[center]
بسم الله الرحمن الرحيم
شَهْرُ شَعْبَانَ: حِكَمٌ وأَحْكَامٌ
الشيخ نجيب جلواح حفظه الله
الحمدُ لله الذي جعلَ لعبادِه مواسمَ يستكثرون فيها مِن القُربات والعملِ الصَّالح، وأَمَدَّ في آجالهم فهم في أبوابِ الخيرِ بين غادٍ ورائِح، ومِن هذه المواسم المباركات، التي على المسلمِ أن يغتنمها لزرع الطَّاعات، والتَّزوُّد بالباقيات الصَّالحات: شهر شعبان.
وفي هذا المقال تذكير بفضل هذا الشّهر، الذي يغفل عنه كثير من النّاس،كما أخبرنا بذلك نبيّنا ـ صلى الله عليه وسم ـ، وهذا لنستعدّ له بالاجتهاد في الطّاعة، اقتداء بنبيّنا وقدوتنا ـ صلى الله عليه وسم ـ، والإكثار فيه من الصّيام؛ إذْ أنَّ «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا»(1).
و قبل الشُّروع في المطلوب، أُقدِّم ـ بين يدي الموضوع ـ بذكر ما قيل في معنى هذا الشَّهر:
شعبان: اسم للشَّهر المعروف، الَّذي بين رجب ورمضان، وقيل: سمِّي (شعْبَان): لتشعُّبهم فِيهِ، أَي: تفرُّقهم فِي طلب المِيَاه(2).
وقيل: سمِّي كذلك: لتشعُّب القبائل فيه(3)، أو لتشعُّبهم في الغارات(4).
قال ثعلب: «قال بعضهم: إنَّما سمِّي شعبانُ شعبانَ لأنَّه شَعَبَ، أي: ظهر بين شهريْ رمضان ورجب»(5).
وقال ابن حجر: «وسمِّي شعبان: لتشعُّبهم في طلب المياه، أو في الغارات بعد أن يخرج شهر رجب الحرام، وهذا أولى مِن الذي قبله، وقيل فيه غير ذلك»(6).
وقد يقال ـ أيضا ـ: إنَّه سمِّي بذلك لتشعُّب الخير فيه بالنِّسبة للصَّائم، وهذا بناء على ما جاء في حديثٍ: أخرجه الرَّافعي في «تاريخه» عن أنس بن مالك مرفوعًا: «إِنَّمَا سُمِّي شَعْبانَ؛ لأَنَّهُ يَتَشَعَّبُ فِيهِ خَيْرٌ كثِيرٌ لِلصَّائِمِ فِيهِ حَتَّى يَدْخُلَ الجَنَّةَ»، ولكنَّ هذا الحديث لا يثبت(7).
وقد اخترتُ ـ في هذا المقال ـ بعض الأحاديث الصَّحيحة الواردة في السُّنّة المطهَّرة، في أبواب متنوِّعة، ممَّا له صِلةٌ وعلاقة بشهر شعبان، وجعلتها تحت أبواب مناسبة، كما تَرجم لها أهل الحديث أو قريبا من ذلك، ثمَّ أتبعتها بذكر ما حوته مِن حِكم وأحكام، ممَّا هو مبثوث في شروحات أهل العلم، وهذا على وجه الاختصار والإيجاز، وأسأل الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه ï´؟يَومَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)ï´¾ [الشُّعراء].
1 ـ فَضل ليلة النِّصف مِن شعبان:
وروى أحمد (6642) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «يَطَّلِعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلاَّ لاثْنَيْنِ: مُشَاحِنٍ، وَقَاتِلِ نَفْسٍ»(8).
وأخرجه ابن حبّان (5665) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «يَطْلُعُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ»(9).
وأخرجه البيهقي في «السُّنن الكبرى» (1426)، والطَّبراني في «المعجم الكبير» (593) عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ اطَّلَعَ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ، فَيَغْفِرُ لِلمُؤْمِنِينَ وَيُمْلِي لِلكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ»(10).
قال الألباني: «وجملة القول أنَّ الحديث بمجموع هذه الطُّرق صحيح بلا ريب، والصِّحَّة تثبت بأقلَّ منها عددا، ما دامت سالمة مِن الضَّعف الشَّديد، كما هو الشَّأن في هذا الحديث، فما نقله الشَّيخ القاسمي ـ رحمه الله تعالى ـ في «إصلاح المساجد» (ص 107) عن أهل التَّعديل والتَّجريح: أنَّه ليس في فضل ليلة النِّصف مِن شعبان حديث صحيح، فليس ممَّا ينبغي الاعتماد عليه، ولئن كان أحد منهم أطلق مثل هذا القول فإنَّما أوتي مِن قِبل التَّسرُّع وعدم وسع الجهد لتتبُّع الطُّرق على هذا النَّحو الذي بين يديك، والله تعالى هو الموفِّق»(11).
ويكفي هذه اللَّيلة المباركة فضلا: أنَّ الله تعالى يغفر فيها لجميع خلقه إلاَّ لأهل الحقد والبغضاء والشَّحناء، وفي هذا دعوة إلى العفو عن المسيء والتَّجاوز عن المخطئ، والجزاء من جنس العمل.
والمشاحن: هو المعادي، والشَّحناء: هي العداوة. وقال الأوزاعي: أراد بالمشاحن ها هنا: صاحب البدعة، المفارق لجماعة الأمَّة(12).
ولا يفوتني ـ بهذه المناسبة ـ التَّنبيه على أنَّه لم يصحَّ شيء في فضل قيام هذه اللَّيلة، إذْ كلُّ ما ورد في ذلك لا يسلم مِن ضعف، و ممَّا رُوي في هذا الباب: ما أخرجه ابن ماجه (1388) والبيهقي في «شعب الإيمان» (3555) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: أَلاَ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لِي فَأَغْفِرَ لَهُ، أَلاَ مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ، أَلا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ، أَلاَ كَذَا، أَلاَ كَذَا، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ»(13).
قال عليٌّ القاري: «واعلم أنَّ المذكور في «اللآلي»: إنَّ مائة ركعة في نصف شعبان بالإخلاص عشر مرات في كلِّ ركعة مع طول فضله للدَّيلمي وغيره: موضوع. وفي بعض الرَّسائل، قال عليُّ بن إبراهيم: و ممَّا أُحدث في ليلة النِّصف مِن شعبان: الصَّلاة الألفية، مائة ركعة بالإخلاص عشرا عشرا بالجماعة، واهتمُّوا بها أكثر مِن الجُمَع والأعياد لم يأتِ بها خبر ولا أثر إلاَّ ضعيف أو موضوع، ولا تغترَّ بذكر صاحب «القوت» و«الإحياء» وغيرهما، وكان للعوام بهذه الصَّلاة افتتان عظيم، حتَّى التزم بسببها كثرة الوقيد، وترتَّب عليه مِن الفُسوق وانتهاك المحارم ما يغني عن وصفه، حتَّى خشي الأولياء مِن الخسف، وهربوا فيها إلى البراري»(14).
كما أنبِّه ـ أيضًا ـ على عدم مشروعيَّة تخصيص صوم يوم ليلة النّصف مِن شعبان، لعدم ورود ما يدلُّ عليه، لذا قال المباركفوري: «والحاصل أنَّه ليس في صوم يوم ليلة النِّصف من شعبان حديث مرفوع صحيح أو حسن أو ضعيف خفيف الضّعف، ولا أثر قويّ أو ضعيف»(15).
2 ـ قضاء رمضان في شعبان:
ذكرتْ أمّ المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنَّ الأمر الذي كان يمنعها وسائر نساء النّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِن تعجيل قضاء رمضان حتى يأتي شعبان: هو الشُّغل من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، و في ذلك أحاديث أذكر منها ما يلي:
1 ـ روى البخاري (1950) ومسلم (1146) عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ تَقُولُ: «كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ، الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أَوْ بِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ».
2 ـ وروى مسلم (1146) عَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ أَنَّهَا قَالَتْ: «إِنْ كَانَتْ إِحْدَانَا لَتُفْطِرُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَمَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَقْضِيَهُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَتَّى يَأْتِيَ شَعْبَانُ».
3 ـ وروى التّرمذي (783) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَا كُنْتُ أَقْضِي مَا يَكُونُ عَلَيَّ مِنْ رَمَضَانَ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ»(16).
«والمراد مِن الشُّغل: أنَّها كانت مهيِّئة نفسها لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مترصِّدة لاستمتاعه في جميع أوقاتها إنْ أراد ذلك، وأمَّا في شعبان فإنّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يصومه، فتتفرَّغ عائشة لقضاء صومها... وممَّا يُستفاد مِن هذا الحديث: أنَّ القضاء مُوسَّع، ويصير في شعبان مُضيَّقا، ويؤخذ مِن حرصها على القضاء في شعبان أنَّه لا يجوز تأخير القضاء حتَّى يدخل رمضان، فإنْ دخل فالقضاء واجب ـ أيضًا ـ فلا يسقط»(17).
وتجدر الإشارة ـ هنا ـ إلى أنَّ بعض العلماء يرى أنَّ الجملة الواردة في هذه الرِّواية الأولى، وهي: «الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم، أَوْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ـ» ليست من قول أمِّ المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ بل مدرجة في الحديث.
قال الألباني: «واعلم أنَّ ابن القيِّم والحافظ وغيرهما قد بيَّنا أنَّ قوله ـ في الحديث ـ: «الشُّغل مِن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أو برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ» مُدرج في الحديث، ليس مِن كلام عائشة، بل مِن كلام أحد رواته، وهو يحيى بن سعيد، ومِن الدَّليل على ذلك قول يحيى في رواية لمسلم: «فظننتُ أنَّ ذلك لمكانها مِن النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ». ولكن هذا لا يخدج فيما ذكرنا؛ لأنَّنا لم نستدلَّ عليه بهذا المدرج، بل بقولها: «فما أستطيع...»، والمدرج إنَّما هو بيان لسبب عدم الاستطاعة، وهذا لا يهمُّنا في الموضوع، ولا أدري كيف خفي هذا على الحافظ حيث قال في ـ خاتمة شرح الحديث ـ: «وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مُطلقا سواء كان لعذر أو لغير عذر لأنَّ الزِّيادة كما بيَّناه مدرجة...»؟! فخفي عليه أنَّ عدم استطاعتها هو العذر، فتأمل»(18).
3 ـ شعبان أحبُّ الشُّهور إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنْ يصومه:
روى أبو داود (2431) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي قَيْسٍ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: «كَانَ أَحَبَّ الشُّهُورِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنْ يَصُومَهُ: شَعْبَانُ، ثُمَّ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ»(19).
فإنْ قيل: كيف كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخصُّ شعبان بصيام التَّطوُّع فيه، مع أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو القائل: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ»(20)؟
إنَّ جماعةً مِن أهل العلم أجابوا عن ذلك بقولهم: إنَّ أفضل الصِّيام ـ بعد شهر رمضان ـ: شعبان؛ لمحافظته ـ صلى الله عليه وسلم ـ على صومه أو صوم أكثره، ولأنَّه يَسبق رمضان، فيكون صيامه كالسُّنن الرَّواتب في الصَّلوات الَّتي تكون قبلها، وعليه يحمل قولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعدَ رَمَضَانَ شَهرُ اللهِ المُحَرَّمُ»: على التَّطوُّع المطلق(21).
قال النَّووي: «قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعدَ رَمَضَانَ شَهرُ اللهِ المُحَرَّمُ»: تصريح بأنَّه أفضل الشُّهور للصَّوم، وقد سبق الجواب عن إكثار النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِن صوم شعبان دون المحرَّم، وذكرنا فيه جوابين:
أحدهما: لعلَّه إنَّما عَلِم فضله في آخر حياته.
- والثَّاني: لعلَّه كان يعرض فيه أعذار مِن سفر أو مرض أو غيرهما»(22).
4 ـ كان رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثرَ صيامًا في شعبان:
يُستحبُّ للمسلم أنْ لا يُخْلي شهرًا مِن صيام، فمتى وجد نشاطًا وقُدرة بادر إلى ذلك، فيفعل ما يقتضيه الحال مِن تجرُّده عن الأشغال، إذْ صوم النَّفل غير مختصٍّ بزمان مُعيَّن دون غيره، بل كلُّ أيَّام السَّنة صالحة له، إلاَّ ما استثناه الشَّرع ونهى عن الصِّيام فيه، نحو: العيد وأيَّام التَّشريق، ولكن له أنْ يخصَّ شعبان بالصَّوم أكثر مِن غيره، لما ورد فيه مِن الفضل(23):
1 ـ روى البخاري (1969) ومسلم (1156) عَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ رَمَضَانَ ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا في شَعْبَانَ».
2 ـ وروى البخاري (1970) عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ».
3 ـ وروى مسلم (1156) عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَتْ: «كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ صَامَ ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَفْطَرَ، وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلاً».
4 ـ وروى التّرمذي (737) عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ كَانَ يَصُومُهُ إِلاَّ قَلِيلا بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ»(24).
وقد جمع بعض أهل العلم بين هذه الأحاديث التي ورد في بعضها: أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ»، وبين الأخرى التي جاء فيها: أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلاً» بأنَّ المراد بـ «كُلِّهِ»: غالبه؛ لأنَّ روايات الحديث يُفسِّر بعضها بعضًا خصوصًا وأنَّ المخرَج مُتَّحد، فأطلق الكلَّ على الأكثر(25).
ورُوي عن ابن المبارك أنَّه قال ـ في هذا الحديث ـ: «هو جائز في كلام العرب: إذا صام أكثر الشَّهر أنْ يُقال: صام الشَّهر كلَّه، ويقال: قام فلان ليله أجمع، ولعلَّه تعشَّى واشتغل ببعض أمره».
وحاصله: أنَّ رواية: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلاً» مُفسِّرة لرواية: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ» ومخصِّصة لها، وأنَّ المراد بـ «الكلّ»: الأكثر(26).
وجَمع الطِّيبي بينهما: بأنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يصوم شعبان كلَّه في وقت، ويصوم مُعظمه في آخر، لئلاَّ يَتوهَّم النَّاسُ وجوبَ صيامه كلِّه، فيكون كرمضان(27).
وقيل: المراد بقولها: «كلَّه»: أنّه كان يصوم مِن أوَّله تارة، ومِن آخره أخرى، ومِن أثنائه طورا، فلا يُخْلي شيئًا منه مِن صيام، ولا يخصُّ بعضه بصيام دون بعض(28).
وقال الزَّين بن المنيِّر: إمَّا أنْ يحمل قول عائشة على المبالغة، والمراد: الأكثر، وإمَّا أنْ يُجمع بأنَّ قولها الثَّاني مُتأخِّر عن قولها الأوَّل، فأخبرتْ عن أوَّل أمره: أنَّه كان يصوم أكثره، وأخبرتْ ـ ثانيًا ـ عن آخر أمره: أنَّه كان يصومه كلَّه.
وقال الحافظ ابن حجر ـ مُعلِّقا على كلام ابن المُنَيِّر السَّابق ـ: «ولا يخفى تكلُّفه، والأوَّل هو الصَّواب»(29).
ثمّ ساق الحافظ حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ الَّذي أخرجه مسلم (1156) ـ ولفظه: «وَمَا رَأَيْتُهُ صَامَ شَهْرًا كَامِلاً، مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَمَضَانَ»، ويؤيِّده ـ أيضًا ـ حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ، المذكور آنفًا، وفيه قولها: «وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا في شَعْبَانَ» [متَّفق عليه].
كما جُمع بينهما ـ أيضا ـ بحمل قولها ـ رضي الله عنها ـ: «كَانَ يَصُومُ شَعبَانَ كُلَّهُ»: على حذف حرف الاستثناء والمستثنى ، أي: إلاَّ قليلاً منه، ويدلُّ عليه رواية عبد الرَّزاق في «مصنَّفه» (7859) بلفظ: «وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَامَ مِنْ شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ إِلاَّ قَلِيلاً»(30). وأشبه بهذا اللَّفظ رواية مسلم (1156): «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلاً». وإنْ كان هذا يرجع ـ في المعنى ـ إلى الجمع الأوَّل(31).
5 ـ وَصْل شعبان برمضان:
لقد ورد ـ فيما صحَّ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنَّه كان يَصِل شعبان برمضان، مع أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن تقدُّم رمضان بصوم يومٍ أو يومين، فسنذكر ـ أوَّلا ـ ما يُثبت هذا الأمر، ثمَّ نثنِّي بذكر ما يرفع التَّعارض ويزيل الإشكال:
1 ـ روى أبو داود (2336) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنَ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا إِلاَّ شَعْبَانَ، يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ»(32).
2 ـ وروى التِّرمذي (736) والنَّسائي (2175) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ»(33).
3 ـ وروى ابن ماجه (1649) عَنْ رَبِيعَةَ بنِ الغَازِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ فَقَالَتْ: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَصِلَهُ بِرَمَضَانَ»(34).
أمَّا بالنِّسبة للجمع بين ما ذكرنا سابقا، فقد حمل العلماء النَّهي على مَن لم يكن صام شيئًا من شعبان، حتَّى إذا قرُب رمضان أنشأ صياما، وأمَّا غيره ممَّن كان له عادة مِن صيام أيَّام البيض، أو الاثنين والخميس، أو استدام الصِّيام مِن بداية شعبان: فلا حرج عليه أنْ يصل شعبان برمضان؛ لأنَّه ما أراد بذلك الاحتياط:
قال أبو الوليد الباجي: «إنَّ مَن كان في شعبان: لم يَجُز له أن يتقدَّم صيام رمضان بصيام يوم أو يومين، ومَن استدام الصَّوم مِن أوَّل شعبان: جاز له استدامة ذلك حتَّى يصله برمضان»(35).
وقال الشَّوكاني: «لأنَّ ذلك جائز عند المانعين مِن صوم يوم الشَّكِّ، لما في الحديث الصَّحيح ـ المتَّفق عليه ـ»(36).
ثمَّ أشار إلى الحديث الذي رواه البخاري (1914) ومسلم (1082) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قَالَ: «لاَ يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذَلِكَ اليَوْمَ».
6 ـ الحِكمة في إكثاره ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ مِن الصِّيام في شعبان:
روى النَّسائي (2357) عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»(37).
بيَّن رسولُ الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ وجهَ صيامِه شعبانَ: بأنَّ الأعمال تُرفع فيه، وهو يحبُّ أن يُرفع عمله وهو صائم، واختار الصَّوم لفضله، وطلبًا لزيادة رفعة الدَّرجة، لذا كان ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يصوم ـ أيضًا ـ الاثنين والخميس للعلَّة السَّابقة:
لما روى التِّرمذي (747) عن أبي هريرة أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»(38).
وفي رواية قال: «إِنَّ الأَعْمَالَ تُرْفَعُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»(39).
ولا يُنافي رفعُ الأعمال في هذين اليومين ـ أي: الاثنين والخميس ـ رفعَها في شعبان، لجواز رفع أعمال الأسبوع مُفصّلة، وأعمال العام مُجملة(40).
وقيل ـ أيضا ـ: تُرفع الأعمال في شعبان إلى الملأ الأعلى، ولا ينافي ذلك رفع أعمال اللَّيل بعد صلاة الصُّبح، ورفع أعمال النَّهار بعد صلاة العصر ـ يوميا ـ وكذا رفع الأعمال كلَّ يوم اثنين وخميس ـ أسبوعيا ـ؛ لأنَّ الأوَّل: رفع عامٌّ لجميع ما يقع في السَّنة، والثَّاني: رفع خاصٌّ لكلِّ يوم وليلة، والثَّالث: رفع لجميع ما يقع في الأسبوع، وكان حِكمة تكرير هذا الرَّفع: مزيد من تشريف الطَّائعين، وتقبيح عمل العاصين(41).
وقال السِّندي: «وهو شهر تُرفع الأعمال فيه إلى ربِّ العالمين. قيل: ما معنى هذا مع أنَّه ثبت في «الصَّحيحين»: أنَّ الله تعالى يُرفع إليه عمل اللَّيل قبل عمل النَّهار، وعمل النَّهار قبل عمل اللَّيل؟ قلتُ: يُحتمل أمران:
أحدهما: أنَّ أعمال العباد تُعرض على الله تعالى كلَّ يوم، ثمَّ تُعرض عليه أعمال الجمعة في كلِّ اثنين وخميس، ثمَّ تُعرض عليه أعمال السَّنة في شعبان، فتُعرض عرضًا بعد عرض، ولكلِّ عرض حِكمة، يُطْلع عليها مَن يشاء مِن خلقه، أو يستأثر بها عنده، مع أنّه ـ تعالى ـ لا يخفى عليه مِن أعمالهم خافية.
ثانيهما: أنَّ المراد: أنَّها تُعرض في اليوم تفصيلا، ثمَّ في الجمعة جملة، أو بالعكس»(42).
هذا مِن جهة، ومِن جهة أخرى فإنَّ الحِكمة مِن إكثار النَّبيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ مِن الصِّيام في شعبان: هو أنَّ أكثر النَّاس يغفل عنه، وهذا لما اكتنفه شهران عظيمان، وهما الشَّهر الحرام ـ وهو رجب ـ وشهر الصِّيام ـ وهو رمضان ـ فاشتغل النَّاس بهما، وغفلوا عن شعبان، وإنَّما يغْفل النَّاس عَنهُ تقوِّيا بِالفطرِ لرمضان، وكلُّ وَقت يغْفل النَّاس عَنهُ يكون فَاضلا لقلَّة القائمين فيه بِالخدمَةِ، كما هو الأمر بالنِّسبة لقيام اللَّيْل وَأَشْبَاه ذَلِك(43)، لذا قال رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ»(44).
7 ـ صوم سَرَر شعبان:
روى البخاري (1983) ومسلم (1161) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قَالَ لَهُ ـ أَوْ لآخَرَ ـ: «أَصُمْتَ مِنْ سرَرِ شَعْبَانَ؟» قَالَ: لا، قَالَ: «فَإِذَا أَفْطَرْتَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ».
لقد سألَ رسولُ الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في هذا الحديث ـ عمرانَ بن حُصين ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ هل صام شيئا مِن سَرَرِ شعبان؟ فلمَّا أجابه بالنَّفي، حثَّه على صيام يومين مِن شوال بعد أنْ يُفطر مِن رمضان. وسَرَر الشَّهر: آخِره، وَسمّي بذلك لاستسرار القمر فيها(45).
وقوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «فَإِذَا أَفطَرتَ» أي: مِن رمضان، كما في رواية مسلم ولفظها: «فَإِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ رَمَضَانَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ» أي: إذا فرغت من صيام رمضان، فصُم يومين بعد العيد عوضًا عن سَرر شعبان، وفي هذا حضٌّ على أنْ لا يمضي على المكلَّف مثل شعبان ولم يَصُم منه شيئا، إذْ لمَّا فات السَّائلَ صومُه: أمره أنْ يُعوِّضه بغيره، وهو دليل على مشروعيَّة قضاء التَّطوُّع. وقال القرطبي: ويظهر لي أنَّه إنَّما أمره بصيام يومين في غيره: للمزيَّة التي يختصُّ بها شعبان، فلا يبعد في أنْ يُقال: إنَّ صومَ يومٍ منه كصوم يومين في غيره، ويشهد له أنَّه ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ كان يصوم منه أكثر ممَّا كان يصوم مِن غيره، اغتنامًا لمزيَّة فضيلته»(46).
وفي هذا الحديث إشكال ـ أيضا ـ من حيث إنَّه معارِض لحديث: «لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ إِلاَّ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا، فَلْيَصُمْهُ»(47).
وقد جَمع بعضُ العلماء بين الأحاديث المبيحة مع حديث النَّهي، بأنْ خصُّوا حديثَ النَّهي بمن يحتاط ـ بزعمه ـ لرمضان؛ لأنَّ صوم رمضان مُُرتبط بالرُّؤية، فلا حاجة إلى التَّكلُّف. وقد استحسن الحافظ ابن حجر هذا الجمع(48).
قال الشَّيخ عبد المحسن العبَّاد: «ويكون ذلك محمولاً على مَن كان له عادة، وهذا حتَّى يتَّفق مع الأحاديث التي فيها النَّهي عن التقدم، ثمَّ ـ أيضًا ـ لو لم يكن هناك هذا؛ فإنَّ الاحتياط هو عدم الصِّيام؛ لأنَّ الأخذ بالنَّهي أولى مِن الأخذ بالرُّخصة والإذن، فالإنسانُ إذا لم يَصُم: أكثر ما في الأمر أنَّه ترك سنَّة ولم يترك واجبًا، فلا يلحقه إثم، ولكنَّه إذا صام ـ وقد جاء النَّهي ـ: فإنَّه يكون مُتعرِّضًا للإثم، فعلى الإنسانِ ألاَّ يَتعرَّض للإثم في سبيل أنْ يفعل شيئًا هو سُنَّة، وقد جاء عن عمَّار ـ رضي الله عنه ـ أنَّه قال: «من صام اليوم الذي يُشكُّ فيه فقد عصى أبا القاسم ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ» يعني: في قوله: «لاَ تَتَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِيَومٍ أَو يَومَينِ»(49).
8 ـ النَّهي عن صيام النِّصف الباقي مِن شعبان:
روى أبو داود (2337) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قَالَ: «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلاَ تَصُومُوا».
ورواه التِّرمذي (738) ـ بلفظ ـ: «إِذَا بَقِيَ نِصْفٌ مِنْ شَعْبَانَ فَلاَ تَصُومُوا».
ورواه ابن ماجه (1651) ولفظه: «إِذَا كَانَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ فَلا صَوْمَ حَتَّى يَجِيءَ رَمَضَانُ».
وقد اختلفتْ آراءُ أهل العلم في حُكم الصِّيام في النِّصف الثَّاني مِن شهر شعبان على أقوال:
الأوَّل: الكراهة؛ لظاهر هذا الحديث. قال الشَّافعي: يُكره التَّطوُّع إذا انتصف شعبان، لقوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلاَ تَصُومُوا»(50).
وقيل: الحِكمة مِن النَّهي عن صيام النِّصف الثَّاني: ليتقوَّى بذلك على صيام الفرض في شهر رمضان، كما كُره للحاجِّ الصَّوم بعرفة ليتقوَّى بالإفطار على الدُّعاء(51).
واعتُرض على مَن قال: إنَّ النَّهي لأجل التَّقوِّي على صيام رمضان والاستجمام له، بأنَّه أبعد، لأنَّ نصف شعبان إذا أضعف، كان كلُّ شعبان أحرى أنْ يُضعِف، وقد جوَّز بعض العلماء صيام جميع شعبان(52).
الثَّاني: الجواز مُطلقا، لمن رأى ضعف الحديث. قال ابن حجر: «وقال جمهور العلماء: يجوز الصَّوم تطوُّعا بعد النِّصف مِن شعبان، وضعَّفوا الحديث الوارد فيه، وقال أحمد وابن معين: إنَّه مُنكر»(53).
واعتُرض على هذا: بأنَّ الحديث إسناده صحيح على شرط مُسلم، وصحَّحه جمعٌ مِن أهل العلم؛ منهم: التِّرمذي وابن حبَّان، واحتجَّ به ابن حزم، وقوَّاه ابن القيِّم، وصحَّحه الألباني(54).
ومنهم مَن زعم النَّسخ، بحجَّة أنَّ أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ كان يصوم في النِّصف الثَّاني مِن شعبان، فدلَّ ذلك على أنَّ ما رواه منسوخ(55).
ورَدَّ ذلك ابنُ حزم، فقال: «ولا يجوز أنْ يُظنَّ بأبي هريرة مخالفة ما روى عن النَّبيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ والظنُّ أكذب الحديث؛ فمَن ادَّعى ـ هاهنا ـ إجماعًا فقد كذب... ومَن ادَّعى نسخًا في خبر العلاء فقد كذب، وقَفَا ما لا عِلْم له به، وبالله تعالى نتأيَّد»(56).
الثَّالث: جواز صيامه لمن كانت له عادة، أي: وافق ذلك صومًا كان يصومه المرء قبل ذلك، و ليس النَّهي عن الصَّوم ـ في هذا الحديث ـ نهيًا مُطلقًا(57).
ومنهم مَن حمل النَّهي الوارد في هذا الحديث على مَن يُضعفه الصَّوم(58) أو على من لم يَصِله بما قبله، أي: لم يَصُم قبل نصف الشَّهر(59).
قال التِّرمذي: «ومعنى هذا الحديث ـ عند بعض أهل العلم ـ: أنْ يكون الرَّجل مُفطرًا، فإذا بقي مِن شعبان شيء أخذ في الصَّوم لحال شهر رمضان. وقد رُوي عن أبي هريرة عن النَّبيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ما يشبه قولهم، حيث قال ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «لاَ تَقَدَّمُوا شَهرَ رَمَضَانَ بِصِيَامٍ إِلاَّ أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَومًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُم» وقد دلَّ في هذا الحديث: أنَّما الكراهيَّة على مَن يتعمَّد الصِّيام لحال رمضان»(60).
وقال ابن القيِّم: «قالوا: وأمَّا ظنُّ مُعارضته بالأحاديث الدَّالة على صيام شعبان، فلا معارضة بينهما، وإنَّ تلك الأحاديث تدلُّ على صوم نِصفه مع ما قبله، وعلى الصَّوم المعتاد في النِّصف الثَّاني. وحديث العلاء يدلُّ على المنع مِن تَعمُّد الصَّوم بعد النِّصف، لا لعادة، ولا مُضافا إلى ما قبله، ويشهد له حديث التَّقدُّم»(61).
وجاء في «مجموع فتاوى ابن باز» (15/385): «أمَّا الحديث الذي فيه النَّهي عن الصَّوم بعد انتصاف شعبان: فهو صحيح، كما قال الأخ العلاَّمة الشَّيخ ناصر الدِّين الألباني، والمراد به: النَّهي عن ابتداء الصَّوم بعد النِّصف، أمَّا مَن صام أكثر الشَّهر، أو الشَّهر كلَّه: فقد أصاب السُّنة، والله وليُّ التَّوفيق».
هذا ما أمكن جمعه بهذه المناسبة، فإن أصبتُ فمِن الله وحده، وله الحمد والمنَّة، وإنْ كانت الأُخرى فمِن نفسي ومِن الشَّيطان، وأسأل الله التَّجاوز والمغفرة، والصَّلاة والسَّلام [/center]على رسول الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
شَهْرُ شَعْبَانَ: حِكَمٌ وأَحْكَامٌ
الشيخ نجيب جلواح حفظه الله
الحمدُ لله الذي جعلَ لعبادِه مواسمَ يستكثرون فيها مِن القُربات والعملِ الصَّالح، وأَمَدَّ في آجالهم فهم في أبوابِ الخيرِ بين غادٍ ورائِح، ومِن هذه المواسم المباركات، التي على المسلمِ أن يغتنمها لزرع الطَّاعات، والتَّزوُّد بالباقيات الصَّالحات: شهر شعبان.
وفي هذا المقال تذكير بفضل هذا الشّهر، الذي يغفل عنه كثير من النّاس،كما أخبرنا بذلك نبيّنا ـ صلى الله عليه وسم ـ، وهذا لنستعدّ له بالاجتهاد في الطّاعة، اقتداء بنبيّنا وقدوتنا ـ صلى الله عليه وسم ـ، والإكثار فيه من الصّيام؛ إذْ أنَّ «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا»(1).
و قبل الشُّروع في المطلوب، أُقدِّم ـ بين يدي الموضوع ـ بذكر ما قيل في معنى هذا الشَّهر:
شعبان: اسم للشَّهر المعروف، الَّذي بين رجب ورمضان، وقيل: سمِّي (شعْبَان): لتشعُّبهم فِيهِ، أَي: تفرُّقهم فِي طلب المِيَاه(2).
وقيل: سمِّي كذلك: لتشعُّب القبائل فيه(3)، أو لتشعُّبهم في الغارات(4).
قال ثعلب: «قال بعضهم: إنَّما سمِّي شعبانُ شعبانَ لأنَّه شَعَبَ، أي: ظهر بين شهريْ رمضان ورجب»(5).
وقال ابن حجر: «وسمِّي شعبان: لتشعُّبهم في طلب المياه، أو في الغارات بعد أن يخرج شهر رجب الحرام، وهذا أولى مِن الذي قبله، وقيل فيه غير ذلك»(6).
وقد يقال ـ أيضا ـ: إنَّه سمِّي بذلك لتشعُّب الخير فيه بالنِّسبة للصَّائم، وهذا بناء على ما جاء في حديثٍ: أخرجه الرَّافعي في «تاريخه» عن أنس بن مالك مرفوعًا: «إِنَّمَا سُمِّي شَعْبانَ؛ لأَنَّهُ يَتَشَعَّبُ فِيهِ خَيْرٌ كثِيرٌ لِلصَّائِمِ فِيهِ حَتَّى يَدْخُلَ الجَنَّةَ»، ولكنَّ هذا الحديث لا يثبت(7).
وقد اخترتُ ـ في هذا المقال ـ بعض الأحاديث الصَّحيحة الواردة في السُّنّة المطهَّرة، في أبواب متنوِّعة، ممَّا له صِلةٌ وعلاقة بشهر شعبان، وجعلتها تحت أبواب مناسبة، كما تَرجم لها أهل الحديث أو قريبا من ذلك، ثمَّ أتبعتها بذكر ما حوته مِن حِكم وأحكام، ممَّا هو مبثوث في شروحات أهل العلم، وهذا على وجه الاختصار والإيجاز، وأسأل الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه ï´؟يَومَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)ï´¾ [الشُّعراء].
1 ـ فَضل ليلة النِّصف مِن شعبان:
وروى أحمد (6642) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «يَطَّلِعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلاَّ لاثْنَيْنِ: مُشَاحِنٍ، وَقَاتِلِ نَفْسٍ»(8).
وأخرجه ابن حبّان (5665) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «يَطْلُعُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ»(9).
وأخرجه البيهقي في «السُّنن الكبرى» (1426)، والطَّبراني في «المعجم الكبير» (593) عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ اطَّلَعَ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ، فَيَغْفِرُ لِلمُؤْمِنِينَ وَيُمْلِي لِلكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ»(10).
قال الألباني: «وجملة القول أنَّ الحديث بمجموع هذه الطُّرق صحيح بلا ريب، والصِّحَّة تثبت بأقلَّ منها عددا، ما دامت سالمة مِن الضَّعف الشَّديد، كما هو الشَّأن في هذا الحديث، فما نقله الشَّيخ القاسمي ـ رحمه الله تعالى ـ في «إصلاح المساجد» (ص 107) عن أهل التَّعديل والتَّجريح: أنَّه ليس في فضل ليلة النِّصف مِن شعبان حديث صحيح، فليس ممَّا ينبغي الاعتماد عليه، ولئن كان أحد منهم أطلق مثل هذا القول فإنَّما أوتي مِن قِبل التَّسرُّع وعدم وسع الجهد لتتبُّع الطُّرق على هذا النَّحو الذي بين يديك، والله تعالى هو الموفِّق»(11).
ويكفي هذه اللَّيلة المباركة فضلا: أنَّ الله تعالى يغفر فيها لجميع خلقه إلاَّ لأهل الحقد والبغضاء والشَّحناء، وفي هذا دعوة إلى العفو عن المسيء والتَّجاوز عن المخطئ، والجزاء من جنس العمل.
والمشاحن: هو المعادي، والشَّحناء: هي العداوة. وقال الأوزاعي: أراد بالمشاحن ها هنا: صاحب البدعة، المفارق لجماعة الأمَّة(12).
ولا يفوتني ـ بهذه المناسبة ـ التَّنبيه على أنَّه لم يصحَّ شيء في فضل قيام هذه اللَّيلة، إذْ كلُّ ما ورد في ذلك لا يسلم مِن ضعف، و ممَّا رُوي في هذا الباب: ما أخرجه ابن ماجه (1388) والبيهقي في «شعب الإيمان» (3555) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: أَلاَ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لِي فَأَغْفِرَ لَهُ، أَلاَ مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ، أَلا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ، أَلاَ كَذَا، أَلاَ كَذَا، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ»(13).
قال عليٌّ القاري: «واعلم أنَّ المذكور في «اللآلي»: إنَّ مائة ركعة في نصف شعبان بالإخلاص عشر مرات في كلِّ ركعة مع طول فضله للدَّيلمي وغيره: موضوع. وفي بعض الرَّسائل، قال عليُّ بن إبراهيم: و ممَّا أُحدث في ليلة النِّصف مِن شعبان: الصَّلاة الألفية، مائة ركعة بالإخلاص عشرا عشرا بالجماعة، واهتمُّوا بها أكثر مِن الجُمَع والأعياد لم يأتِ بها خبر ولا أثر إلاَّ ضعيف أو موضوع، ولا تغترَّ بذكر صاحب «القوت» و«الإحياء» وغيرهما، وكان للعوام بهذه الصَّلاة افتتان عظيم، حتَّى التزم بسببها كثرة الوقيد، وترتَّب عليه مِن الفُسوق وانتهاك المحارم ما يغني عن وصفه، حتَّى خشي الأولياء مِن الخسف، وهربوا فيها إلى البراري»(14).
كما أنبِّه ـ أيضًا ـ على عدم مشروعيَّة تخصيص صوم يوم ليلة النّصف مِن شعبان، لعدم ورود ما يدلُّ عليه، لذا قال المباركفوري: «والحاصل أنَّه ليس في صوم يوم ليلة النِّصف من شعبان حديث مرفوع صحيح أو حسن أو ضعيف خفيف الضّعف، ولا أثر قويّ أو ضعيف»(15).
2 ـ قضاء رمضان في شعبان:
ذكرتْ أمّ المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنَّ الأمر الذي كان يمنعها وسائر نساء النّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِن تعجيل قضاء رمضان حتى يأتي شعبان: هو الشُّغل من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، و في ذلك أحاديث أذكر منها ما يلي:
1 ـ روى البخاري (1950) ومسلم (1146) عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ تَقُولُ: «كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ، الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أَوْ بِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ».
2 ـ وروى مسلم (1146) عَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ أَنَّهَا قَالَتْ: «إِنْ كَانَتْ إِحْدَانَا لَتُفْطِرُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَمَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَقْضِيَهُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَتَّى يَأْتِيَ شَعْبَانُ».
3 ـ وروى التّرمذي (783) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَا كُنْتُ أَقْضِي مَا يَكُونُ عَلَيَّ مِنْ رَمَضَانَ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ»(16).
«والمراد مِن الشُّغل: أنَّها كانت مهيِّئة نفسها لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مترصِّدة لاستمتاعه في جميع أوقاتها إنْ أراد ذلك، وأمَّا في شعبان فإنّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يصومه، فتتفرَّغ عائشة لقضاء صومها... وممَّا يُستفاد مِن هذا الحديث: أنَّ القضاء مُوسَّع، ويصير في شعبان مُضيَّقا، ويؤخذ مِن حرصها على القضاء في شعبان أنَّه لا يجوز تأخير القضاء حتَّى يدخل رمضان، فإنْ دخل فالقضاء واجب ـ أيضًا ـ فلا يسقط»(17).
وتجدر الإشارة ـ هنا ـ إلى أنَّ بعض العلماء يرى أنَّ الجملة الواردة في هذه الرِّواية الأولى، وهي: «الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم، أَوْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ـ» ليست من قول أمِّ المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ بل مدرجة في الحديث.
قال الألباني: «واعلم أنَّ ابن القيِّم والحافظ وغيرهما قد بيَّنا أنَّ قوله ـ في الحديث ـ: «الشُّغل مِن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أو برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ» مُدرج في الحديث، ليس مِن كلام عائشة، بل مِن كلام أحد رواته، وهو يحيى بن سعيد، ومِن الدَّليل على ذلك قول يحيى في رواية لمسلم: «فظننتُ أنَّ ذلك لمكانها مِن النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ». ولكن هذا لا يخدج فيما ذكرنا؛ لأنَّنا لم نستدلَّ عليه بهذا المدرج، بل بقولها: «فما أستطيع...»، والمدرج إنَّما هو بيان لسبب عدم الاستطاعة، وهذا لا يهمُّنا في الموضوع، ولا أدري كيف خفي هذا على الحافظ حيث قال في ـ خاتمة شرح الحديث ـ: «وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مُطلقا سواء كان لعذر أو لغير عذر لأنَّ الزِّيادة كما بيَّناه مدرجة...»؟! فخفي عليه أنَّ عدم استطاعتها هو العذر، فتأمل»(18).
3 ـ شعبان أحبُّ الشُّهور إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنْ يصومه:
روى أبو داود (2431) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي قَيْسٍ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: «كَانَ أَحَبَّ الشُّهُورِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنْ يَصُومَهُ: شَعْبَانُ، ثُمَّ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ»(19).
فإنْ قيل: كيف كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخصُّ شعبان بصيام التَّطوُّع فيه، مع أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو القائل: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ»(20)؟
إنَّ جماعةً مِن أهل العلم أجابوا عن ذلك بقولهم: إنَّ أفضل الصِّيام ـ بعد شهر رمضان ـ: شعبان؛ لمحافظته ـ صلى الله عليه وسلم ـ على صومه أو صوم أكثره، ولأنَّه يَسبق رمضان، فيكون صيامه كالسُّنن الرَّواتب في الصَّلوات الَّتي تكون قبلها، وعليه يحمل قولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعدَ رَمَضَانَ شَهرُ اللهِ المُحَرَّمُ»: على التَّطوُّع المطلق(21).
قال النَّووي: «قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعدَ رَمَضَانَ شَهرُ اللهِ المُحَرَّمُ»: تصريح بأنَّه أفضل الشُّهور للصَّوم، وقد سبق الجواب عن إكثار النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِن صوم شعبان دون المحرَّم، وذكرنا فيه جوابين:
أحدهما: لعلَّه إنَّما عَلِم فضله في آخر حياته.
- والثَّاني: لعلَّه كان يعرض فيه أعذار مِن سفر أو مرض أو غيرهما»(22).
4 ـ كان رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثرَ صيامًا في شعبان:
يُستحبُّ للمسلم أنْ لا يُخْلي شهرًا مِن صيام، فمتى وجد نشاطًا وقُدرة بادر إلى ذلك، فيفعل ما يقتضيه الحال مِن تجرُّده عن الأشغال، إذْ صوم النَّفل غير مختصٍّ بزمان مُعيَّن دون غيره، بل كلُّ أيَّام السَّنة صالحة له، إلاَّ ما استثناه الشَّرع ونهى عن الصِّيام فيه، نحو: العيد وأيَّام التَّشريق، ولكن له أنْ يخصَّ شعبان بالصَّوم أكثر مِن غيره، لما ورد فيه مِن الفضل(23):
1 ـ روى البخاري (1969) ومسلم (1156) عَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ رَمَضَانَ ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا في شَعْبَانَ».
2 ـ وروى البخاري (1970) عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ».
3 ـ وروى مسلم (1156) عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَتْ: «كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ صَامَ ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَفْطَرَ، وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلاً».
4 ـ وروى التّرمذي (737) عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ كَانَ يَصُومُهُ إِلاَّ قَلِيلا بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ»(24).
وقد جمع بعض أهل العلم بين هذه الأحاديث التي ورد في بعضها: أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ»، وبين الأخرى التي جاء فيها: أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلاً» بأنَّ المراد بـ «كُلِّهِ»: غالبه؛ لأنَّ روايات الحديث يُفسِّر بعضها بعضًا خصوصًا وأنَّ المخرَج مُتَّحد، فأطلق الكلَّ على الأكثر(25).
ورُوي عن ابن المبارك أنَّه قال ـ في هذا الحديث ـ: «هو جائز في كلام العرب: إذا صام أكثر الشَّهر أنْ يُقال: صام الشَّهر كلَّه، ويقال: قام فلان ليله أجمع، ولعلَّه تعشَّى واشتغل ببعض أمره».
وحاصله: أنَّ رواية: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلاً» مُفسِّرة لرواية: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ» ومخصِّصة لها، وأنَّ المراد بـ «الكلّ»: الأكثر(26).
وجَمع الطِّيبي بينهما: بأنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يصوم شعبان كلَّه في وقت، ويصوم مُعظمه في آخر، لئلاَّ يَتوهَّم النَّاسُ وجوبَ صيامه كلِّه، فيكون كرمضان(27).
وقيل: المراد بقولها: «كلَّه»: أنّه كان يصوم مِن أوَّله تارة، ومِن آخره أخرى، ومِن أثنائه طورا، فلا يُخْلي شيئًا منه مِن صيام، ولا يخصُّ بعضه بصيام دون بعض(28).
وقال الزَّين بن المنيِّر: إمَّا أنْ يحمل قول عائشة على المبالغة، والمراد: الأكثر، وإمَّا أنْ يُجمع بأنَّ قولها الثَّاني مُتأخِّر عن قولها الأوَّل، فأخبرتْ عن أوَّل أمره: أنَّه كان يصوم أكثره، وأخبرتْ ـ ثانيًا ـ عن آخر أمره: أنَّه كان يصومه كلَّه.
وقال الحافظ ابن حجر ـ مُعلِّقا على كلام ابن المُنَيِّر السَّابق ـ: «ولا يخفى تكلُّفه، والأوَّل هو الصَّواب»(29).
ثمّ ساق الحافظ حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ الَّذي أخرجه مسلم (1156) ـ ولفظه: «وَمَا رَأَيْتُهُ صَامَ شَهْرًا كَامِلاً، مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَمَضَانَ»، ويؤيِّده ـ أيضًا ـ حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ، المذكور آنفًا، وفيه قولها: «وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا في شَعْبَانَ» [متَّفق عليه].
كما جُمع بينهما ـ أيضا ـ بحمل قولها ـ رضي الله عنها ـ: «كَانَ يَصُومُ شَعبَانَ كُلَّهُ»: على حذف حرف الاستثناء والمستثنى ، أي: إلاَّ قليلاً منه، ويدلُّ عليه رواية عبد الرَّزاق في «مصنَّفه» (7859) بلفظ: «وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَامَ مِنْ شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ إِلاَّ قَلِيلاً»(30). وأشبه بهذا اللَّفظ رواية مسلم (1156): «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلاً». وإنْ كان هذا يرجع ـ في المعنى ـ إلى الجمع الأوَّل(31).
5 ـ وَصْل شعبان برمضان:
لقد ورد ـ فيما صحَّ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنَّه كان يَصِل شعبان برمضان، مع أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن تقدُّم رمضان بصوم يومٍ أو يومين، فسنذكر ـ أوَّلا ـ ما يُثبت هذا الأمر، ثمَّ نثنِّي بذكر ما يرفع التَّعارض ويزيل الإشكال:
1 ـ روى أبو داود (2336) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنَ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا إِلاَّ شَعْبَانَ، يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ»(32).
2 ـ وروى التِّرمذي (736) والنَّسائي (2175) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ»(33).
3 ـ وروى ابن ماجه (1649) عَنْ رَبِيعَةَ بنِ الغَازِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ فَقَالَتْ: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَصِلَهُ بِرَمَضَانَ»(34).
أمَّا بالنِّسبة للجمع بين ما ذكرنا سابقا، فقد حمل العلماء النَّهي على مَن لم يكن صام شيئًا من شعبان، حتَّى إذا قرُب رمضان أنشأ صياما، وأمَّا غيره ممَّن كان له عادة مِن صيام أيَّام البيض، أو الاثنين والخميس، أو استدام الصِّيام مِن بداية شعبان: فلا حرج عليه أنْ يصل شعبان برمضان؛ لأنَّه ما أراد بذلك الاحتياط:
قال أبو الوليد الباجي: «إنَّ مَن كان في شعبان: لم يَجُز له أن يتقدَّم صيام رمضان بصيام يوم أو يومين، ومَن استدام الصَّوم مِن أوَّل شعبان: جاز له استدامة ذلك حتَّى يصله برمضان»(35).
وقال الشَّوكاني: «لأنَّ ذلك جائز عند المانعين مِن صوم يوم الشَّكِّ، لما في الحديث الصَّحيح ـ المتَّفق عليه ـ»(36).
ثمَّ أشار إلى الحديث الذي رواه البخاري (1914) ومسلم (1082) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قَالَ: «لاَ يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذَلِكَ اليَوْمَ».
6 ـ الحِكمة في إكثاره ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ مِن الصِّيام في شعبان:
روى النَّسائي (2357) عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»(37).
بيَّن رسولُ الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ وجهَ صيامِه شعبانَ: بأنَّ الأعمال تُرفع فيه، وهو يحبُّ أن يُرفع عمله وهو صائم، واختار الصَّوم لفضله، وطلبًا لزيادة رفعة الدَّرجة، لذا كان ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يصوم ـ أيضًا ـ الاثنين والخميس للعلَّة السَّابقة:
لما روى التِّرمذي (747) عن أبي هريرة أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»(38).
وفي رواية قال: «إِنَّ الأَعْمَالَ تُرْفَعُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»(39).
ولا يُنافي رفعُ الأعمال في هذين اليومين ـ أي: الاثنين والخميس ـ رفعَها في شعبان، لجواز رفع أعمال الأسبوع مُفصّلة، وأعمال العام مُجملة(40).
وقيل ـ أيضا ـ: تُرفع الأعمال في شعبان إلى الملأ الأعلى، ولا ينافي ذلك رفع أعمال اللَّيل بعد صلاة الصُّبح، ورفع أعمال النَّهار بعد صلاة العصر ـ يوميا ـ وكذا رفع الأعمال كلَّ يوم اثنين وخميس ـ أسبوعيا ـ؛ لأنَّ الأوَّل: رفع عامٌّ لجميع ما يقع في السَّنة، والثَّاني: رفع خاصٌّ لكلِّ يوم وليلة، والثَّالث: رفع لجميع ما يقع في الأسبوع، وكان حِكمة تكرير هذا الرَّفع: مزيد من تشريف الطَّائعين، وتقبيح عمل العاصين(41).
وقال السِّندي: «وهو شهر تُرفع الأعمال فيه إلى ربِّ العالمين. قيل: ما معنى هذا مع أنَّه ثبت في «الصَّحيحين»: أنَّ الله تعالى يُرفع إليه عمل اللَّيل قبل عمل النَّهار، وعمل النَّهار قبل عمل اللَّيل؟ قلتُ: يُحتمل أمران:
أحدهما: أنَّ أعمال العباد تُعرض على الله تعالى كلَّ يوم، ثمَّ تُعرض عليه أعمال الجمعة في كلِّ اثنين وخميس، ثمَّ تُعرض عليه أعمال السَّنة في شعبان، فتُعرض عرضًا بعد عرض، ولكلِّ عرض حِكمة، يُطْلع عليها مَن يشاء مِن خلقه، أو يستأثر بها عنده، مع أنّه ـ تعالى ـ لا يخفى عليه مِن أعمالهم خافية.
ثانيهما: أنَّ المراد: أنَّها تُعرض في اليوم تفصيلا، ثمَّ في الجمعة جملة، أو بالعكس»(42).
هذا مِن جهة، ومِن جهة أخرى فإنَّ الحِكمة مِن إكثار النَّبيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ مِن الصِّيام في شعبان: هو أنَّ أكثر النَّاس يغفل عنه، وهذا لما اكتنفه شهران عظيمان، وهما الشَّهر الحرام ـ وهو رجب ـ وشهر الصِّيام ـ وهو رمضان ـ فاشتغل النَّاس بهما، وغفلوا عن شعبان، وإنَّما يغْفل النَّاس عَنهُ تقوِّيا بِالفطرِ لرمضان، وكلُّ وَقت يغْفل النَّاس عَنهُ يكون فَاضلا لقلَّة القائمين فيه بِالخدمَةِ، كما هو الأمر بالنِّسبة لقيام اللَّيْل وَأَشْبَاه ذَلِك(43)، لذا قال رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ»(44).
7 ـ صوم سَرَر شعبان:
روى البخاري (1983) ومسلم (1161) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قَالَ لَهُ ـ أَوْ لآخَرَ ـ: «أَصُمْتَ مِنْ سرَرِ شَعْبَانَ؟» قَالَ: لا، قَالَ: «فَإِذَا أَفْطَرْتَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ».
لقد سألَ رسولُ الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في هذا الحديث ـ عمرانَ بن حُصين ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ هل صام شيئا مِن سَرَرِ شعبان؟ فلمَّا أجابه بالنَّفي، حثَّه على صيام يومين مِن شوال بعد أنْ يُفطر مِن رمضان. وسَرَر الشَّهر: آخِره، وَسمّي بذلك لاستسرار القمر فيها(45).
وقوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «فَإِذَا أَفطَرتَ» أي: مِن رمضان، كما في رواية مسلم ولفظها: «فَإِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ رَمَضَانَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ» أي: إذا فرغت من صيام رمضان، فصُم يومين بعد العيد عوضًا عن سَرر شعبان، وفي هذا حضٌّ على أنْ لا يمضي على المكلَّف مثل شعبان ولم يَصُم منه شيئا، إذْ لمَّا فات السَّائلَ صومُه: أمره أنْ يُعوِّضه بغيره، وهو دليل على مشروعيَّة قضاء التَّطوُّع. وقال القرطبي: ويظهر لي أنَّه إنَّما أمره بصيام يومين في غيره: للمزيَّة التي يختصُّ بها شعبان، فلا يبعد في أنْ يُقال: إنَّ صومَ يومٍ منه كصوم يومين في غيره، ويشهد له أنَّه ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ كان يصوم منه أكثر ممَّا كان يصوم مِن غيره، اغتنامًا لمزيَّة فضيلته»(46).
وفي هذا الحديث إشكال ـ أيضا ـ من حيث إنَّه معارِض لحديث: «لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ إِلاَّ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا، فَلْيَصُمْهُ»(47).
وقد جَمع بعضُ العلماء بين الأحاديث المبيحة مع حديث النَّهي، بأنْ خصُّوا حديثَ النَّهي بمن يحتاط ـ بزعمه ـ لرمضان؛ لأنَّ صوم رمضان مُُرتبط بالرُّؤية، فلا حاجة إلى التَّكلُّف. وقد استحسن الحافظ ابن حجر هذا الجمع(48).
قال الشَّيخ عبد المحسن العبَّاد: «ويكون ذلك محمولاً على مَن كان له عادة، وهذا حتَّى يتَّفق مع الأحاديث التي فيها النَّهي عن التقدم، ثمَّ ـ أيضًا ـ لو لم يكن هناك هذا؛ فإنَّ الاحتياط هو عدم الصِّيام؛ لأنَّ الأخذ بالنَّهي أولى مِن الأخذ بالرُّخصة والإذن، فالإنسانُ إذا لم يَصُم: أكثر ما في الأمر أنَّه ترك سنَّة ولم يترك واجبًا، فلا يلحقه إثم، ولكنَّه إذا صام ـ وقد جاء النَّهي ـ: فإنَّه يكون مُتعرِّضًا للإثم، فعلى الإنسانِ ألاَّ يَتعرَّض للإثم في سبيل أنْ يفعل شيئًا هو سُنَّة، وقد جاء عن عمَّار ـ رضي الله عنه ـ أنَّه قال: «من صام اليوم الذي يُشكُّ فيه فقد عصى أبا القاسم ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ» يعني: في قوله: «لاَ تَتَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِيَومٍ أَو يَومَينِ»(49).
8 ـ النَّهي عن صيام النِّصف الباقي مِن شعبان:
روى أبو داود (2337) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قَالَ: «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلاَ تَصُومُوا».
ورواه التِّرمذي (738) ـ بلفظ ـ: «إِذَا بَقِيَ نِصْفٌ مِنْ شَعْبَانَ فَلاَ تَصُومُوا».
ورواه ابن ماجه (1651) ولفظه: «إِذَا كَانَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ فَلا صَوْمَ حَتَّى يَجِيءَ رَمَضَانُ».
وقد اختلفتْ آراءُ أهل العلم في حُكم الصِّيام في النِّصف الثَّاني مِن شهر شعبان على أقوال:
الأوَّل: الكراهة؛ لظاهر هذا الحديث. قال الشَّافعي: يُكره التَّطوُّع إذا انتصف شعبان، لقوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلاَ تَصُومُوا»(50).
وقيل: الحِكمة مِن النَّهي عن صيام النِّصف الثَّاني: ليتقوَّى بذلك على صيام الفرض في شهر رمضان، كما كُره للحاجِّ الصَّوم بعرفة ليتقوَّى بالإفطار على الدُّعاء(51).
واعتُرض على مَن قال: إنَّ النَّهي لأجل التَّقوِّي على صيام رمضان والاستجمام له، بأنَّه أبعد، لأنَّ نصف شعبان إذا أضعف، كان كلُّ شعبان أحرى أنْ يُضعِف، وقد جوَّز بعض العلماء صيام جميع شعبان(52).
الثَّاني: الجواز مُطلقا، لمن رأى ضعف الحديث. قال ابن حجر: «وقال جمهور العلماء: يجوز الصَّوم تطوُّعا بعد النِّصف مِن شعبان، وضعَّفوا الحديث الوارد فيه، وقال أحمد وابن معين: إنَّه مُنكر»(53).
واعتُرض على هذا: بأنَّ الحديث إسناده صحيح على شرط مُسلم، وصحَّحه جمعٌ مِن أهل العلم؛ منهم: التِّرمذي وابن حبَّان، واحتجَّ به ابن حزم، وقوَّاه ابن القيِّم، وصحَّحه الألباني(54).
ومنهم مَن زعم النَّسخ، بحجَّة أنَّ أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ كان يصوم في النِّصف الثَّاني مِن شعبان، فدلَّ ذلك على أنَّ ما رواه منسوخ(55).
ورَدَّ ذلك ابنُ حزم، فقال: «ولا يجوز أنْ يُظنَّ بأبي هريرة مخالفة ما روى عن النَّبيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ والظنُّ أكذب الحديث؛ فمَن ادَّعى ـ هاهنا ـ إجماعًا فقد كذب... ومَن ادَّعى نسخًا في خبر العلاء فقد كذب، وقَفَا ما لا عِلْم له به، وبالله تعالى نتأيَّد»(56).
الثَّالث: جواز صيامه لمن كانت له عادة، أي: وافق ذلك صومًا كان يصومه المرء قبل ذلك، و ليس النَّهي عن الصَّوم ـ في هذا الحديث ـ نهيًا مُطلقًا(57).
ومنهم مَن حمل النَّهي الوارد في هذا الحديث على مَن يُضعفه الصَّوم(58) أو على من لم يَصِله بما قبله، أي: لم يَصُم قبل نصف الشَّهر(59).
قال التِّرمذي: «ومعنى هذا الحديث ـ عند بعض أهل العلم ـ: أنْ يكون الرَّجل مُفطرًا، فإذا بقي مِن شعبان شيء أخذ في الصَّوم لحال شهر رمضان. وقد رُوي عن أبي هريرة عن النَّبيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ما يشبه قولهم، حيث قال ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «لاَ تَقَدَّمُوا شَهرَ رَمَضَانَ بِصِيَامٍ إِلاَّ أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَومًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُم» وقد دلَّ في هذا الحديث: أنَّما الكراهيَّة على مَن يتعمَّد الصِّيام لحال رمضان»(60).
وقال ابن القيِّم: «قالوا: وأمَّا ظنُّ مُعارضته بالأحاديث الدَّالة على صيام شعبان، فلا معارضة بينهما، وإنَّ تلك الأحاديث تدلُّ على صوم نِصفه مع ما قبله، وعلى الصَّوم المعتاد في النِّصف الثَّاني. وحديث العلاء يدلُّ على المنع مِن تَعمُّد الصَّوم بعد النِّصف، لا لعادة، ولا مُضافا إلى ما قبله، ويشهد له حديث التَّقدُّم»(61).
وجاء في «مجموع فتاوى ابن باز» (15/385): «أمَّا الحديث الذي فيه النَّهي عن الصَّوم بعد انتصاف شعبان: فهو صحيح، كما قال الأخ العلاَّمة الشَّيخ ناصر الدِّين الألباني، والمراد به: النَّهي عن ابتداء الصَّوم بعد النِّصف، أمَّا مَن صام أكثر الشَّهر، أو الشَّهر كلَّه: فقد أصاب السُّنة، والله وليُّ التَّوفيق».
هذا ما أمكن جمعه بهذه المناسبة، فإن أصبتُ فمِن الله وحده، وله الحمد والمنَّة، وإنْ كانت الأُخرى فمِن نفسي ومِن الشَّيطان، وأسأل الله التَّجاوز والمغفرة، والصَّلاة والسَّلام [/center]على رسول الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق