بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا سبحانه ويرضى ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير الخلق سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وعلى آله الطيبين وصحبه الميامين وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين .
أما بعد : لقد كثر الخوض في مسألة الجمعيات ، وإن الناظر في واقعها وما آل إليه الكثير منها ليجزم أنها شر ، وأنها ما جلبت إلا البلايا والرزايا على المسلمين بعامة والسلفيين أهل السنة بخاصة ، وقد أفتى كثير من العلماء المحققين بعدم مشروعيتها وذكر البعض منهم مفاسدها ، وأضرارها ، وبالمقابل نجد بعض العلماء الأفاضل أفتى بجوازها بقيود لا ينبغي أن تتجاوز ، ولا أن يتوسع فيها ، فجاء بعض المنتسبين إلى هذه الجمعيات من رؤسائها وأعضائها أو المتعاطفين معها ممن ينتسبون إلى السنة ومنهج السلف الصالح وتمسكوا بهذه الفتاوى ،متعصبين لها مدافعين عنها ، بل إن بعضهم توسع فيها وتجاوزها دون قيد ولا تحرير للمسألة ولا إنصاف ، وهذا مسلك مشين ، لا يسلكه إلا أهل الأهواء الحزبيين الذين لا يأخذون من الحق إلا ما وافق أهواءهم ، ويفرحون ببعض الحق الذي جاء على ألسنة العلماء السلفيين في بعض فتاواهم بأدلة عامة أو هي على وجه أرادوه فجاء هؤلاء وأولوه على غير ذلك الوجه ليضربوا به السلفيين .
وأنا إذ أقدم هذه لك الدراسة لهذه المسألة لا أزعم أني قتلتها بحثا ، ولا أزعم أن هذا البحث اجتهاد مني بل هو مما قرأته للعلماء ، واستخلصته من مطالعتي في هذه المسألة ثم بلورته وهذبته ورتبته وبسطته وأضفت إليه بعض الإضافات الضرورية حتى جاء في هذا الثوب الذي أبسطه بين يديك أخي القارئ ، فإن أصبت في عَرضه فالفضل لله وحده ، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان واستغفر الله العظيم من ذلك .
الإلزام بطاعة العلماء فيما أفتوا به من الصواب الموافق للحق وأن طاعتهم في ذلك هي طاعة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم :
قال الله تعالى : {{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }} النساء :(59) .
وقال الطبراني في التفسير المنسوب إليه : أي أطيعُوا اللهَ تعالى فيما أمَرَ ؛ وأطيعُوا الرسُولَ فيما بَيَّنَ. وَقِيْلَ : أطيعُوا اللهَ في الفرائضِ ، وأطيعُوا الرسولَ في السُّنَنِ.
وقال جابرُ بن عبدِ الله والحسنُ والضحَّاك ومجاهدُ : (هُمُ الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ أهْلُ الدِّيْنِ وَالْفَضْلِ) الَّذِيْنَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَعَالِمَ دِيْنِهِمْ ؛ وَيَأَمُرُونَهُمْ بالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، فَأَوْجَبَ اللهُ عَلَى الْعِبَادِ طَاعَتَهُمْ. قال ابنُ الأسودِ : (لَيْسَ شَيْءٌ أَعَزُّ مِنَ العِلْمِ ، فَالْمُلُوكُ حُكَّامٌ عَلَى النَّاسِ ، وَالْعُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَى الْمُلُوكِ).
وقال أبو هريرةُ : (هُمْ وُلاَّةُ الْمُسْلِمِيْنَ). والأظهرُ مِن هذه الأقاويلِ : أن المرادَ بهم العلماءُ لقولهِ تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } ؛ أي فإنِ اخْتَلَفْتُمْ في شيءٍ من الحلالِ والحرام والشرائعِ والأحكام ، فردُّوه إلى أدلَّةِ الله وأدلَّة رسولهِ ، وهذا الردُّ لا يكون إلاّ بالاستدلالِ والاستخراج بالقياسِ ؛ لأن الموجودَ في نصِّ الكتاب اذا عُلِمَ وَعُمِلَ به لا يوصفُ بأنه رَدٌّ إلى الكتاب ، وإنَّما يقالُ : هو اتِّبَاعٌ للنَّصِّ ، وغيرُ العلماءِ لا يعلمونَ كيفيَّةَ الردِّ إلى الكتاب والسُّنة ولا دلائلِ الأحكامِ ، والجواب قولهُ تعالى : { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ؛ دليلٌ على أن الإيْمَانَ اتِّبَاعُ الكتاب والسُّنة والإجماعِ. انتهى كلامه . وهذا الكلام جميل جدا ينبأ عن فقه وعلم .
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها (2/345) :{ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ }وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } يعني: أهل الفقه والدين. وكذا قال مجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وأبو العالية: { وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } يعني: العلماء. والظاهر -والله أعلم-أن الآية في جميع أولي الأمر من الأمراء والعلماء.
والرد إلى الله رد إلى كتابه والرد إلى الرسول رد إليه في حياته وإلى سنته بعد موته ، ومن الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله الرد إلى العلماء الذين أمرنا بالرد إليهم وطاعتهم ، فيما استنبطوه من الأحكام الشرعية كما جاء في قوله تعالى : {{ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ..}}
قال الشيخ السعدي – رحمه الله – (1/377) : أنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك. وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه، ولهذا قال: { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا فيحجم عنه؟. انتهى كلامه.
فإذا رددنا المسألة المستجدة ، أو المشتبه فيها إلى العلماء وأجمعوا على مشروعيتها أو العكس ، فالإجماع حجة لا يجوز مخالفته ، وإذا اختلفوا فيها ، فليس بعضهم حجة على بعض ، والواجب على طالب العلم السني السلفي أن يكون همه طلب الحق ، فإن كان له عَمِل به ، وإن كان عليه ألزم نفسه به وخضع وأنقاد له ، متجردا عن ذاتيته وحظوظ نفسه ، وليعلم أن الحق لا يعرف بالرجال ولا بالكثرة ، اعرف الحق تعرف المتمسك به ، وكم من قائل بالحق وهو ليس من أهله ، قال صلى الله عليه وسلم : &--#60;&--#60; صدقك وهو كذوب &--#62;&--#62; البخاري (2311)فهذا حق نطق به الشيطان عليه اللعنة .
فالبحث عن الحق ، يكون على قاعدة التخلية والتحلية ، ولذلك إذا اختلف العلماء الذين رددنا المسألة إليهم وأردنا أن نخرج منها بحثا عن الصواب فيها لا بد من اعتبار هذه القاعدة التي ذكرتها آنفا وبعدها نسلك أربعة طرق في تحريرها وبيانها ، وقد سلكت هذا السبيل ، وبعد الدراسة والمقارنة بين المجيزين والمانعين توصلت إلى ترجيح المنع لهذه الأمور التي سأذكرها في هذه الجمعيات ، وأن الواحدة من هذه المفاسد كاف للقول بعدم مشروعيتها فكيف بها مجتمعة ؟؟.
الطرق الأربعة التي ينبغي أن يسلكها طالب العلم لتحرير المسائل المختلف فيها .
1- معرفة المسألة المختلف فيها من أي نوع هي ؟ من العقيدة والأصول التي لا يجوز الاختلاف فيها ؛ فنرد على من خالف أصول ومنهج السلف ولا عبرة بخلافه ، أم من الفروع التي يسوغ فيها الاجتهاد ويتوقف فيها الصواب على البحث والتحري ، أو من النوازل التي تحتاج إلى دراسة واستنباط الحكم المبني على قواعد الشرع حسب المصالح والمفاسد .والمنافع والمضار .
2 - أدلة الفرقين المختلفين في المسألة ، ومنهم الذين اختلفوا وأفتوا فيها وما مكانتهم من الأمة، وإلمامهم بها، وهل فتواهم كانت تحريرا وتحقيقا أو ارتجالا قد يفوتهم بذلك أمور ، ودقائق في المسألة .
3 – دراسة أدلة المختلفين من حيث القبول الرد ، والقوة والضعف ، والإجماع والقياس ، والاجتهاد والنص . والعموم والخصوص ، والناسخ والمنسوخ .. وغير ذلك من معرفة الأدلة المستدل بها .
4- الجمع بين الأدلة إذا أمكن فإذا تعذر فالترجيح بينها بسحب الترجيحات العلمية والقواعد الشرعية التي قعدها أهل العلم المتقدمين واستقر عليها الحال عند العلماء وهي كثيرة ، فإذا تعذر الجمع أو الترجيح وهذا قليل نلجأ إلى التوقف في المسألة حتى تظهر قرينة خارجة ترجح لنا أحد القولين على الآخر .
والآن نأتي إلى أول مرتبة من تلك المراتب لنعرف المسألة التي اختلفوا فيها ما هي .
المسألة المختلف فيها هي : مسألة الجمعيات الخيرية . أو الجمعيات الدينية ، وهي أن يقوم جماعة أو فرد بتكوين هيكل تنظيمي جماعي يخضع لقوانين لا تراعي شرع الله عز وجل ولا المفاسد التي تترتب عليها إنشاء تلك الجمعيات إلا من حيث القانون ، لأن أصلها مستورد ، ولم تكن موجود زمن التشريع ، ولا في عصر الخيرية ،بل ولا عبر تاريخ هذه الأمة إلى عهد قريب ، فقام بعض من ينتسب إلى الدين وأراد أن يصبغها صبغة دينية ، فأعطاها اسم الدين ، كقولهم مثلا جمعية الفرقان الدينية ، أو النجاح الدينية لتعليم القرآن الكريم ، أو جمعية الإمام مالك وهكذا .. ولا يهم من يرأسها أو يكون عضوا فيها ، كما لا يهم إلى أي تيار أو فرقة ينتسبون ، المهم أن يخضع للقوانين التي سنت هذه الجمعيات وأذنت بها .
أما نوعيتها فهي من الوسائل المستجدات التي ابتلي بها المسلمون ، وغزاهم بها أعداء الإسلام ليفرقوا شملهم ووحدتهم ، من باب قاعدتهم المشئومة فرق تسد ، والغاية تبرر الوسيلة ، وقد تفطن العلماء السلفيون لهذا الغزو وتصدوا له - جزاهم الله خيرا – وحذروا منه .وفات بعض ذلك آخرين بحكم أن بعض بني جلدتنا ممن يتكلمون بألسنتنا زينوه وألبسوه لباس الدين المموه وتوصلوا بذلك إلى استخلاص فتاوى من بعض العلماء ، وعليه اختلف العلماء في هذه المسألة ، مسألة الجمعيات الدينية .أو الخيرية . بين مجيز لها بضوابط وقيود وبين مانع .فتعالى ننظر في أدلتهم ولنعرف من منهم على الصواب ومن جانبه مع حفظنا لكرمتهم - رحم الله- الأموات منهم وحفظ لنا الأحياء .
أدلة الفريقين :
أدلة العلماء المجيزين ، بعد قراءتي لفتاواهم أو سماعها تبين لي أنهم بنوا فتاواهم على قوله تعالى :{{ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }} وأن هذه الجمعيات هي من هذا الباب ، وهي التعاون على نشر الخير أو أنها وسيلة لنشر الخير ، وهذا أمر مشروع من حيث المبدأ ثم جعلوا لذلك ضوابط و شروطا ينبغي لمن أنشأ جمعية أن يتمسك بها منها :
1 - أن لا تكون فيها مخالفات شرعية ..علمية أو عملية .
2 - أن لا تكون جمعية حزبية ذات طابع سياسي ، أو تابعة إلى حزب سياسي ..
3 - وأن لا تكون سببا لتفرقة المسلمين فضلا عن السنيين السلفيين تحمل على الولاء والبراء ، والحب والبغض فيها ..
4 - وأن يكون قصدها نشر الخير والتعاون عليه ليس إلا .. هذا مجمل ما استدل به المجيزون .وهي ضوابط صعبة المنال والتحقيق في واقع الجمعيات.
أما أدلة المانعين فهي :
أولا : أن الإسلام لم يقم على الجمعيات ، فالمقتضى قائم والمانع منتف ، فلم تكن الجمعيات من الأمر الأول الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا صاحبته ,ولا القرون المفضلة ، ولو كان خيرا محضا ما تركه رسول الله ، ولا سبقنا السلف إليه .
2 - ويستدل لذلك بقوله تعالى : {{ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }} وقوله صلى الله عليه وسلم : &--#60;&--#60;من عمل عملا ليس أمرنا فهو رد &--#62;&--#62; .
3 - الجمعيات من عمل الكفار ، وليست من عمل المسلمين ، بل هي من مكرهم للمسلمين ومن الأنظمة التي سوقوها لهم ، واليوم لا يمكن أن تكون هناك جمعية خيرية حرة خارجة عن القانون الوطني فضلا عن للقانون الدولي بتهمة أنها تغذي الإرهاب وقد قال صلى الله عليه وسلم :&--#60;&--#60; لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ..&--#62;&--#62;
4 - : القاعدة التي تقول : إذا اجتمع الخير والشر في أمر ما فالحكم لمن غلب منهما ودليلها قوله تعالى :{{ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيما إثم كبير ومنافع للناس }} فاثبت فيما النفع ولكن حرما لغلبة الإثم الذي يترتب عليه الشر الكبير .
5- أنها وسيلة ، والوسائل تعطى حكم المقاصد والغايات ، مع مراعاة المصالح والمفاسد فيها .فإن غلبت المصلحة وكان القصد إليها طيبا فالوسيلة تكون طيبة مأذون فيها ، والعكس بالعكس .
6 - القاعدة العظيمة التي تقول: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ... وهذه الجمعيات غلبت عليها المفاسد الكثيرة وكانت وسيلة إلى مفاسد عظيمة ، وليس فيها من الخير إلا القليل وهذه المفاسد هي :
1 - هذه الجمعيات تقوم على نظام ديمقراطي ، وأن علماء السلف ينفقون على كفر الديمقراطية ، فكيف يسوغ للسلفية يكفر بالديمقراطية أن ينشأ جمعية تخضع لهذا النظام الديمقراطي الكافر ؟؟
وأن هذا النظام فيه قانون الجمعيات الذي يلزمهم بنشاطات تخالف الإسلام ، كما يلزمهم في أوراق الاعتماد أن يكتبوا البلد وأنه بلد ديمقراطي ، وأنه لابد من قبول اللعبة الديمقراطية وإلا لا مكان و لا ترخيص ولا إذن لمن ينكر الديمقراطية المقدسة .والخلاصة أن ديمقراطية كفر والكفر باطل ، وما بني على باطل فهو باطل ..
2- أن هذه الجمعيات منشأها ومبدأها الكفر ، فلم تكن من الأمر الأول الذي عليه الرعيل الأول النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ، وما بعدهم من القرون إلى عهد قريب ، فلم يعهد عبر تاريخ الأمة ولم يعرف أن المجددين ، والمصلحين من الأئمة الهداة ، والمصلحين الربانيين على منهج السلف الصالح أنشئوا جمعيات ونشروا الإسلام عن طريقها .
والخير كل الخير في اتباع من سلف ، ولن يصلح أخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها
3 - أن الجمعيات من أعظم أسباب التفرقة بين المسلمين ، والواقع أكبر شاهد بل أصبح الكثير ممن ينخرطون في هذه الجمعيات يوالون ويعادون عليها ويحبون ويبغضون فيها ، مع العلم أن الإسلام أمر المسلمين بالاجتماع على الحق والتواصي به ، ونهى عن الفرقة والاختلاف نهيا شديدا والنصوص كثيرة من ذلك قوله تعالى :{{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }} آل عمراه : (103).
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- &--#60;&--#60; إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاَثًا فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا..&--#62;&--#62; مالك في الموطأ (1796)رواه مسلم ( 1715)والبخاري في الأدب المفرد (442).
وللأسف الكل يعرف تلك النصوص والأدلة ولكن البعض يريد أن يكون الإسلام ومنهج الأسلاف وفتوى العلماء ثوبا على مقاسه وفهمه يسيّره كيفما شاء وكما يحب هو ، حتى إذا وجد بعض العلماء أفتوا بخلاف ما هو عليه قام منتصرا ومدافعا ، وربما دفعه ذلك إلى النيل منهم والكلام فيهم .
4 – الجمعيات باب من أبواب الحزبية ،قال تعالى :{{ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }} المؤمنون : (53) .
قال الشيخ السعدي - رحمه الله – (3/361): أي: تقطع المنتسبون إلى أتباع الأنبياء { أَمْرُهُمْ } أي: دينهم { بَيْنَهُمْ زُبُرًا } أي: قطعا { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ } أي: بما عندهم من العلم والدين { فَرِحُونَ } يزعمون أنهم المحقون، وغيرهم على غير الحق، مع أن المحق منهم، من كان على طريق الرسل .انتهى كلامه .
ويؤكد هذا قوله صلى الله عليه وسلم :&--#60;&--#60; افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً &--#62;&--#62; وهو حديث صحيح رواه أبو داود (4598)وابن ماجة ، وأحمد انظر حديث رقم : (1082)في صحيح الجامع .
فإذا تفرق المسلمون وكانوا طوائف وكل طائفة أنشأت لها جمعية وسمتها بالاسم المحتم والملزم به من طرف قانون الجمعيات ، وأصبحت كل طائفة منهم تعمل على طريقتها وحسابها ، ولا تتعاون مع الجمعيات الأخرى ، ولا تتعاون إلا مع من يوافقها ، بل لا تكتفي بذلك حتى تنال منها وتطعن فيها ، وتتعصب لذلك ، وتدافع وتنافح عن مبادئ الجمعية ، ومن هنا لم تعدوا أن تكون حزبا آخر ، وربما ساندت الأحزاب السياسية ، وتعاونت معها وخاصة الجمعيات الثقافية الطلابية ، ولا تتعاون مع الجمعيات السلفية المزعومة ، كما لا تتعاون مع العلماء الذين ذموا الجمعيات .
5- التعصب المقيت : مسألة الجمعيات الخيرية التي يقول المجيز لها أن العلماء اختلفوا فيها ، ثم يميل الكفة إلى ما يوافق ما هو عليه من إنشائه جمعية أو انخراطه فيها ، دون دراسة ، ولا تحر ، بل مجرد التعصب المقيت ، والدفاع المستميت والتبرير بتعليلات أوهى من بيوت العنكبوت ، فلا يقبل نصحا ولا يجرد نفسه مما ركبه ويترك لله .
6- الدعوة إلى الله وتبليغ دين الإسلام والسنن ، وتعليم العلم غير متوقف على هذه الجمعيات ، وهذه دعوة كثير من العلماء المجددين وغيرهم بلغت الآفاق وجعل الله لهم القبول في الأرض ، ولم يعرف أنهم أنشئوا جمعيات وأوقفوا نشاطهم عليها، وتعذروا بما يتعذر به الكثير اليوم من أنه لا يمكن أن ندعو إلى الله ، و لا أن نقيم دورات علمية ، ولا محاضرات ، ولا ندوات ، ولا تعليم الناس إلا عن طريق هذه الجمعيات ، وهذا غير صحيح من عدة وجوه .
الوجه الأول : أن الله لا يسألنا عما كان فوق طاقتنا، فإذا لم يكن في وسعنا إقامة دورات علمية جماعية ، ولا محاضرات ومنعنا من ذلك وضيق علينا فذلك يعني أنه خرج عن نطاقنا وطاقتنا فلا نؤاخذ به ، وعلينا أن نسلك طرق أخرى غير تلك الطريق .وهي البديل ، وطرق الدعوة إلى الله والأماكن والأزمنة كثيرة والوسائل متوفرة ، والحمد لله .
الوجه الثاني : هناك بديل ، وهو إقامة هذه الدورات والدروس في المساجد أو بيوت طلاب العلم ، وعليه ينبغي للسلفيين أن يقدموا على العمل في المساجد وأن يقوموا بوظيفة المسجد ، فالعلم والتعليم في المساجد فيه فضائل كثيرة جمة ، وعليهم أن يبينوا منهجهم السلفي لولاتهم وأنه منهج بعيد عن التهييج والتحريض والتكفير ، وأنه منهج علمي متعاون على البر والمعروف ويقوم على الكتاب والسنة بوسطية السلف الماضين من الصحابة والتابعين .
ثالثا : إذا عجزنا على الدعوة الجماعية ، العامة ، فعلينا الدعوة الفردية ، والتعليم الفردي ، فلا يهتم المعلم والدعي بالكم قدر ما يهتم بالكيف ، ولا ينظر إلى العدد بقدر ما ينظر إلى الاستعداد وخصوبة الأرض الفردية التي يريد أن يغرس فيها العلم والسنة . فإذا تعلم مسألة علمها لفرد واحد من أقاربه أو جيرانه أو أصدقائه وليحرص على استقامته وهكذا ثان وثالث ، ولو أن كل واحد منا يقوم بهذا لعم الخير وانتفع كثير من الشباب ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : &--#60;&--#60; عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ.. &--#62;&--#62; البخاري (5705)ومسلم (220).
وقال : فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ. البخاري(2942)باب فضل من أسلم على يديه رجل .لم (2406).
رابعا : أن الحكومة إذا علمت أنك لا تشتغل بالسياسة ، وتحققت من أن همك الإصلاح والتعلم والتعليم وأنك تنتهج منهج العدل والوسطية بعيد عن الغلو والتنطع والتطرف وأنك متعاون معهم على الإصلاح الاجتماعي فلا شك أنهم سيتعاونون معك ويتفهمون الأمر ، وربما فتحوا لك المجال في المساجد ، وغيرها ورما رخصوا لك في فتح مدرسة أو دار للعلم .
وقد جمعني لقاء بالشيخ الفاضل العلامة محمد بن هادي المدخلي فسألته هذا السؤال : ما حكم الدعوة إلى الله تحت غطاء جمعية حزبية ، أو خيرية ، وهل يكون الداعية مضطرا إلى ذلك ، أو عليه بالدعوة في حدود قدرته واستطاعته كما كان النبي صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية ؟
فأجاب -حفظه الله -: لا يجوز الدعوة إلى الله تحت غطاء جمعية حزبية ، وعلى الداعي إلى الله ، أن يدعو إلى الله وأن ينشر السنة ، ويحذر من البدع حسب قدرته واستطاعته فلم يكلفه الله تعالى أكثر من ذلك قال الله تعالى :{{ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا }} (16) سورة التغابن } فإن هذه الجمعيات لا خير فيها ، وهم يظهرون الموافقة وفي الحقيقة يريدون أن يجعلوا ممن يتعامل معهم ويلين لهم بحجة الدعوة إلى الله دعامة ودعاية لحزبيتهم ، ولهم مكر في ذلك ، فلا يؤمن جانبهم ..
وسألته : عن حكم استقدام الشيوخ ليحاضروا تحت غطاء جمعية حزبية لأن النظام عندنا لا يسمح بذلك إلا عن طريق هذه الجمعيات المرخص لها ؟
فأجاب هذا شر من الأول ، فإن في ذلك تكثير لسوادهم ، وتبرير لشرعيتهم الحزبية ، وأنهم لا يرضون للداعي أن يقول ما يدين الله فيهم ثم حكى لنا واقعة وقعت له مع جمعية التراث الكويتية منذ ما يقرب من ثمانية عشر سنة ، أنهم طلبوه ليحاضر عندهم باسم الجمعية ، فرفض ذلك وبعد إلحاح وافق بشروط ، منها أن يقول في عبد الرحمن عبد الخالق ما يعتقده ، ومنها أن الأسئلة تعطى له هو من يقرؤها ويجيب عنها،وذكر شرطين آخرين .. فقالوا له ننظر في الشروط ونتشاور ثم نرد عليك فمن حينها لم يكلموه ولم يأته أي جواب منهم طوال هذه المدة .
تنبيه :كانت الجلسة معه في مطلع شهر رجب 1432هـ في مسجده بعد صلاة العشاء وحضرها جمع من الطلاب وطلب منه بعض الحضور التسجيل فامتنع ،ولم يكن ذلك من عادته، فاستفسرت منه الأمر فأجاب : بقوله : السبب في ذلك حتى نرد على من يسقطون خبر الثقة ، ولا يقبلون إلا المسموع المسجل ، وخالفوا منهج السلف في قبول خبر الثقة والتعامل به ، فكلما حدثتهم بجرح أو قدح ، قالوا هاتوا التسجيل ، هاتوا الكلام المسموع هذا غلط ، أنت الآن تسمع مني ، وتحدث بذلك ، وهذا الجمع كله حاضر ، يشهد بذلك .. ولعلكم كلكم ستتناقلون خبر هذه الجلسة .. ثم أوصى الحضور بإحياء هذه السنة والتعامل بها كما كان السلف الصالح يقبلون خبر الثقة .
7 – هذه الجمعيات ليس فيها علماء ، يرجع إليهم عند الحاجة والضرورة للأمور التي تعترضهم وتحصل لهم ، ولا يقلّن أحد أنهم يرجعون إلى العلماء ، وهذه جوابها ما أجاب به فضيلة الشيخ محدث العصر الألباني رحمه الله – راجع فتواه في الجمعيات من شريط (792)من سلسلة الهدى والنور .
8- ومن مفاسدها : إلزام قانون الجمعيات أصحابها عند إنشائها بفتح سحاب بنكي ، يجعلهم يتعاملون مع البنوك الربوية ، من غير ضرورة لذلك..
9 - المال فتنة ، فإذا فتحوا حسابا بنكيا وجاءت الأموال من كل حدب وصوب يحدث عند الكثير من هذه الجمعيات التلاعب بالأموال ، فقد تكون النية في أول الأمر طيبة ، وأهدافها خيرية ولكن سرعان ما تتحول بسبب المال ،والخلافات التي تحدث بين أعضائها ، والتي تحدث على من يرأسها ومن يتولى الأمانة العامة للمال ، وما يحدث فيها من المحاباة والمحسوبية في المشاريع الخيرية ، وتوزيع التبرعات ، مما يجعل البعض غير راض عن ذلك ثم تبدأ الاتهامات والعيوب تطفح حتى تصل إل خصومات والمقاضاة في المحاكم .
10 – فتاوى العلماء السلفيين في المنع من الجمعيات وعلى رأسهم الشيخ الألباني والشيخ مقبل بن هادي الوادعي ، رحمهما الله - والشيخ ربيع بن هادي والشيخ محمد بن هادي وغيرهم من العلماء .
11– أما العلماء الذين أجازوها فلم يجيزوها بإطلاق بل بقيود ، فإذا وجدت القيود عندهم أجيزت وإن لم توجد لا تجوز ، هذا أولا .
ثانيا : يقال أن من أجازها من العلماء بقيود لم تُصور له الجمعيات على حقيقتها ، ولم يطلع على مفاسدها ، ولو صورت لهم وبينت على أي شيء بينت لما أجازوها .
ثالثا : حتى لو صورت لهم واطلعوا على حقيقتها ثم أجاوزها فقد خالفهم غيرهم من العلماء وحظروها ، لما عندهم من زيادة علم على مفاسدها ولأن الحظر مقدم على الإباحة لما فيها من المفاسد التي غلبت على ما فيها من الخير فالقاعدة الشرعية تقول أن أي أمر اجتمع فيه النفع والضر ، والخير والشر فالحكم لمن غلب منهما بدليل قوله تعالى :{{ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما اكبر من نفعهما }}
وهناك شبهة أخرى يطرحها البعض وهي أن الشيخ ابن باديس كان رئيس جمعية مما يدل على جوازها .
والجواب عليه أن يقال :
من اسم الجمعية يرد على هذه الشبهة فاسمها جمعية علماء المسلمين ، فهي جماعة علماء ، وليس لها رصيد بنكي ، ونشطاها متوقف على التعليم وبناء المدارس ، وإن كان تجاوز نشاطها إلى الدعوة إلى جهاد المستعمر .
فيقال : وكانت البلاد تحت يد المستعمر الفرنسي ، الذين أراد أن يطمس الهوية الدينية والعربية للشعب المسلم .
وهذه الجمعية كان يرأسها علماء ، ولم يحصل عليها تفرق بين السنيين من الشعب المسلم كما هو حاصل اليوم . فإذ تشابهت الظروف والمعطيات يمكن أن يقال بذلك ، أما والحال غير ذلك والمعطيات تغير فلا يقال ذلك
الخلاصة :
بعد هذه المقارنة في كلام العلماء يتبين أن قول المانعين هو الراجح لما ذكرت من الأدلة ولما عليه هذه الجمعيات من المفاسد لذلك ينبغي تركها والابتعاد عنها . والعلم عند الله تعالى .
تنبيه : أرجو من مشايخنا وطلاب العلم من إخواننا السلفيين أن لا يبخلوا علينا بتعليق فيه الجديد أو إثراء بدليل مفيد أو توجيه مرشد رشيد شاكرا لهم مروهم وعملهم وأسأله تعالى أن يكرمنا وإاهم وأن يجعلنا جميعا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وكتب :
أبو بكر يوسف لعويسي
منقول من شبكة سحاب السلفية
http://ift.tt/RbqKNK
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق