أثر الصوم في تزكية النفوس وتهذيب السلوك
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّد المرسلين، نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد، فإنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ خَلَقَ الخلقَ لعبادته الجامعة لتوحيده ومحبَّته ومعرفته، ولتحقيق هذه الغاية العظيمة، شرع لهم من الأحكام ما فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد إحسانًا إليهم ورحمةً بهم وتمام نعمته عليهم، وقد استقرَّت العقول السَّليمة والفطر المستقيمة على حسن الشَّريعة واشتمالها على الحكمة والمصلحة والعدل والرَّحمة.
ومن محاسن التَّشريع مشروعيَّة الصَّوم، فقد فرضه الله ـ عزَّ وجلَّ ـ في شهر رمضان، وجعله النَّبي ﷺ أحد أركان الإيمان، وما شرعه الله تعالى من أجل تعذيب خلقه بالجوع والعطش، وتحميلهم مشقَّته، بل شرعه سبحانه لحِكَمٍ عُظْمَى وفوائد كبرى يتجلَّى فيها مدى حسنه:
من أعظمها وأجلِّها أنَّه يوجب تقوى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ، وهي فعل ما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، وهي الحكمة الَّتي ذكرها الله ـ عزَّ وجلَّ ـ في كتابه حيث قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾[البقرة:183]، والحقُّ أنَّ كلَّ الحِكَم الَّتي تستفاد من الصَّوم فإنَّها ترجع إلى أصل التَّقوى، فهي رأس الأمر وجماع الخير، فما استعان أحد على تقوى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وحفظ حدوده، واجتناب محارمه بمثل الصَّوم، ولهذا كان الصَّوم وقاية من عذاب الله تعالى، كما قال النَّبيُّ ﷺ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ»؛ أي وقاية من النَّار، لأنَّه إمساكٌ عن الشَّهوات، والنَّار محفوفة بالشَّهوات.
ومن محاسن الصَّوم أنَّه يربِّي النَّفس على الصَّبر، ويعوِّدها على تحمُّل المشاقِّ في سبيل الله ـ عزَّ وجلَّ ـ، فهو يجمع أنواع الصَّبر الثَّلاثة: الصَّبر على المأمور، والصَّبر على المحظور، والصَّبر على المقدور، ومن استكمل هذه الأنواع فقد استكمل حقيقة الصَّبر، وبلغ ذروته؛ فيكون صَبرًا على المأمور؛ لأنَّ الصَّائم يحبس نفسه على امتثال أمر الله له بالصَّوم؛ وعلى المحظور؛ لأنَّ الصَّائم يجتنب ما حرِّم عليه؛ وصبرًا على المقدور؛ لأنَّ الصَّائم يحبس نفسه على الرِّضى بما قدّر عليه من ألم الجوع والعطش.
ومنها: أنَّه يعوِّد النَّفس على امتثال أوامر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وإخلاص العمل له، ورجاء ثوابه، لقوله ﷺ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». [رواه البخاري (38)، ومسلم (1817) عن أبي هريرة رضي الله عنه]. يعني: مصدِّقًا بفرض صيامه، ومحتسبًا مريدًا بذلك وجه الله، بريئًا من الرِّياء والسُّمعة.
ومنها: أنَّه وسيلة للاستعفاف، وضبط النَّفس عن هيجانها، وإطفاء نار شهوتها، وتضييق مسالك الشَّياطين من وساوسها، ولهذا حثَّ النَّبيُّ ﷺ الشَّباب الَّذين تعذَّر عليهم الزَّواج، وخشوا على أنفسهم من الفتنة أن يصوموا فقال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ». [رواه البخاري (4778)، ومسلم (1400) عن ابن مسعود رضي الله عنه].
قال الإمام ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ في «روضة المحبِّين» (239): «فأرشدهم إلى الدَّواء الشَّافي الَّذي وُضع لهذا الأمر، ثمَّ نقلهم عنه عند العجز إلى البدل، وهو الصَّوم، فإنَّه يكسر شهوة النَّفس، ويضيِّق عليها مجاري الشَّهوة، فإنَّ هذه الشَّهوة تقوى بكثرة الغذاء وكيفيَّته، فكميَّة الغذاء وكيفيَّته يزيدان في توليدها، والصَّوم يضيِّق عليها ذلك، فيصير بمنزلة وِجاء الفَحل، وقَلَّ من أدمن الصَّوم إلَّا وماتت شهوته أو ضعفت جدًّا، والصَّوم المشروع يُعدِّلها».
ومنها: أنَّه وسيلة عظيمة لجهاد النَّفس الذي هو أعظم من جهاد الكفَّار والمنافقين، وذلك لحملها على فعل ما أمرت به وترك ما نهيت عنه، ومنعها من حظوظها وشهواتها محبَّةً لله وطاعةً له، وإيثارًا لمرضاته، وهذا معنى قوله: «يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي»، كي يتعوَّد الصَّائم على قهر نفسه وغلبته عليها حتَّى تنقاد لأمر مولاها ومخالفة هواها.
ومنها: أنَّه وسيلة لتزكية النَّفس من شهواتها وتطهيرها من أدرانها؛ لأنَّ الصَّائم يدع أحبَّ الأشياء إليه من الطَّعام والشَّراب والجماع من أجل الله تعالى، وهذا معنى قوله تعالى في الحديث القدسي: «إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي». [رواه مسلم (1151)].
ومنها: أنَّه يورث خشية الله تعالى والخوف منه في السِّرِّ فضلًا على العلانيَّة؛ لأنَّ الصَّائم لا يطَّلع عليه أحد بمجرَّد فعله إلَّا الله، فبإمكانه أن ينتهك حرمة الصَّوم بالإفطار دون أن يراه النَّاس؛ لكن يترك ذلك خشيةً من الله تعالى.
ومنها: أنَّ الصَّوم جُنَّة، يحفظ صاحبه من الآثام، ويعصم جوارحه من الوقوع في الحرام، كما قال النَّبيُّ ﷺ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: «إِنِّي صَائِمٌ» مَرَّتَيْنِ». [رواه البخاري (1795)، ومسلم (1762) عن أبي هريرة رضي الله عنه].
فالرَّفَثُ هاهنا الفُحش والخَنَا، والجهل هو السَّفَهُ،وقال ﷺ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ». [رواه البخاري (1804، 5710) عن أبي هريرة رضي الله عنه].
ومنها: أنَّه يربِّي النَّفس على حسن الخلق والحلم والأناة، وتحمُّل إيذاء النَّاس، ويعوِّدها على كَظْمِ الغيظ وسكون الغضب، لقوله ﷺ: «إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ»، فيحفظ الصَّائم نفسه من أن تمضي ما هي قادرةٌ على إمضائه، باستمكانها ممَّن غاظها، وانتصارها ممَّن ظلمها.
ومنها: أنَّه يطهِّر النَّفس من الشُّحِّ والبُخل، ويربِّيها على الجود والكرم، كما قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺأَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللهِ ﷺ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ». [رواه البخاري (1803)، ومسلم (2308)].
وإنَّما كان يعظم جوده في رمضان؛ لأنَّه موسم الخيرات، وفيه تتضاعف الحسنات، وليعين الصَّائمين على صومهم، وَليُفطِّرَهم، فيحصل له مثلأجورهم، وإذا ذاق الصَّائم ألم الجوع والعطش دعاه ذلك إلى التفكُّر في البائس الفقير الَّذي يبيت على الطّوى طول السَّنة، فبادر إلى التَّصدُّق عليه والإحسان إليه.
ومنها: أنَّه يحمل النَّفس على التَّسابق في الخيرات، والتَّنافس في الأعمال الصَّالحات، لقوله ﷺ: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَللهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ». [رواه التِّرمذي (682)، وابن ماجه (1642)، وصحَّحه الشَّيخ الألباني في «صحيح السُّنن»].
ومنها: أنَّه يعين الإنسان على تزكية نفسِه وتطهيرها من المحرَّمات والعادات السَّيِّئة المدمن عليها، كمن بُلي بشرب الخمر أو الدُّخان أو العادة السِّرِّيَّة، فإنَّ الصَّوم خير عون له على التَّخلِّي عنها.
فهذه بعض الحِكَم والمعاني الَّتي نجنيها من الصَّوم في تزكية نفوسنا وتهذيب سلوكنا وتربية أجيالنا، ولهذا قال ﷺ: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ». [رواه النَّسائي (2223)، وأحمد (5 /248) عن أبي أمامة، وصحَّحه الشَّيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في «صحيح الجامع» (4044)].
وبالله التوفيق، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّد المرسلين، نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد، فإنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ خَلَقَ الخلقَ لعبادته الجامعة لتوحيده ومحبَّته ومعرفته، ولتحقيق هذه الغاية العظيمة، شرع لهم من الأحكام ما فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد إحسانًا إليهم ورحمةً بهم وتمام نعمته عليهم، وقد استقرَّت العقول السَّليمة والفطر المستقيمة على حسن الشَّريعة واشتمالها على الحكمة والمصلحة والعدل والرَّحمة.
ومن محاسن التَّشريع مشروعيَّة الصَّوم، فقد فرضه الله ـ عزَّ وجلَّ ـ في شهر رمضان، وجعله النَّبي ﷺ أحد أركان الإيمان، وما شرعه الله تعالى من أجل تعذيب خلقه بالجوع والعطش، وتحميلهم مشقَّته، بل شرعه سبحانه لحِكَمٍ عُظْمَى وفوائد كبرى يتجلَّى فيها مدى حسنه:
من أعظمها وأجلِّها أنَّه يوجب تقوى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ، وهي فعل ما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، وهي الحكمة الَّتي ذكرها الله ـ عزَّ وجلَّ ـ في كتابه حيث قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾[البقرة:183]، والحقُّ أنَّ كلَّ الحِكَم الَّتي تستفاد من الصَّوم فإنَّها ترجع إلى أصل التَّقوى، فهي رأس الأمر وجماع الخير، فما استعان أحد على تقوى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وحفظ حدوده، واجتناب محارمه بمثل الصَّوم، ولهذا كان الصَّوم وقاية من عذاب الله تعالى، كما قال النَّبيُّ ﷺ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ»؛ أي وقاية من النَّار، لأنَّه إمساكٌ عن الشَّهوات، والنَّار محفوفة بالشَّهوات.
ومن محاسن الصَّوم أنَّه يربِّي النَّفس على الصَّبر، ويعوِّدها على تحمُّل المشاقِّ في سبيل الله ـ عزَّ وجلَّ ـ، فهو يجمع أنواع الصَّبر الثَّلاثة: الصَّبر على المأمور، والصَّبر على المحظور، والصَّبر على المقدور، ومن استكمل هذه الأنواع فقد استكمل حقيقة الصَّبر، وبلغ ذروته؛ فيكون صَبرًا على المأمور؛ لأنَّ الصَّائم يحبس نفسه على امتثال أمر الله له بالصَّوم؛ وعلى المحظور؛ لأنَّ الصَّائم يجتنب ما حرِّم عليه؛ وصبرًا على المقدور؛ لأنَّ الصَّائم يحبس نفسه على الرِّضى بما قدّر عليه من ألم الجوع والعطش.
ومنها: أنَّه يعوِّد النَّفس على امتثال أوامر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وإخلاص العمل له، ورجاء ثوابه، لقوله ﷺ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». [رواه البخاري (38)، ومسلم (1817) عن أبي هريرة رضي الله عنه]. يعني: مصدِّقًا بفرض صيامه، ومحتسبًا مريدًا بذلك وجه الله، بريئًا من الرِّياء والسُّمعة.
ومنها: أنَّه وسيلة للاستعفاف، وضبط النَّفس عن هيجانها، وإطفاء نار شهوتها، وتضييق مسالك الشَّياطين من وساوسها، ولهذا حثَّ النَّبيُّ ﷺ الشَّباب الَّذين تعذَّر عليهم الزَّواج، وخشوا على أنفسهم من الفتنة أن يصوموا فقال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ». [رواه البخاري (4778)، ومسلم (1400) عن ابن مسعود رضي الله عنه].
قال الإمام ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ في «روضة المحبِّين» (239): «فأرشدهم إلى الدَّواء الشَّافي الَّذي وُضع لهذا الأمر، ثمَّ نقلهم عنه عند العجز إلى البدل، وهو الصَّوم، فإنَّه يكسر شهوة النَّفس، ويضيِّق عليها مجاري الشَّهوة، فإنَّ هذه الشَّهوة تقوى بكثرة الغذاء وكيفيَّته، فكميَّة الغذاء وكيفيَّته يزيدان في توليدها، والصَّوم يضيِّق عليها ذلك، فيصير بمنزلة وِجاء الفَحل، وقَلَّ من أدمن الصَّوم إلَّا وماتت شهوته أو ضعفت جدًّا، والصَّوم المشروع يُعدِّلها».
ومنها: أنَّه وسيلة عظيمة لجهاد النَّفس الذي هو أعظم من جهاد الكفَّار والمنافقين، وذلك لحملها على فعل ما أمرت به وترك ما نهيت عنه، ومنعها من حظوظها وشهواتها محبَّةً لله وطاعةً له، وإيثارًا لمرضاته، وهذا معنى قوله: «يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي»، كي يتعوَّد الصَّائم على قهر نفسه وغلبته عليها حتَّى تنقاد لأمر مولاها ومخالفة هواها.
ومنها: أنَّه وسيلة لتزكية النَّفس من شهواتها وتطهيرها من أدرانها؛ لأنَّ الصَّائم يدع أحبَّ الأشياء إليه من الطَّعام والشَّراب والجماع من أجل الله تعالى، وهذا معنى قوله تعالى في الحديث القدسي: «إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي». [رواه مسلم (1151)].
ومنها: أنَّه يورث خشية الله تعالى والخوف منه في السِّرِّ فضلًا على العلانيَّة؛ لأنَّ الصَّائم لا يطَّلع عليه أحد بمجرَّد فعله إلَّا الله، فبإمكانه أن ينتهك حرمة الصَّوم بالإفطار دون أن يراه النَّاس؛ لكن يترك ذلك خشيةً من الله تعالى.
ومنها: أنَّ الصَّوم جُنَّة، يحفظ صاحبه من الآثام، ويعصم جوارحه من الوقوع في الحرام، كما قال النَّبيُّ ﷺ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: «إِنِّي صَائِمٌ» مَرَّتَيْنِ». [رواه البخاري (1795)، ومسلم (1762) عن أبي هريرة رضي الله عنه].
فالرَّفَثُ هاهنا الفُحش والخَنَا، والجهل هو السَّفَهُ،وقال ﷺ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ». [رواه البخاري (1804، 5710) عن أبي هريرة رضي الله عنه].
ومنها: أنَّه يربِّي النَّفس على حسن الخلق والحلم والأناة، وتحمُّل إيذاء النَّاس، ويعوِّدها على كَظْمِ الغيظ وسكون الغضب، لقوله ﷺ: «إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ»، فيحفظ الصَّائم نفسه من أن تمضي ما هي قادرةٌ على إمضائه، باستمكانها ممَّن غاظها، وانتصارها ممَّن ظلمها.
ومنها: أنَّه يطهِّر النَّفس من الشُّحِّ والبُخل، ويربِّيها على الجود والكرم، كما قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺأَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللهِ ﷺ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ». [رواه البخاري (1803)، ومسلم (2308)].
وإنَّما كان يعظم جوده في رمضان؛ لأنَّه موسم الخيرات، وفيه تتضاعف الحسنات، وليعين الصَّائمين على صومهم، وَليُفطِّرَهم، فيحصل له مثلأجورهم، وإذا ذاق الصَّائم ألم الجوع والعطش دعاه ذلك إلى التفكُّر في البائس الفقير الَّذي يبيت على الطّوى طول السَّنة، فبادر إلى التَّصدُّق عليه والإحسان إليه.
ومنها: أنَّه يحمل النَّفس على التَّسابق في الخيرات، والتَّنافس في الأعمال الصَّالحات، لقوله ﷺ: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَللهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ». [رواه التِّرمذي (682)، وابن ماجه (1642)، وصحَّحه الشَّيخ الألباني في «صحيح السُّنن»].
ومنها: أنَّه يعين الإنسان على تزكية نفسِه وتطهيرها من المحرَّمات والعادات السَّيِّئة المدمن عليها، كمن بُلي بشرب الخمر أو الدُّخان أو العادة السِّرِّيَّة، فإنَّ الصَّوم خير عون له على التَّخلِّي عنها.
فهذه بعض الحِكَم والمعاني الَّتي نجنيها من الصَّوم في تزكية نفوسنا وتهذيب سلوكنا وتربية أجيالنا، ولهذا قال ﷺ: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ». [رواه النَّسائي (2223)، وأحمد (5 /248) عن أبي أمامة، وصحَّحه الشَّيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في «صحيح الجامع» (4044)].
وبالله التوفيق، والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق