.
والمجتمعات بطبيعة الحال تتكون من أفراد وأسر، ولننظر الآن إلى عناية النظام الإسلامي بالفرد والأسرة.
الأسرة هي أساس كِيان المجتمع، وهي كالخلية للجسم؛ ولذلك تؤثِّر سلبًا وإيجابًا على المجتمع من حيث صلاح المجتمع وفساده؛ لذلك فقد اهتمَّ الإسلام بالأسرة وتكوينها أشدَّ اهتمام، ويتجلى ذلك في القرآن والسنة.
ومن معالم ذلك الاهتمام:
1 - الزواج:
إنَّ الزواج هو السبيل الوحيد في الإسلام لتكوين الأسرة، وتتحوَّل هذه العَلاقة الاجتماعية إلى عبادة في الإسلام، فمن الضَّروريَّات الخمس التي يُحافظ عليها الإسلام: حفظ النفس، وبقاء الجنس البشري.
وقد رغَّب الإسلام في الزواج؛ قال - تعالى -: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ﴾ [النور: 33]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا معشرَ الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر وأحصَنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء))؛ متفق عليه، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تزوَّجوا الوَلودَ الودودَ، فإني مُكاثِرٌ بكم))؛ أخرجه الطبراني في الكبير وصححه الألباني.
وقد شرع الإسلامُ للزَّواج إجراءات مُعينة؛ تشريفًا وتكريمًا لهذه العبادة، مثل الخِطبة: وهي طلب المرأة للزواج من وليِّها الشَّرعي، وغرضُها أن يعرف الخاطب مَخطوبته، حتى إذا أقدما على الزواج يكون ذلك عن أُلْفة.
ووضع الإسلام أيضًا معايير للخطبة، ولا جرم سيستصحب فيها أصل النظام، فقد جعل الدين هو المعيار الجديد للزوجة الصالحة، وأنه مقدَّم على ما سواه؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تُنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفرْ بذاتِ الدِّين تربت يداك))؛ متفق عليه.
ومثل الصَّداق: وهو مالٌ يُقدِّمه الزوج إلى زوجته بما استحلَّ من فرجها، وهو ملك خاصٌّ للمرأة دون وليها.
ومثل وجوب الإشهار؛ لحماية الأنساب، ولكي لا يُسيء المسلمون الظنَّ بعضهم ببعض.
ويترتب على هذا الزَّواجِ حقوقٌ لكل من الزوج والزوجة، مثل: وجوب النفقة على الزوج، ووجوب الطاعة على الزوجة، وعلى كل منهما مُعاملة الآخر بالمعروف؛ قال - تعالى -: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 229].
ومن معالم اهتمام الإسلام بالأسرة أيضًا:
2 - الطلاق: وهو مفارقة الرجل للمرأة، ويحق له ذلك، غيرَ أنه في الأصل غير مُرغَّب فيه، ولكن في بعض الأحيان قد يكون بمنزلة العلاج، عند استحالة العِشْرة بين الزوجين.
ولكي لا يتسرَّع المسلم في إيقاع الطلاق، وَضَع النظامُ الإسلاميُّ له مراحلَ وآدابًا، مثل التشكيك في حقيقة شعور الرجل تُجاه المرأة؛ قال - تعالى -: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 20]، ومثل مُحاولة تقويم المرأة؛ قال - تعالى -: ﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ﴾ [النساء: 35]، ومثل التحاكم إلى ذوي العقول والخبرة؛ قال - تعالى -: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ﴾ [النساء: 36]، مثل وجوب الطلاق في الطُّهر الذي لم يُجامعها فيه، وقد جعل له ثلاثَ طلقات حتى يراجعها إذا ندم، وأيضًا جعل الطلاق في يد الرجل، فهو أقل عاطفة وأكثر حِكْمة من المرأة.
كل ذلك حفاظًا على تلك الرابطة المقدسة في النظام الاجتماعي الإسلامي.
ثم تكون الثمرة من هذا الزواج، وهي ولادة الصِّغار، وقد جعل لهم الإسلامُ حقوقًا على الأبوين؛ مثل إيجاب الإرضاع على الأم، والنَّفقة على الأب، ووجوب التربية، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العبادات؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عَلِّموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين، واضربوه عليها ابن عشر))؛ صححه الألباني.
وأيضًا فقد جعل الإسلام حقوقًا للأبوين على الأولاد؛ فهما سببُ الحياة لهم، فمن الوفاء لهما القيام بحقهما؛ مثل: وجوب الإحسان لهما، والرِّفق بهما، ولين القول لهما؛ قال - تعالى -: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 24].
ومن المعالم أيضًا:
3 - الميراث:
يقوم نظام الميراث في الإسلام على أصلٍ من الفطرة، فإنَّ الإنسان إذا علم أنَّ ماله سوف يذهب إلى غيره بعد موته، فلن يَسعى إلاَّ إلى تحصل ما يكفيه في حياته، أمَّا إذا علم أنه سيذهب لأولاده الذين هم بَضعة منه، فإنه يكون مسرورًا بذلك.
وقد قام نظامُ المواريث على أساس العدل، وأن الغُنم بالغُرم، ولم يرضَ الله بتقسيم أحد له؛ بل قسمه - سبحانه وتعالى -: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ... ﴾ [النساء: 11] الآيات.
إنَّ الناظر بتأمُّل إلى النظام الاجتماعي في الإسلام، يعلمُ أنه أفضلُ نظام؛ بل النظام الوحيد الذي يُحقق للبشرية الاستقرارَ والأمان على وجه الأرض؛ فهو نظام رب العالمين، أنزله بحكمته لمن خلقهم؛ ﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 15].
وفي سَعْي الإنسانية لبناء المجتمعات، تقرَّر لديهم أنَّه لا بُدَّ لهذا المجتمع من نظامٍ عام، ينضوي تحته أفرادُ هذا المجتمع، يحدِّد حرياتِهم، وينظم العلاقةَ بينهم، ويُجازي المعتدي منهم، ويُثيب المحسن، وتكون له مجموعة من القواعد والأعراف، تحمد أو تذم عند أفراده، ولا شك أن هذه الأمور تُبْنَى على أساسٍ يكون بمنزلة القاعدة لها.
ولو نظرنا عبر العصور وعلى اختلاف الأمم، نجد أن كل أمَّة اتخذتْ أساسًا لها - وهو ما يسمى الآن أيديولوجية - وبنت عليه قوانينَها، والنظام الذي تسير بموجبه.
فعلى سبيل المثال، مُجتمع الفُرس قبل الإسلام جعلوا القوة والقوميَّة الفارسية هي أساس نظام المجتمع، أمَّا العرب فكانت القبيلة، وجَعل الرُّومانُ المالَ والنفوذَ، ونرى الآن مجتمعاتٍ جعلوا الحرية المطلقة، أو العلمانية، أو الاشتراكية هي أساس نظام المجتمع.
ولا شكَّ أن كل مجتمع تأثَّر سلبًا أو إيجابًا بالأساس الذي وضعه؛ ليقوم عليه النظام العام للمجتمع، وتُستوحَى منه القوانين، حسب صلاح أو فساد ذلك الأساس.
وجاء الإسلام، فوضع معيارًا جديدًا لقيام المجتمع، ألا وهو العقيدة الإسلامية، فالمطلوب من المسلم في حياته هو إقامة الدين والدُّنيا لله - سبحانه وتعالى - والتعبُّد بذلك، وكما قلنا: إن الإنسان مدني الطبع، وهذا أيضًا ما تعلمه المسلمُ من دينه؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 14].
لذلك كان من البَدَهي أن يكون أساس قيام المجتمع العقيدةَ الإسلامية.
وبنظرة إلى الفَرْق بين الأسس الأخرى والإسلام، نَجد أنَّ الإسلام هو أصلحُ نظام يقوم عليه المجتمعُ؛ إذ كانت المجتمعات تقوم على أساس العِرْق، وليس لأحد اختيارُ عرقه، أو اللون وليس لأحد اختيار لونه، أو القبيلة وليس لأحد أيضًا اختيارُ قبيلته، وبذلك يكون أساس المجتمع قام من أجل فئة معينة، لا يصلح انضمام أي أحدٍ إليها.
أمَّا الإسلام، فهو أساسٌ وُضع للعالمين، ويقرر أنَّ أصل البشر واحد؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [النساء: 2]، وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيةَ الجاهلية وفخرَها بالآباء؛ مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدَعنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوام إنَّما هم فحمٌ من فحم جهنم، أو ليكونُنَّ أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن))؛ حسنه الألباني، فيستطيع أيُّ أحد الدخول إلى المجتمع الإسلامي من أي قبيلة أو عِرْق، وكذلك لا يوجد إقليمٌ مُفضَّل عن آخر، فالأرض كلها لله، فبمجرد النطق بالشَّهادتين، يصبح عضوًا في المجتمع الإسلامي، له كل الحقوق، وعليه كل الواجبات، شأنه شأن كل المسلمين.
أما إن رفض الدُّخول والانضمام إلى الإسلام، فإنه يستطيع أن يعيش بين المسلمين تحت عقد الذِّمة، وتكون له الحرية في ممارسة دينه، وله الأمان، ولكن بشرط الدخول تحت النظام العام الإسلامي.
ثم ننظر الآن إلى أثر اتِّخاذِ المجتمعِ العقيدةَ الإسلامية أساسًا له، وأثر هذه العَقيدة في تنظيم العَلاقة بين أفراده، والآثار الإيجابية التي تنتج عنها.
فبالنسبة للعلاقة بين أفراد المجتمع ككل، تُقرِّر العقيدةُ الإسلامية أنَّ التفاضُل بين الناس إنَّما يكون بالتقوى والصلاح وحسن الأخلاق؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 14]، وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحسنكم خلقًا))؛ حسنه الألباني.
كما تقوم العلاقةُ بينهم أيضًا على الأخُوة الإيمانية، فكما قلنا: إنَّ الإسلام يَعُدُّ أصلَ الناس واحدًا، وأن أباهم واحد، وأن المؤمنين إخوة في الدين؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 11]، وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المسلم أخو المسلم، لا يَظلمه ولا يُسلِمه، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلمٍ كربةً، فرج الله عنه كربةً من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة))؛ متفق عليه، وبذلك تذوب العصبية للجنس، أو القبيلة، أو اللون؛ إذ اعتبرها الإسلام من نتن القول والفعل؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - لما هاجت العصبية للقبيلة بين المهاجرين والأنصار: ((دَعُوها فإنَّها مُنْتِنَة)).
بل يكون الولاء والعداء، والحب والبغض لله وفي الله، هذا هو المعيار في المجتمع الإسلامي؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ [المائدة: 56]، وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أوثقُ عُرى الإيمان الموالاةُ في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله)؛ حسنه الألباني.
وتكون المودة والرحمة هي سِمَةَ المجتمع المسلم، فيكون المجتمع كالبُنيان الواحد؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطفهم مثلُ الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَر والحُمَّى))؛ متفق عليه.
والمجتمعات بطبيعة الحال تتكون من أفراد وأسر، ولننظر الآن إلى عناية النظام الإسلامي بالفرد والأسرة.
الأسرة هي أساس كِيان المجتمع، وهي كالخلية للجسم؛ ولذلك تؤثِّر سلبًا وإيجابًا على المجتمع من حيث صلاح المجتمع وفساده؛ لذلك فقد اهتمَّ الإسلام بالأسرة وتكوينها أشدَّ اهتمام، ويتجلى ذلك في القرآن والسنة.
ومن معالم ذلك الاهتمام:
1 - الزواج:
إنَّ الزواج هو السبيل الوحيد في الإسلام لتكوين الأسرة، وتتحوَّل هذه العَلاقة الاجتماعية إلى عبادة في الإسلام، فمن الضَّروريَّات الخمس التي يُحافظ عليها الإسلام: حفظ النفس، وبقاء الجنس البشري.
وقد رغَّب الإسلام في الزواج؛ قال - تعالى -: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ﴾ [النور: 33]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا معشرَ الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر وأحصَنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء))؛ متفق عليه، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تزوَّجوا الوَلودَ الودودَ، فإني مُكاثِرٌ بكم))؛ أخرجه الطبراني في الكبير وصححه الألباني.
وقد شرع الإسلامُ للزَّواج إجراءات مُعينة؛ تشريفًا وتكريمًا لهذه العبادة، مثل الخِطبة: وهي طلب المرأة للزواج من وليِّها الشَّرعي، وغرضُها أن يعرف الخاطب مَخطوبته، حتى إذا أقدما على الزواج يكون ذلك عن أُلْفة.
ووضع الإسلام أيضًا معايير للخطبة، ولا جرم سيستصحب فيها أصل النظام، فقد جعل الدين هو المعيار الجديد للزوجة الصالحة، وأنه مقدَّم على ما سواه؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تُنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفرْ بذاتِ الدِّين تربت يداك))؛ متفق عليه.
ومثل الصَّداق: وهو مالٌ يُقدِّمه الزوج إلى زوجته بما استحلَّ من فرجها، وهو ملك خاصٌّ للمرأة دون وليها.
ومثل وجوب الإشهار؛ لحماية الأنساب، ولكي لا يُسيء المسلمون الظنَّ بعضهم ببعض.
ويترتب على هذا الزَّواجِ حقوقٌ لكل من الزوج والزوجة، مثل: وجوب النفقة على الزوج، ووجوب الطاعة على الزوجة، وعلى كل منهما مُعاملة الآخر بالمعروف؛ قال - تعالى -: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 229].
ومن معالم اهتمام الإسلام بالأسرة أيضًا:
2 - الطلاق: وهو مفارقة الرجل للمرأة، ويحق له ذلك، غيرَ أنه في الأصل غير مُرغَّب فيه، ولكن في بعض الأحيان قد يكون بمنزلة العلاج، عند استحالة العِشْرة بين الزوجين.
ولكي لا يتسرَّع المسلم في إيقاع الطلاق، وَضَع النظامُ الإسلاميُّ له مراحلَ وآدابًا، مثل التشكيك في حقيقة شعور الرجل تُجاه المرأة؛ قال - تعالى -: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 20]، ومثل مُحاولة تقويم المرأة؛ قال - تعالى -: ﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ﴾ [النساء: 35]، ومثل التحاكم إلى ذوي العقول والخبرة؛ قال - تعالى -: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ﴾ [النساء: 36]، مثل وجوب الطلاق في الطُّهر الذي لم يُجامعها فيه، وقد جعل له ثلاثَ طلقات حتى يراجعها إذا ندم، وأيضًا جعل الطلاق في يد الرجل، فهو أقل عاطفة وأكثر حِكْمة من المرأة.
كل ذلك حفاظًا على تلك الرابطة المقدسة في النظام الاجتماعي الإسلامي.
ثم تكون الثمرة من هذا الزواج، وهي ولادة الصِّغار، وقد جعل لهم الإسلامُ حقوقًا على الأبوين؛ مثل إيجاب الإرضاع على الأم، والنَّفقة على الأب، ووجوب التربية، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العبادات؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عَلِّموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين، واضربوه عليها ابن عشر))؛ صححه الألباني.
وأيضًا فقد جعل الإسلام حقوقًا للأبوين على الأولاد؛ فهما سببُ الحياة لهم، فمن الوفاء لهما القيام بحقهما؛ مثل: وجوب الإحسان لهما، والرِّفق بهما، ولين القول لهما؛ قال - تعالى -: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 24].
ومن المعالم أيضًا:
3 - الميراث:
يقوم نظام الميراث في الإسلام على أصلٍ من الفطرة، فإنَّ الإنسان إذا علم أنَّ ماله سوف يذهب إلى غيره بعد موته، فلن يَسعى إلاَّ إلى تحصل ما يكفيه في حياته، أمَّا إذا علم أنه سيذهب لأولاده الذين هم بَضعة منه، فإنه يكون مسرورًا بذلك.
وقد قام نظامُ المواريث على أساس العدل، وأن الغُنم بالغُرم، ولم يرضَ الله بتقسيم أحد له؛ بل قسمه - سبحانه وتعالى -: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ... ﴾ [النساء: 11] الآيات.
إنَّ الناظر بتأمُّل إلى النظام الاجتماعي في الإسلام، يعلمُ أنه أفضلُ نظام؛ بل النظام الوحيد الذي يُحقق للبشرية الاستقرارَ والأمان على وجه الأرض؛ فهو نظام رب العالمين، أنزله بحكمته لمن خلقهم؛ ﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 15].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق