والسعادة فى معاملة الخلق: أن تعاملهم لله، فترجو الله فيهم ولا ترجوهم فى الله، وتخافه فيهم ولا تخافهم فى الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم، وتكف عن ظلمهم خوفًا من الله لا منهم، كما جاء فى الأثر: (ارج الله فى الناس ولا ترج الناس فى الله، وخف الله فى الناس ولا تخف الناس فى الله) أى: لا تفعل شيئًا من أنواع العبادات والقرب لأجلهم، لا رجاء مدحهم ولا خوفًا من ذمهم، بل ارج الله ولا تخفهم فى الله فيما تأتى وما تذر، بل افعل ما أمرت به وإن كرهوه. وفى الحديث: (إن من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله، أو تَذُمَّهُمْ على ما لم يؤتك الله) فإن اليقين يتضمن اليقين فى القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته، ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقنا، لا بوعده ولا برزقه، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك، إما ميل إلى ما فى أيديهم من الدنيا، فيترك القيام فيهم بأمر الله؛ لما يرجوه منهم. وإما ضعيف تصديق بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب فى الدنيا والآخرة، فإنك إذا أرضيت الله نصرك، ورزقك وكفاك مؤنتهم، فإرضاؤهم بسخطه إنما يكون خوفا منهم ورجاء لهم؛ وذلك من ضعف اليقين.
وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك، فالأمر فى ذلك إلى الله لا لهم، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يقدر، كـان ذلك من ضعف يقينك، فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك، لكن من حمده الله ورسوله فهو المحمود، ومن ذمَّه الله ورسوله فهو المذموم.
ولما قال بعض وفد بنى تَمِيم: يا محمد، أعطنى، فإن حَمْدِى زَيْنُ وإن ذَمِّى شَيْنٌ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك الله عز وجل)
وكتبت عائشة إلى معاوية، وروى أنها رفعته إلى النبى صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس كفاه مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يُغْنُوا عنه من الله شيئا) هذا لفظ المرفوع، ولفظ الموقوف: (من أرضى الله بسخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاماً) هذا لفظ المأثور عنها، وهذا من أعظم الفقه فى الدين، والمرفوع أحق وأصدق، فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، وهو كاف عبده {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 2، 3]. فالله يكفيه مُؤْنَةَ الناس بلا رَيْب، وأما كون الناس كلهم يرضون عنه، فقد لا يحصل ذلك، لكن يرضون عنه، إذا سلموا من الأغراض وإذا تبين لهم العاقبة، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً، كالظالم الذى يعض على يده يقول: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [الفرقان: 27، 28]، وأما كون حامده ينقلب ذاماً، فهذا يقع كثيراً، ويحصل فى العاقبة، فإن العاقبة للتقوى، لا يحصل ابتداء عند أهوائهم، وهو سبحانه أعلم.
فالتوحيد ضد الشرك، فإذا قام العبد بالتوحيد الذى هو حق الله، فعبده لا يشرك به شيئاً كان موحداً. ومن توحيد الله وعبادته: التوكل عليه والرجاء له، والخوف منه، فهذا يخلص به العبد من الشرك. وإعطاء الناس حقوقهم، وترك العدوان عليهم، يخلص به العبد من ظلمهم، ومن الشرك بهم. وبطاعة ربه واجتناب معصيته، يخلص العبد من ظلم نفسه، وقد قال ـ تعالى ـ فى الحديث القدسى: (قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين). فالنصفان يعود نفعهما إلى العبد، وكما فى الحديث الذى رواه الطبرانى فى الدعاء: (يا عبادى، إنما هى أربع، واحدة لى، وواحدة لك، وواحدة بينى وبينك، وواحدة بينك وبين خلقى، فالتى لى: تعبدنى لا تشرك بى شيئا. والتى لك: عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه. والتى بينى وبينك: فمنك الدعاء وعلىّ الإجابة. والتى بينك وبين خلقى: فأت إليهم ما تحب أن يأتوه إليك). والله يحب النصفين، ويحب أن يعبدوه.
وما يعطيه الله العبد من الإعانة والهداية هو من فضله وإحسانه، وهو وسيلة إلى ذلك المحبوب، وهو إنما يحبه لكونه طريقا إلى عبادته، والعبد يطلب ما يحتاج أولا، وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة وإلى الهداية إلى الصراط المستقيم، وبذلك يصل إلى العبادة. فهو يطلب ما يحتاج إليه أولا ليتوسل به إلى محبوب الرب، الذى فيه سعادته. وكذلك قوله: (عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه) ، فإنه يحب الثواب الذى هو جزاء العمل، فالعبد إنما يعمل لنفسه، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، ثم إذا طلب العبادة فإنما يطلبها من حيث هى نافعة له، محصلة لسعادته، محصنة له من عذاب ربه فلا يطلب العبد قط إلا ما فيه حظ له، وإن كان الرب يحب ذلك فهو يطلبه من حيث هو ملائم له، فمن عبد الله لا يشرك به شيئًا أحبه وأثابه، فيحصل للعبد ما يحبه من النعم تبعًا لمحبوب الرب، وهذا كالبائع والمشترى، البائع يريد من المشترى أولا الثمن، ومن لوازم ذلك: إرادة تسليم المبيع، والمشترى يريد السلعة، ومن لوازم ذلك: إرادة إعطاء الثمن.
فالرب يحب أن يحب، ومن لوازم ذلك: أن يحب من لا تحصل العبادة إلا به. والعبد يحب ما يحتاج إليه وينتفع به، ومن لوازم ذلك: محبته لعبادة الله، فمن عبد الله وأحسن إلى الناس، فهذا قائم بحقوق الله وحق عباد الله، فى إخلاص الدين له. ومن طلب من العباد العوض، ثناء أو دعاء أو غير ذلك، لم يكن محسنًا إليهم لله. ومن خاف الله فيهم ولم يخفهم فى الله كان محسنًا إلى الخلق وإلى نفسه، فإن خوف الله يحمله على أن يعطيهم حقهم ويكف عن ظلمهم، ومن خافهم ولم يخف الله فهذا ظالم لنفسه ولهم، حيث خاف غير الله ورجاه؛ لأنه إذا خافهم دون الله احتاج أن يدفع شرهم عنه بكل وجه، إما بمداهنتهم ومراءاتهم، وإما بمقابلتهم بشىء أعظم من شرهم أو مثله، وإذا رجاهم لم يقم فيهم بحق الله، وهو إذا لم يخف الله فهو مختار للعدوان عليهم، فإن طبع النفس الظلم لمن لا يظلمها فكيف بمن يظلمها؟ فتجد هذا الضرب كثير الخوف من الخلق، كثير الظلم إذا قدر، مهين ذليل إذا قهر، فهو يخاف الناس بحسب ما عنده من ذلك، وهذا مما يوقع الفتن بين الناس.
وكذلك إذا رجاهم فهم لا يعطونه ما يرجوه منهم، فلابد أن يبغضهم فيظلمهم إذا لم يكن خائفا من الله عز وجل، وهذا موجود كثيرًا فى الناس، تجدهم يخاف بعضهم بعضًا ويرجو بعضهم بعضًا، وكل من هؤلاء يتظلم من الآخر، ويطلب ظلمه، فهم ظالمون بعضهم لبعض، ظالمون فى حق الله حيث خافوا غيره ورجوا غيره، ظالمون لأنفسهم، فإن هذا من الذنوب التى تعذب النفس بها وعليها، وهو يجر إلى فعل المعاصى المختصة، كالشرك والزنا، فإن الإنسان إذا لم يخف من الله اتبع هواه، ولاسيما إذا كان طالبًا ما لم يحصل له؛ فإن نفسه تبقى طالبة لما تستريح به وتدفع به الغم والحزن عنها، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح إليه وبه، فيستريح إلى المحرمات من فعل الفواحش وشرب المحرمات وقول الزور، وذكر مجريات النفس والهزل واللعب، ومخالطة قرناء السوء وغير ذلك، ولا يستغنى القلب إلا بعبادة الله ـ تعالى.
فإن الإنسان خلق محتاجًا إلى جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، ونفسه مريدة دائمًا، ولابد لها من مراد يكون غاية مطلوبها لتسكن إليه وتطمئن به، وليس ذلك إلا لله وحده، فلا تطمئن القلوب إلا به، ولا تسكن النفوس إلا إليه، و {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فكل مألوه سواه يحصل به الفساد، ولا يحصل صلاح القلوب إلا بعبادة الله وحده لا شريك له.
فإذا لم تكن القلوب مخلصة لله الدين، عبدت غيره من الآلهة التى يعبدها أكثر الناس مما رضوه لأنفسهم، فأشركت بالله بعبادة غيره، واستعانته، فتعبد غيره وتستعين به، لجهلها بسـعادتها التى تنالها بـعبادة خالقها والاستعانة به، فبالعبادة له تستغنى عن معبود آخر، وبالاستعانة به تستغنى عن الاستعانة بالخلق، وإذا لم يكن العبد كذلك، كان مذنبًا محتاجًا، وإنما غناه فى طاعة ربه، وهذا حال الإنسان؛ فإنه فقير محتاج، وهو مع ذلك مذنب خطاء، فلابد له من ربه، فإنه الذى يسدى مغافرَهُ، ولابد له من الاستغفار من ذنوبه، قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [محمد:19]، فبالتوحيد يقوى العبد ويستغنى، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، وبالاستغفار يغفر له ويدفع عنه عذابه، {وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]، فلا يزول فقر العبد وفاقته إلا بالتوحيد؛ فإنه لابد له منه، وإذا لم يحصل له لم يزل فقيرًا محتاجًا معذبًا فى طلب ما لم يحصل له، والله تعالى لا يغفر أن يشرك به، وإذا حصل مع التوحيد الاستغفار، حصل له غناه وسعادته، وزال عنه ما يعذبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك، فالأمر فى ذلك إلى الله لا لهم، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يقدر، كـان ذلك من ضعف يقينك، فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك، لكن من حمده الله ورسوله فهو المحمود، ومن ذمَّه الله ورسوله فهو المذموم.
ولما قال بعض وفد بنى تَمِيم: يا محمد، أعطنى، فإن حَمْدِى زَيْنُ وإن ذَمِّى شَيْنٌ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك الله عز وجل)
وكتبت عائشة إلى معاوية، وروى أنها رفعته إلى النبى صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس كفاه مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يُغْنُوا عنه من الله شيئا) هذا لفظ المرفوع، ولفظ الموقوف: (من أرضى الله بسخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاماً) هذا لفظ المأثور عنها، وهذا من أعظم الفقه فى الدين، والمرفوع أحق وأصدق، فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، وهو كاف عبده {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 2، 3]. فالله يكفيه مُؤْنَةَ الناس بلا رَيْب، وأما كون الناس كلهم يرضون عنه، فقد لا يحصل ذلك، لكن يرضون عنه، إذا سلموا من الأغراض وإذا تبين لهم العاقبة، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً، كالظالم الذى يعض على يده يقول: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [الفرقان: 27، 28]، وأما كون حامده ينقلب ذاماً، فهذا يقع كثيراً، ويحصل فى العاقبة، فإن العاقبة للتقوى، لا يحصل ابتداء عند أهوائهم، وهو سبحانه أعلم.
فالتوحيد ضد الشرك، فإذا قام العبد بالتوحيد الذى هو حق الله، فعبده لا يشرك به شيئاً كان موحداً. ومن توحيد الله وعبادته: التوكل عليه والرجاء له، والخوف منه، فهذا يخلص به العبد من الشرك. وإعطاء الناس حقوقهم، وترك العدوان عليهم، يخلص به العبد من ظلمهم، ومن الشرك بهم. وبطاعة ربه واجتناب معصيته، يخلص العبد من ظلم نفسه، وقد قال ـ تعالى ـ فى الحديث القدسى: (قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين). فالنصفان يعود نفعهما إلى العبد، وكما فى الحديث الذى رواه الطبرانى فى الدعاء: (يا عبادى، إنما هى أربع، واحدة لى، وواحدة لك، وواحدة بينى وبينك، وواحدة بينك وبين خلقى، فالتى لى: تعبدنى لا تشرك بى شيئا. والتى لك: عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه. والتى بينى وبينك: فمنك الدعاء وعلىّ الإجابة. والتى بينك وبين خلقى: فأت إليهم ما تحب أن يأتوه إليك). والله يحب النصفين، ويحب أن يعبدوه.
وما يعطيه الله العبد من الإعانة والهداية هو من فضله وإحسانه، وهو وسيلة إلى ذلك المحبوب، وهو إنما يحبه لكونه طريقا إلى عبادته، والعبد يطلب ما يحتاج أولا، وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة وإلى الهداية إلى الصراط المستقيم، وبذلك يصل إلى العبادة. فهو يطلب ما يحتاج إليه أولا ليتوسل به إلى محبوب الرب، الذى فيه سعادته. وكذلك قوله: (عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه) ، فإنه يحب الثواب الذى هو جزاء العمل، فالعبد إنما يعمل لنفسه، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، ثم إذا طلب العبادة فإنما يطلبها من حيث هى نافعة له، محصلة لسعادته، محصنة له من عذاب ربه فلا يطلب العبد قط إلا ما فيه حظ له، وإن كان الرب يحب ذلك فهو يطلبه من حيث هو ملائم له، فمن عبد الله لا يشرك به شيئًا أحبه وأثابه، فيحصل للعبد ما يحبه من النعم تبعًا لمحبوب الرب، وهذا كالبائع والمشترى، البائع يريد من المشترى أولا الثمن، ومن لوازم ذلك: إرادة تسليم المبيع، والمشترى يريد السلعة، ومن لوازم ذلك: إرادة إعطاء الثمن.
فالرب يحب أن يحب، ومن لوازم ذلك: أن يحب من لا تحصل العبادة إلا به. والعبد يحب ما يحتاج إليه وينتفع به، ومن لوازم ذلك: محبته لعبادة الله، فمن عبد الله وأحسن إلى الناس، فهذا قائم بحقوق الله وحق عباد الله، فى إخلاص الدين له. ومن طلب من العباد العوض، ثناء أو دعاء أو غير ذلك، لم يكن محسنًا إليهم لله. ومن خاف الله فيهم ولم يخفهم فى الله كان محسنًا إلى الخلق وإلى نفسه، فإن خوف الله يحمله على أن يعطيهم حقهم ويكف عن ظلمهم، ومن خافهم ولم يخف الله فهذا ظالم لنفسه ولهم، حيث خاف غير الله ورجاه؛ لأنه إذا خافهم دون الله احتاج أن يدفع شرهم عنه بكل وجه، إما بمداهنتهم ومراءاتهم، وإما بمقابلتهم بشىء أعظم من شرهم أو مثله، وإذا رجاهم لم يقم فيهم بحق الله، وهو إذا لم يخف الله فهو مختار للعدوان عليهم، فإن طبع النفس الظلم لمن لا يظلمها فكيف بمن يظلمها؟ فتجد هذا الضرب كثير الخوف من الخلق، كثير الظلم إذا قدر، مهين ذليل إذا قهر، فهو يخاف الناس بحسب ما عنده من ذلك، وهذا مما يوقع الفتن بين الناس.
وكذلك إذا رجاهم فهم لا يعطونه ما يرجوه منهم، فلابد أن يبغضهم فيظلمهم إذا لم يكن خائفا من الله عز وجل، وهذا موجود كثيرًا فى الناس، تجدهم يخاف بعضهم بعضًا ويرجو بعضهم بعضًا، وكل من هؤلاء يتظلم من الآخر، ويطلب ظلمه، فهم ظالمون بعضهم لبعض، ظالمون فى حق الله حيث خافوا غيره ورجوا غيره، ظالمون لأنفسهم، فإن هذا من الذنوب التى تعذب النفس بها وعليها، وهو يجر إلى فعل المعاصى المختصة، كالشرك والزنا، فإن الإنسان إذا لم يخف من الله اتبع هواه، ولاسيما إذا كان طالبًا ما لم يحصل له؛ فإن نفسه تبقى طالبة لما تستريح به وتدفع به الغم والحزن عنها، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح إليه وبه، فيستريح إلى المحرمات من فعل الفواحش وشرب المحرمات وقول الزور، وذكر مجريات النفس والهزل واللعب، ومخالطة قرناء السوء وغير ذلك، ولا يستغنى القلب إلا بعبادة الله ـ تعالى.
فإن الإنسان خلق محتاجًا إلى جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، ونفسه مريدة دائمًا، ولابد لها من مراد يكون غاية مطلوبها لتسكن إليه وتطمئن به، وليس ذلك إلا لله وحده، فلا تطمئن القلوب إلا به، ولا تسكن النفوس إلا إليه، و {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فكل مألوه سواه يحصل به الفساد، ولا يحصل صلاح القلوب إلا بعبادة الله وحده لا شريك له.
فإذا لم تكن القلوب مخلصة لله الدين، عبدت غيره من الآلهة التى يعبدها أكثر الناس مما رضوه لأنفسهم، فأشركت بالله بعبادة غيره، واستعانته، فتعبد غيره وتستعين به، لجهلها بسـعادتها التى تنالها بـعبادة خالقها والاستعانة به، فبالعبادة له تستغنى عن معبود آخر، وبالاستعانة به تستغنى عن الاستعانة بالخلق، وإذا لم يكن العبد كذلك، كان مذنبًا محتاجًا، وإنما غناه فى طاعة ربه، وهذا حال الإنسان؛ فإنه فقير محتاج، وهو مع ذلك مذنب خطاء، فلابد له من ربه، فإنه الذى يسدى مغافرَهُ، ولابد له من الاستغفار من ذنوبه، قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [محمد:19]، فبالتوحيد يقوى العبد ويستغنى، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، وبالاستغفار يغفر له ويدفع عنه عذابه، {وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]، فلا يزول فقر العبد وفاقته إلا بالتوحيد؛ فإنه لابد له منه، وإذا لم يحصل له لم يزل فقيرًا محتاجًا معذبًا فى طلب ما لم يحصل له، والله تعالى لا يغفر أن يشرك به، وإذا حصل مع التوحيد الاستغفار، حصل له غناه وسعادته، وزال عنه ما يعذبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق