الأحد، 18 يونيو 2017

أسس مجاهدة النفس

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :-



{ والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلـَنا.. (69)} العنكبوت.
المجاهدة هي وسيلة الهداية الى الله ورضوانه ،والهداية تصل بنا إلى التقوى قال تعالى :
{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (17)}محمد .
فنقطة البداية الصحيحة في السيرإلى الله تعالى هي المجاهدة ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام :
" المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله " المحدث ابن تيمية والدرجة ثابت
ونحن هنا بسبيل أن نرسم صورة لقضية مجاهدة النفس في اسسها العامة التي نصل بها إلى أن تتخلص النفس من أمراضها وتتحقق بمعاني صحتها .
وتبدأ المجاهدة من : ــ نقطة الإيمان بالله ووحدانيته وأن محمدا رسول الله (صلَّ الله عليهِ و سلَّم) وقد لا يحس المسلم الناشيء في بيئة إسلامية بأن الأمر ههنا في باب المجاهدة يحتاج إلى ذكر وهذا خطأ كبير ،فأكبر شيء على الإطلاق أن يستطيع الإنسان أن يقفز من كفر إلى إيمان أو أن يعلن إيمانه في بيئة تستنكر الإيمان أو تسخر من أهله :قال تعالى { ومن يؤمن يهدِ قلبَه } التغابن .
ثم تأتي القضية الثانية : وهي القيام بفروض الوقت من صلاة إذا جاء وقتها ،أو صيام رمضان إن جاء ،أو أداء زكاة إذا حال الحول ،أو أداء حج إذا حضر وقته وكان الإنسان مستطيعا ، أو نكاح إذا تيسر ذلك ،أو ضبط معاملة من بيع أو أجارة على مقتضى الشرع أو صلة رحم وبر والدين وغير ذلك من فروض الوقت ،ولكل إنسان فروض وقته قد تتفق مع فروض الآخرين وقد تختلف على حسب حاله ووضعه ولكن لا بد من ملاحظة أدب الوقت ؛ كأدب وقت الصباح ووقت السحر ووقت الغروب ، أدب السفر أو عرس أو في مأدبة ،،،وهي قضايا مكملة لفروض الوقت مع ضبط النفس عن المحرمات والمكروهات التي تطالب فيها النفس أو يصادفها السائر خلال سيره .
والجزء الثالث في المجاهدة هو : ما يرتبه المسلم على نفسه من نوافل العبادات من صلاة وزكاة وصيام واعتكاف وحج وأدعية وأذكار وقراءة قرآن،ويجاهد نفسه بأن يكون له دورات روحية ما استطاع إليه سبيلا وبالقدر الذي يتيسر له فإن استطاع أن تكون دورته ثلاثة أيام أو سبعة أو شهرا, أو أقل أو أكثر فليفعل بما لا يضيع عياله ولا عمله الذي يكسب منه قوته ولا واجباته اليومية ،كذلك إن استطاع أن يربط بين الدورة وبعض الشهور كرمضان أو الأشهرالحرم أو غير ذلك مما ورد فيه نصوص تدل على خصوصيته على أن يكون مردود البرنامج الروحي عاليا فإذا استطاع أن يجمع بين صيام وقيام وصلوات جماعة وقراءة قرآن وأنواع الأذكار كان بها ،وإلا اقتصر على نوع من أنواع الذكر كالصلاة على رسول الله أو لا إله إلا الله أو الاستغفار أو الجمع بين التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد ،،ويا حبذا لويحصل المسلم على غذاء روحي يومي ينبغي أن يجعل له حدا أدنى لا بد أن يؤديه ثم بعد ذلك إن وجد فراغا أو إقبالا من النفس زاد ،وإذا رأى من نفسه كسلا أو مللا تصرف معها بما يحسن من سياسة حكيمة للنفس ،وإذا غلبته نفسه فكسلت لسبب من الأسباب فإنه إن استطاع أن يعوض ذلك عوض وإلا استأنف من جديد في أول لحظة تفيء نفسه فتعود إلى ما رتبه لها صاحبها من أوراد يومية .. فإن مثل هذه الدورات ترتقي بالإنسان ارتقاءات كبيرة وتنقل حاله من حال إلى حال ولا شك أن إيمانه سينمو ومعاني التوحيد في قلبه ستترسخ وسيعطيه ذلك صفاء فكر وحسن تأمل هذا عدا عن معان كثيرة أخرى كلها ضرورية في عصر غلبت عليه المادة وطغت الشهوات فإذا كرر ذلك كل فترة في حياته فإن ذلك محل رجاء أن يبقى نور الإيمان في قلبه عظيما وأن يبقى الإيمان في قلبه جديدا ،عدا ما يغلب عليه من طمأنينة وترفع عن هواجس النفس وتجنب لوساوس الشيطان وفتنته.
ثم تأتي القضية الرابعة في المجاهدة وهي أركان المجاهدة :
العزلة ، والصمت ، والجوع ، والسهر ،
ونبدأ بالعزلة :وليس القصد هنا الابتعاد عن المسلمين وعدم مخالتطهم فالأصل في حياة المسلم الخلطة الصالحة والاجتماع الطيب والألفة للخير وأهله .وانما القصد بالعزلة اعتزال الكفروالنفاق والفسوق وأهل ذلك واعتزال المجالس التي يستهزيء فيها بأيات الله وغير ذلك،
ولعل أوضح شيء في هذا الباب ما رواه حذيفة بن اليمان :كان الناس يسألون رسول الله (صلَّ الله عليهِ و سلَّم)عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر ، مخافة أن يدركني ، فقلت : يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : ( نعم ) . قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : ( نعم ، وفيه دخن ) . قلت : وما دخنه ؟ قال : ( قوم يهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر ) . قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : ( نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها ) . قلت : يا رسول الله صفهم لنا ، قال : ( هم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا ) . قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : ( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ) . قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : ( فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة ، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك )المحدث البخاري.
فهناك حالات تُطلب من أجلها العزلة ،فمتى اشتهر الإنسان كثرت علائقه وإذا كثرت علائقه ضاع كثير من وقته بسبب هذه العلائق ،وإذا ضاع كثير من وقته تعذر عليه تكميل نفسه علما وعملا وحالا فهذه حالة من أجلها تطلب العزلة ،،،
وإذا خلا الإنسان بنفسه وجال بفكره في ملكوت السموات والأرض انعكس ذلك على قلبه صلاحا فهذه حالة ثانية من أجلها تطلب العزلة ،،،
وعندما الإنسان يخالط فصفاء قلبه ضعيف وانطباع الأشياء في هذا القلب قوي ،وعزلة معها فكر وذكر تساعده على جلاء مرآة قلبه ،،،
وما دام الإنسان في خلطة فكثير من مثيرات الشهوات يمكن أن تجر قلبه والعزلة تقطعه عن مثل هذا ،وذلك يساعد قلبه على التحرر من رق الشهوات فهذا جانب آخر تساعد عليه العزلة ،،،
وما دام الإنسان على خلطة فالغفلة تغلبه فإذا أتيحت له عزلة مع ذكر وفكر فإن هذا يساعده على يقظة قلبه وما دام القلب كثير الخلطة فهو كثير الهفوات وهذا يحول بينه وبين فهم دقائق الأسرار ،والعزلة تساعده على الخلاص من هفوات القلب وعلى التأهل لصالح فهم دقائق الأسرار ،،،
هذه مجموعة من المعاني التي اعتمدت من أجلها العزلة كجزء من مجاهدة النفس بل كركن فيها مع ملاحظة أن ذلك كله ينبغي أن يكون مرحليا في حياة الإنسان وألا يكون على حساب واجبات الوقت وآدابه وتضييع حقوقه ،وإن في سنة رسول الله(صلَّ الله عليهِ و سلَّم) مما يجعلنا نستأنس لمثل هذا مما ثبت عنه مثل اعتكافه في رمضان وغيره واعتكف في بعض السنين عشرين يوما ،ومثل خلوته في غار حراء وهي مع كونها قبل النبوة إلا أنها كانت من توفيق الله لرسوله (صلَّ الله عليهِ و سلَّم).
أما الركن الثاني الصمت:وهو ان يتجنب المسلم آفات اللسان فيحفظ لسانه من اللغو والاثم ويستعملها في دائرة الخير، فالأصل في قضية اللسان ألا يستعمله إلا في الخير وأن يضبطه عن كل شر بل أن يضبطه عن اللغو فضلا عن الشر ،قال عليه الصلاة والسلام :"من كان يؤمن بالله واليوم الآخرفليقل خيرا أو ليصمت "
فاللسان هو أداة التعبير عن النفس وما يختلجها من فخروسباب وخصام وانتقاص الاخرين وغير ذلك،وعليه فمن لم يعود نفسه الصمت صعب عليه وزن كلماته قبل أن يتكلم ؛فقد يحسن أن يقول الكلمة الخيرة ولكن قد لا يحسن ان يقول الكلمة الحكيمة .فعلى المسلم ان يتحكم في لسانه ويضبطه فمن نجح في الصمت كان حريا ان ينجح في الكلام المنضبط بتوفيق الله ما لم يكن الكلام واجبا أو مفروضا كأمر بمعروف ونهي عن منكرأو تعليم واجب فالصمت عندئذ حرام ،لذا فالصمت وسيلة لا غاية ولمرحلة في الحياة حتى تستقيم النفس.
الجوع:ان الاكل والشراب بالقدر الذي يقيم اود الانسان حتى يستطيع القيام بالفروض والواجبات ؛الاكل بهذا القدر فرض، والتوسع في الطعام لدرجة الشبع مباح ،والاسراف فيه حرام فالاصل في حياة المسلم كما جاء في الحديث الصحيح"بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن لم يكن فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه " فاذا اهمل هذا الاصل بطرت نفسه واستعصى عليه ضبطها ،
لذا كان الجوع دواء لبعض أحوال النفس وأمراضها كما جاء في حديث لرسول الله (صلَّ الله عليهِ و سلَّم)أخرجه الطبراني بإسناد حسن "عليكم بالحزن فإنه مفتاح القلب ،قالوا :يا رسول الله وكيف الحزن قال : أحنفوا أنفسكم بالجوع وأظمؤوها ".وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام :"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ؟رواه البخاري .،،فإذا كان الأكل حتى الشبع مباحا فأن يعطي الإنسان نفسه كل شهواتها حتى المباحة فإن ذلك يتنافى مع الذوقية الإسلامية والروحانية العامة للإسلام ،ولا بد من ملاحظة الضرر في الحالتين فكل ما أدى إلى ضرر جسمي أكيد فهو محرم وكل ما أدى إلى ضرر محتمل فهو مكروه .،ولا تنس أن الصوم كجزء من المجاهدة بالجوع هو الأرقى.
السهر: ان عدم تحكم المسلم في نومه قد يترتب عليه تفريط في كثير من الامور؛فصلاة الفجر جماعة قد تتعرض للخطر والاستغفار بالأسحار قد يتعرض للخطر ،وقيام الليل والتهجد قد يضيعان وخاصة أن الوضع الغالب على الكثير بحكم ارتباط حياة الإنسان المعاصر بأجهزة التلفاز ونشرات الأخبار فقد تضيع معه كثير من الفروض والنوافل والسنن الإسلامية ولذا يزداد الطلب على التحكم بالنوم ..
،وإن لليل في الإسلام لشأنا خاصا قال تعالى :{ إن ناشئة الليل هي أشدُّ وطءًا وأقومُ قيلا (6)} المزمل ، فأن ينشيء الإنسان لعبادة في الليل فذلك ثقيل عليه وله بذلك أجر وإن لعبادة الليل من الصفاء ما ليس لغيرها ..ومن مظاهر هذا الشأن ما جاء في الحديث الشريف أخرجه الترمذي بإسناد حسن:" قيل يا رسول الله :أي الدعاء أسمع ؟ قال جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات "،وفي حديث آخر أخرجه الستة إلا النسائي عن رسول الله (صلَّ الله عليهِ و سلَّم) " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الاخر فيقول :من يدعوني فأستجيب له ،من يسألني فأعطيه ،من يستغفر فأغفر له "..ولما كان السهر ركنا من أركان المجاهدة فقد يكون مكروها إذا لم يتحقق الهدف منه ففي الحديث "كان رسول الله (صلَّ الله عليهِ و سلَّم) يكره النوم قبل العشاء والحديث بعده "متفق عليه .،فالسهر الذي يرافقه لغو مكروه فكيف إذا رافقه حرام ،،فالمراد هنا السهر الهادف المليء بالعلم والذكر والقيام وقراءة القرآن بما لا يضيع معه صلاة الصبح ، ويمكن للمسلم ان يعوض احتياجات جسمه الى النوم في وقت ما قبل الظهر او ما بعد الظهر .

..فمن الملاحظ أن لهذه الأركان الأربع صلة ببعضها ،فمن شبع كثيرا احتاج إلى النوم الكثير ،ومن لم يجاهد نفسه بالصمت فقد يضيع عليه سهره ،والعزلة تساعد على التحكم في قضايا السهر والصمت والطعام ،فإذا استطاع المسلم أن يتحكم في كلامه وطعامه ونومه وخلطته فقد
أصبح على أبواب الخير كله وقد أصبح بإمكانه أن يتحكم فيما سوى ذلك..
أما القضية الخامسة للمجاهدة وهي إحدى ثمار المجاهدة الرئيسية ؛ألا وهي :
تأمل النفس والقلب واكتشاف الأمراض ومعالجتها .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق