من خلق الله؟ وسوسة أم إشكال معرفي؟ إجابات مريحة ومقنعة.
إعداد: بوودن دحمان حذيفة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد:
إن الإيمان بوجود الخالق سبحانه ليس أمرا قلبي قائم على تصديق الرسل فقط. بل إن الإيمان الصحيح المعتبر هو الإيمان القائم على الدليل والعلم، كما قال تعالى: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ" - محمد: 19- وقد كان ومازال علماء الإسلام يواجهون الملاحدة الذين ينكرون وجود الخالق بقانون السببية الذي لا يمكن لأي عاقل أن يتوقف فيه فضلا على أن يرده. هذا القانون الذي ينص على أن "لكل حادث مُحدث" وهو حكم عقلي يدركه حتى رعاة الإبل في الصحراء، حيث يعبرون عنه بقولهم: "البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير" فلا يخالف هذا القانون إلا صاحب عقل مريض شأن المجانين، أو صاحب عقل قاصر شأن الطفل الذي يكسر الإناء ثم يقول: انكسر بنفسه خوفا من العقاب!.
وإذا كان الله قد خلقنا وخلق العالم من حولنا، فمن خلق الله؟! سؤال بات يُوجهه الكثير من الملاحدة اليوم اعتراضا على إيماننا بالله تعالى. بل إنني أجزم أن هذا السؤال حبيس أدراج عقول الكثير من الأطفال والشباب اليوم، ما يمنعهم من طرحه إلا خوفا منهم أن يُقابلوا بالزجر والنهي أو حتى التكفير والعياذ بالله! في الوقت الذي لا يوجد عندنا في ديننا أي إشكال في الإجابة على أي سؤال.
لكن وقبل أن يُناقش هذا السؤال بالذات، لا بد من الاتفاق والجزم أولا بوجود الله تعالى، لأنه هو المقصود بالسؤال أصلا، وقديما عبر علماءنا عن هذا بقولهم: "أثبِت الْعَرْش ثمَّ انقش" فالظل لا يستقيم والعود أعوج. ففي حالة عدم القول بوجود الله، فالنقاش حول من خلق الله؟ يُعد تخبُّط في الفراغ.
أما السؤال من خلق الله؟ بعد الاتفاق على وجوده، فإن التعامل معه يختلف باختلاف سببه، فإما أن يكون الإشكال ناتجا عن وساوس شيطانية وإما أن يكون السائل واقعا في إشكال معرفي بحق، وهذا لا ينفع معه إلا الجواب المنطقي كما سيأتي بيانه. وأما إن كان السائل به وساوس شيطانيةً فعليه الاستعاذة بالله منها وترك الاسترسال معها، لأن الأجوبة مع المُوَسوَسين لا تشفي غليلا ولا ترفع حيرةً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: مَن خلق كذا؟ مَن خلق كذا؟ حتى يقول: مَن خلق ربَّك؟ فإذا بلغَه، فليستعذ بالله ولْيَنتَهِ" – رواه البخاري في صحيحه-.
ولا ينبغي أن يُفهم قوله صلى الله عليه وسلم: "فليستعذ بالله وَلْيَنْتَهِ" على أنه هروب من السؤال أو تعطيل للعقل، بل هو الموقف العقلي الصحيح، لأن ذلك السؤال يخالف البدهيات العقلية وإن كان مكونا من كلمات عادية، فهو يشبه إلى حد كبير سؤال: من هي زوجة العازب؟! أو كسؤال من أخبرك أنه كان أول العدائين: نعم ولكن من الذي سبقك؟! ولله المثل الأعلى. يقول ابن تيمية رحمه الله عن هذا السؤال في كتابه الفحْل "درء تعارض العقل والنقل": "من المعلوم بالعلم الضروري الفطري لكل مَن سلِمتْ فطرته مِن بني آدم أنه سؤال فاسد، وأنه يمتنع أن يكون لخالقِ كلِّ مخلوقٍ خالقٌ، فإنه لو كان له خالقٌ لكان من جملة المخلوقات، والمخلوقات كلها لا بد لها من خالق، وهذا معلوم بالضرورة والفطرة"- ج: 3، ص: 314 بتصرف يسير -
وعليه فإن جواب سؤال من خلق الله؟ يكون بإبطال التسلسل الممتنع عقلا. ولتوضيح ذلك نفترض أن الله أوجده خالق آخر- تعالى الله عنه ذلك- وهنا لا شك أن السؤال سيطرح من جديد: ومن أوجد خالق الخالق؟ والأمر لا يقف هنا فحسب، بل إن السؤال سيطرح أيضا: ومن أوجد خالق خالق الخالق؟؟...وهكذا إلى ما لا بداية. لأن السؤال عمن خلق الله ليس بأولى من السؤال عَمَّنْ خلق خالقَ الله؟ ولا بأولى من السؤال عَمَّنْ خلقَ خالقَ خالقِ الله؟؟.. وهكذا يفتح هذا السؤال أسئلة لا بداية لها أبدًا. ونتيجة ذلك أنْ لا يحصل خلق أصلا، لأنه لو كان الله مخلوقًا لصار من جملة المخلوقات ولما استطاع أن يخلق ويُوجد هذا الكون، فكل من يفتقر لغيره في إيجاد نفسه، فهو أعجز عن إيجاد غيره، لأنه كما قيل: "فاقد الشيء لا يعطيه". ولكن وجود الكون بما فيه يقتضي أن يكون قد انتهى إلى خالقٍ غير مخلوق حتى لا يستمر التسلسل إلى ما لا بداية. فهذا هو الموافق للعقل والشرع، قال الله تعالى: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ"- سورة الإخلاص-
ولتقريب هذا المعنى بمثال حسي نقول: لو قلت لك: لا تطلق سراح هذا الأسير إلا بأمر القائد رقم1، فلما ذهبت للقائد رقم1 قال لك: لا أطلق سراحه إلا بأمر القائد رقم2، ولما ذهبت للقائد رقم 2 قال لك: لا أطلق سراحه إلا بأمر القائد رقم3... وهكذا إلى ما لا نهاية، فهل سيحرر هذا الأسير؟ طبعا: لا، لكن إذا رأينا هذا الأسير قد أُطلق سراحه علمنا أن السلسلة قد وقفت عند من أعطى الأمر دون أن يتلقى أمرا من أحد أعلى منه رتبة- ولله المثل الأعلى- فإن قانون السببية يحتم علينا القول بأن هذا الكون المكون من أرض وسماء وجبال وشجر ودواب..لا بد لها من أسباب ناتجة عنها، وهذه الأسباب ناتجة عن أسباب أخرى أقل من الأولى، ومهما طالت هذه الأسباب فلا بد أن نصل في النهاية إلى سبب أول هو أصل لجميع تلك الأسباب. وهذا السبب الأول يحمل في نفسه سبب وجوده، وصفة الوجود ملازمة له لا تفارقه كما لا تفارق صفة الزوجية العدد أربعة. وهذا ما أخبرنا الله به في كتابه حيث قال تعالى: "هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" - الحديد: 3-. وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء " -رواه مسلم-.
وقد يقول قائل: بما أنكم تقولون إن الله أزلي لا بداية له، فلماذا لا نرجع خُطوة إلى الوراء – كما قال ريتشارد دوكينز في كتابه: وهم الإله- ونفترض أن الكون هو الأزلي، ونكون بذلك في غنى عن وجود الإله؟ فهنا يُجاب عن هذا السؤال بأن هذا الافتراض كان ليكون قويا لو أنه لم يثبت لنا أن للكون بداية، ولكن قد أثبتت العديد من الأبحاث العلمية، بأن الكون بكل ما فيه حادث، أي أن له بداية، ومن أهم الشواهد العلمية على ذلك: قانون الديناميكا الحرارية الثاني، الذي ينص على أن هناك انتقال حراري في الكون مستمر من الأجسام الحارة إلى الأجسام الباردة، ولا يمكن أن يحدث العكس بقوة ذاتية- أساسيات الفيزياء، بوش: 327-344- ومعنى ذلك أن الكون يسير إلى درجة تتساوى فيها حرارة جميع الأجسام وينفد معين الطاقة، وحينئذ لا تكون هنالك عمليات كميائية ولن يكون هناك أثر للحياة نفسها في هذا الكون. وهكذا استنتج العلم دون قصد بأن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليا، وإلا لكان قد استهلك طاقته مند زمن بعيد ولكان باردا وتوقف كل نشاط في الوجود. أما القول بأن أصل الكون طاقة ثم تحول إلى مادة وهو الآن في تحول إلى طاقة وهكذا...فهذا خطأ لأن الطاقة تظهر إذا وجدت مادة تقوم بها، فالطاقة تحتاج إلى ذات وبدون ذات تكون أشبه بالمعدوم.
ختاما: يمكن القول إن سؤال الملاحدة من خلق الله؟ هو سؤال ناجم عن عدم تقبلهم لفكرة أن يكون الله أزليا بلا بداية. فنقول للملحد حينئذ: هل تؤمن بأن الكون له بداية؟ فإن قال: نعم، نقول له: لا يمكن أن يكون هذا الكون قد بدأ بنفسه، فلا بد من افتقاره لعلة أوجدته، وهذه العلة متمثلة كما قلنا في ذات لا تحتاج إلى بداية، وهو الله تعالى. وإن قال: لا أومن بأن للكون بداية، بل هو أزلي! نقول له: كيف تعترض على أزلية الله وتقول بأزلية الكون؟ إذا فأنت لا تعترض على مبدأ الأزلية بحد ذاته لكنك تعترض على أزلية خالق أوجد الكون بعلم وحكمة وقدرة تظهر آثارها في كل شيء وتقول بأزلية كون لا إرادة له ولا علم ولا حكمة. فالاعتقاد بأزلية هذا الكون ليس بأصعب من الاعتقاد بوجود إله أزلي. حتى إن الفيزيائي الشهير استيفن هاوكينج يقول: "الاعتقاد بأزلية الكون يؤدي إلى استنتاجات سخيفة" - الكون في قشرة جوز. ص: 165.- كما أن سؤال من خلق الله؟ قد يُطرح بسبب الخلط بين صفاتنا وصفات الله تعالى، متناسين أن كل شيء له صفاته الخاصة به. فالصفات على قدر الذات، وبما أن ذات الله لا تشبهها ذات فكذلك صفاته لا تشبهها صفات. فإذا رأينا نملة تحمل نواة تمر فإننا نقول: يا لها من نملة قوية! ولكن إذا رأينا إنسان يحمل نواة تمر فهل نقول: يا له من إنسان قوي؟ طبعا: لا، فإذا كان الفرق بين المخلوقات واضح، فالفرق بين الخالق والمخلوقات أوضح. وكذلك فالخلق صفة ملازمة للمخلوقين فلا ينبغي أن تُعمم على الخالق، تماما كما لو رأينا رغيف خبز فإننا نقول بالبداهة العقلية: لا بد للخبز من خباز، ولكن لا نسأل: من خبز الخباز؟ فهذا سؤال مضحك وخاطئ، لأنه تعميم في غير مكانه ولله المثل الأعلى. فأسأل الله تعالى أن يرزقنا إيمانا لا شك فيه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.
إعداد: بوودن دحمان حذيفة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد:
إن الإيمان بوجود الخالق سبحانه ليس أمرا قلبي قائم على تصديق الرسل فقط. بل إن الإيمان الصحيح المعتبر هو الإيمان القائم على الدليل والعلم، كما قال تعالى: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ" - محمد: 19- وقد كان ومازال علماء الإسلام يواجهون الملاحدة الذين ينكرون وجود الخالق بقانون السببية الذي لا يمكن لأي عاقل أن يتوقف فيه فضلا على أن يرده. هذا القانون الذي ينص على أن "لكل حادث مُحدث" وهو حكم عقلي يدركه حتى رعاة الإبل في الصحراء، حيث يعبرون عنه بقولهم: "البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير" فلا يخالف هذا القانون إلا صاحب عقل مريض شأن المجانين، أو صاحب عقل قاصر شأن الطفل الذي يكسر الإناء ثم يقول: انكسر بنفسه خوفا من العقاب!.
وإذا كان الله قد خلقنا وخلق العالم من حولنا، فمن خلق الله؟! سؤال بات يُوجهه الكثير من الملاحدة اليوم اعتراضا على إيماننا بالله تعالى. بل إنني أجزم أن هذا السؤال حبيس أدراج عقول الكثير من الأطفال والشباب اليوم، ما يمنعهم من طرحه إلا خوفا منهم أن يُقابلوا بالزجر والنهي أو حتى التكفير والعياذ بالله! في الوقت الذي لا يوجد عندنا في ديننا أي إشكال في الإجابة على أي سؤال.
لكن وقبل أن يُناقش هذا السؤال بالذات، لا بد من الاتفاق والجزم أولا بوجود الله تعالى، لأنه هو المقصود بالسؤال أصلا، وقديما عبر علماءنا عن هذا بقولهم: "أثبِت الْعَرْش ثمَّ انقش" فالظل لا يستقيم والعود أعوج. ففي حالة عدم القول بوجود الله، فالنقاش حول من خلق الله؟ يُعد تخبُّط في الفراغ.
أما السؤال من خلق الله؟ بعد الاتفاق على وجوده، فإن التعامل معه يختلف باختلاف سببه، فإما أن يكون الإشكال ناتجا عن وساوس شيطانية وإما أن يكون السائل واقعا في إشكال معرفي بحق، وهذا لا ينفع معه إلا الجواب المنطقي كما سيأتي بيانه. وأما إن كان السائل به وساوس شيطانيةً فعليه الاستعاذة بالله منها وترك الاسترسال معها، لأن الأجوبة مع المُوَسوَسين لا تشفي غليلا ولا ترفع حيرةً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: مَن خلق كذا؟ مَن خلق كذا؟ حتى يقول: مَن خلق ربَّك؟ فإذا بلغَه، فليستعذ بالله ولْيَنتَهِ" – رواه البخاري في صحيحه-.
ولا ينبغي أن يُفهم قوله صلى الله عليه وسلم: "فليستعذ بالله وَلْيَنْتَهِ" على أنه هروب من السؤال أو تعطيل للعقل، بل هو الموقف العقلي الصحيح، لأن ذلك السؤال يخالف البدهيات العقلية وإن كان مكونا من كلمات عادية، فهو يشبه إلى حد كبير سؤال: من هي زوجة العازب؟! أو كسؤال من أخبرك أنه كان أول العدائين: نعم ولكن من الذي سبقك؟! ولله المثل الأعلى. يقول ابن تيمية رحمه الله عن هذا السؤال في كتابه الفحْل "درء تعارض العقل والنقل": "من المعلوم بالعلم الضروري الفطري لكل مَن سلِمتْ فطرته مِن بني آدم أنه سؤال فاسد، وأنه يمتنع أن يكون لخالقِ كلِّ مخلوقٍ خالقٌ، فإنه لو كان له خالقٌ لكان من جملة المخلوقات، والمخلوقات كلها لا بد لها من خالق، وهذا معلوم بالضرورة والفطرة"- ج: 3، ص: 314 بتصرف يسير -
وعليه فإن جواب سؤال من خلق الله؟ يكون بإبطال التسلسل الممتنع عقلا. ولتوضيح ذلك نفترض أن الله أوجده خالق آخر- تعالى الله عنه ذلك- وهنا لا شك أن السؤال سيطرح من جديد: ومن أوجد خالق الخالق؟ والأمر لا يقف هنا فحسب، بل إن السؤال سيطرح أيضا: ومن أوجد خالق خالق الخالق؟؟...وهكذا إلى ما لا بداية. لأن السؤال عمن خلق الله ليس بأولى من السؤال عَمَّنْ خلق خالقَ الله؟ ولا بأولى من السؤال عَمَّنْ خلقَ خالقَ خالقِ الله؟؟.. وهكذا يفتح هذا السؤال أسئلة لا بداية لها أبدًا. ونتيجة ذلك أنْ لا يحصل خلق أصلا، لأنه لو كان الله مخلوقًا لصار من جملة المخلوقات ولما استطاع أن يخلق ويُوجد هذا الكون، فكل من يفتقر لغيره في إيجاد نفسه، فهو أعجز عن إيجاد غيره، لأنه كما قيل: "فاقد الشيء لا يعطيه". ولكن وجود الكون بما فيه يقتضي أن يكون قد انتهى إلى خالقٍ غير مخلوق حتى لا يستمر التسلسل إلى ما لا بداية. فهذا هو الموافق للعقل والشرع، قال الله تعالى: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ"- سورة الإخلاص-
ولتقريب هذا المعنى بمثال حسي نقول: لو قلت لك: لا تطلق سراح هذا الأسير إلا بأمر القائد رقم1، فلما ذهبت للقائد رقم1 قال لك: لا أطلق سراحه إلا بأمر القائد رقم2، ولما ذهبت للقائد رقم 2 قال لك: لا أطلق سراحه إلا بأمر القائد رقم3... وهكذا إلى ما لا نهاية، فهل سيحرر هذا الأسير؟ طبعا: لا، لكن إذا رأينا هذا الأسير قد أُطلق سراحه علمنا أن السلسلة قد وقفت عند من أعطى الأمر دون أن يتلقى أمرا من أحد أعلى منه رتبة- ولله المثل الأعلى- فإن قانون السببية يحتم علينا القول بأن هذا الكون المكون من أرض وسماء وجبال وشجر ودواب..لا بد لها من أسباب ناتجة عنها، وهذه الأسباب ناتجة عن أسباب أخرى أقل من الأولى، ومهما طالت هذه الأسباب فلا بد أن نصل في النهاية إلى سبب أول هو أصل لجميع تلك الأسباب. وهذا السبب الأول يحمل في نفسه سبب وجوده، وصفة الوجود ملازمة له لا تفارقه كما لا تفارق صفة الزوجية العدد أربعة. وهذا ما أخبرنا الله به في كتابه حيث قال تعالى: "هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" - الحديد: 3-. وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء " -رواه مسلم-.
وقد يقول قائل: بما أنكم تقولون إن الله أزلي لا بداية له، فلماذا لا نرجع خُطوة إلى الوراء – كما قال ريتشارد دوكينز في كتابه: وهم الإله- ونفترض أن الكون هو الأزلي، ونكون بذلك في غنى عن وجود الإله؟ فهنا يُجاب عن هذا السؤال بأن هذا الافتراض كان ليكون قويا لو أنه لم يثبت لنا أن للكون بداية، ولكن قد أثبتت العديد من الأبحاث العلمية، بأن الكون بكل ما فيه حادث، أي أن له بداية، ومن أهم الشواهد العلمية على ذلك: قانون الديناميكا الحرارية الثاني، الذي ينص على أن هناك انتقال حراري في الكون مستمر من الأجسام الحارة إلى الأجسام الباردة، ولا يمكن أن يحدث العكس بقوة ذاتية- أساسيات الفيزياء، بوش: 327-344- ومعنى ذلك أن الكون يسير إلى درجة تتساوى فيها حرارة جميع الأجسام وينفد معين الطاقة، وحينئذ لا تكون هنالك عمليات كميائية ولن يكون هناك أثر للحياة نفسها في هذا الكون. وهكذا استنتج العلم دون قصد بأن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليا، وإلا لكان قد استهلك طاقته مند زمن بعيد ولكان باردا وتوقف كل نشاط في الوجود. أما القول بأن أصل الكون طاقة ثم تحول إلى مادة وهو الآن في تحول إلى طاقة وهكذا...فهذا خطأ لأن الطاقة تظهر إذا وجدت مادة تقوم بها، فالطاقة تحتاج إلى ذات وبدون ذات تكون أشبه بالمعدوم.
ختاما: يمكن القول إن سؤال الملاحدة من خلق الله؟ هو سؤال ناجم عن عدم تقبلهم لفكرة أن يكون الله أزليا بلا بداية. فنقول للملحد حينئذ: هل تؤمن بأن الكون له بداية؟ فإن قال: نعم، نقول له: لا يمكن أن يكون هذا الكون قد بدأ بنفسه، فلا بد من افتقاره لعلة أوجدته، وهذه العلة متمثلة كما قلنا في ذات لا تحتاج إلى بداية، وهو الله تعالى. وإن قال: لا أومن بأن للكون بداية، بل هو أزلي! نقول له: كيف تعترض على أزلية الله وتقول بأزلية الكون؟ إذا فأنت لا تعترض على مبدأ الأزلية بحد ذاته لكنك تعترض على أزلية خالق أوجد الكون بعلم وحكمة وقدرة تظهر آثارها في كل شيء وتقول بأزلية كون لا إرادة له ولا علم ولا حكمة. فالاعتقاد بأزلية هذا الكون ليس بأصعب من الاعتقاد بوجود إله أزلي. حتى إن الفيزيائي الشهير استيفن هاوكينج يقول: "الاعتقاد بأزلية الكون يؤدي إلى استنتاجات سخيفة" - الكون في قشرة جوز. ص: 165.- كما أن سؤال من خلق الله؟ قد يُطرح بسبب الخلط بين صفاتنا وصفات الله تعالى، متناسين أن كل شيء له صفاته الخاصة به. فالصفات على قدر الذات، وبما أن ذات الله لا تشبهها ذات فكذلك صفاته لا تشبهها صفات. فإذا رأينا نملة تحمل نواة تمر فإننا نقول: يا لها من نملة قوية! ولكن إذا رأينا إنسان يحمل نواة تمر فهل نقول: يا له من إنسان قوي؟ طبعا: لا، فإذا كان الفرق بين المخلوقات واضح، فالفرق بين الخالق والمخلوقات أوضح. وكذلك فالخلق صفة ملازمة للمخلوقين فلا ينبغي أن تُعمم على الخالق، تماما كما لو رأينا رغيف خبز فإننا نقول بالبداهة العقلية: لا بد للخبز من خباز، ولكن لا نسأل: من خبز الخباز؟ فهذا سؤال مضحك وخاطئ، لأنه تعميم في غير مكانه ولله المثل الأعلى. فأسأل الله تعالى أن يرزقنا إيمانا لا شك فيه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق