السبت، 3 أغسطس 2019

محبة النبي عليه الصلاة والسلام ليست مظاهر

كلٌّ منَّا يدَّعِي أنه يحبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكرمه، ويجلُّه، ويتبنى أسوته، ويتصف في حياته بالسيرة النبوية الشاملة؛ ولكن إذا قمنا بالموازنة بين قوله وعمله، نجد بينهما بونًا شاسعًا، وهو يختار لنفسه المناهج الأرضية، والقوانين الوضعية، تاركًا سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهَدْيه، وأسوته، ونابذًا لها وراء ظهره، سلوكه هذا المأساوي الشنيع هو ما تنقض به دعواه بأنه يكرم سيد البشرية صلى الله عليه وسلم، ويتأسَّى بسيرته في كل قوله وفعله.

الحب الصادق له مقتضيات، الحب الصادق له شروط، فمن يمتثلها ويطبقها في حياته، فهو محب صادق حقًّا؛ يقول الشاعر:

مَن يدَّعي حبَّ النبيِّ ولم يفدْ ♦♦♦ مِنْ هَدْيهِ فسفاهةٌ وهراءُ

وكما قال القائل:
تعصي الإلهَ وأنتَ تُظهِر حبَّه
هذا لَعمري في القياسِ بديعُ
لو كان حبُّك صادقًا لأطعتَه
إن المحبَّ لمَن يُحِب يطيعُ

إن مَن أحب شيئًا آثر موافقته، وإلا لم يكن صادقًا في حبه، وكان مدَّعيًا فقط، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم مَن تظهر علامةُ ذلك عليه، وقد تحدَّث علماء الأمة عن علاماته:

فيقول القاضي عياض: "ومِن محبته نصرة سُنته، والذب عن شريعته، وتمنِّي حضور حياته، فيبذل نفسه وماله دونه".

ويقول الحافظ ابن حجر: "ومِن علامة الحب المذكور أن يُعرض على المرء أن لو خُيِّر بين فقد غرضٍ من أغراضه، أو فقد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كانت ممكنة، فإن كان فقدها - أن لو كانت ممكنة - أشد عليه من فقد شيء من أغراضه، فقد اتصف بالأحبية المذكورة، ومَن لا فلا، وليس ذلك محصورًا في الوجود والفقد، بل يأتي مثله في نصرة سُنته، والذب عن شريعته، وقمع مخالفيها، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"[1].

أولًا: لزوم محبته صلى الله عليه وسلم:

ومن مقتضيات حبِّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون حبُّه أزيد من حبه أولاده، أمواله، وسائر دنياه؛ فقد قال الله عز وجل: ï´؟ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ï´¾ [التوبة: 24]، فيكفي هذه الآية الكريمة دلالة وشهادة في وجوب حب الرسول صلى الله عليه وسلم، والتزام محبته أكثر من كل شيء في الدنيا، وإلا أوعدهم الله عز وجل بقوله: ï´؟ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ï´¾ [التوبة: 24]، وقال عنهم أنهم الذين حادوا عن طريق الهداية، وسلكوا في طريق الغَواية.

وهناك أحاديث تشير إلى فرضيَّة حب الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن أنس رضي الله عنه: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين))[2].

وكذلك عن زهرة بن معبد، عن جده قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: والله، لأنت يا رسول الله أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون عنده أحب إليه من نفسه))، فقال عمر: فلأنت الآن والله أحبُّ إليَّ من نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الآن يا عمر))[3].

ثانيًا: الاقتداء به، واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدُّب بآدابه في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه:

وشاهد هذا قوله تعالى: ï´؟ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ï´¾ [آل عمران: 31]، لا بد للمحب أن يقتفيَ آثاره صلى الله عليه وسلم واتباع هَدْيه، وإيثار ما شرعه، والحض عليه، وتقديمه على هوى نفسه وموافقة شهوته.

ثالثًا: وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم:

إن الله عز وجل جعل طاعةَ الرسول صلى الله عليه وسلم مِن طاعته، ووعد على طاعته صلى الله عليه وسلم الثواب الجزيل، والأجر الوفير، كما أوعد على مخالفته بسوء العقاب، فأوجب امتثال أمره واجتناب نواهيه، فقال الله عز وجل: ï´؟ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ï´¾ [النساء: 80]، وقال: ï´؟ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ï´¾ [الحشر: 7].

وقال السمرقندي في ذلك: أطيعوا الله في فرائضه، والرسولَ صلى الله عليه وسلم في سننه، وقيل: أطيعوا الله فيما حرَّم عليكم، والرسولَ صلى الله عليه وسلم فيما بلَّغكم، ويقال: أطيعوا الله بالشهادة له بالربوبية، والنبيَّ صلى الله عليه وسلم بالشهادة له بالنبوة.

ونذكُر هنا بعض الأحاديث في وجوب إطاعته، فقد ورد في الخبر عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مَثَلي ومَثَل ما بعثني الله به كمَثَل رجلٍ أتى قومًا، فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاءَ، فأطاعه طائفةٌ من قومه، فأدلجوا فانطلقوا على مهلِهم، فنجَوا، وكذَّبت طائفةٌ منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبَّحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مَثَل مَن أطاعني فاتَّبع ما جئتُ به، ومَثَل مَن عصاني وكذَّب بما جئت به من الحق))[4].

وفي حديث آخر: ((كمَثَل رجلٍ بنى دارًا، وجعل فيها مأدبةً، وبعث داعيًا، فمَن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل مِن المأدبة، ومن لم يُجِبِ الداعيَ لم يدخُلِ الدار، ولم يأكل من المأدبة...، فالدار الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أطاع محمدًا صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، ومَن عصى محمدًا صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم فرقٌ بين الناس))[5].

رابعًا: وجوب اتباعه وامتثال سنته، والاقتداء بهديه:

ومِن مقتضى حب النبي صلى الله عليه وسلم وجوب اتباعه، وامتثال أوامره، والاقتداء بهَدْيه في الأمور كلها؛ لأن المحب لمن يحب يطيع، وأنه يسعى إلى فعل ما يحبه حبيبه، واجتناب ما يبغضه، فقد قال الله عز وجل: ï´؟ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ï´¾ [آل عمران: 31]؛ يعني يغفر الله لهم إذا اتبَعوه وآثروه على أهوائهم، وما تجنح إليه نفوسهم.

وقال في موضع آخر: ï´؟ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ï´¾ [النساء: 65].

يقول ابن كثير في مقتضى الآية وفحواها:

"يُقسِم تعالى بنفسِه الكريمة المقدسة، أنه لا يؤمن أحدٌ حتى يحكِّم الرسولَ صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكَم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا؛ ولهذا قال: ï´؟ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ï´¾ [النساء: 65]؛ أي: إذا حكَّموك يُطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمتَ به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيُسلِّمون لذلك تسليمًا كليًّا من غيرِ ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، كما ورد في الحديث: ((والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لِما جئتُ به))[6].

كان الصحابة والسلف الصالحون حريصينَ على اتِّباع سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، من غير أن يبحثوا عن العلل، ودون تردد واستفسار.

وفي رواية البخاري أن قومًا من الأنصار أسرَعوا في تولية وجوههم نحو الكعبة، وهم ركوع في مسجد قباء عندما سمعوا عن تحويل القبلة[7]، هناك لم يترددوا في التمسك به، بل بادروا بالتوجه إلى حيث توجَّه الحبيب.

كذلك في رواية البخاري لَمَّا حرمت الخمر، ونادى المنادي: "ألَا إن الخمر قد حرِّمت"، أهرقوها، فجَرَتْ في سكك المدينة[8]، تم ذلك كله من غير قيل وقال، وتردد واستفسار، يا له من استسلام وانقياد!

عن عمر أنه جاء إلى الحجر فقبَّله، فقال: "إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبِّلك ما قبَّلتك"[9].

ورُئي عبدالله بن عمر رضي الله عنه يدير ناقتَه في مكان، فسُئل عنه، فقال: لا أدري، إلا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، ففعلتُه[10].

وهذه سيرة الصحابة والصالحين من الأمة المحمدية، أنهم يتبنَّون سيرته في الفرائض والواجبات والسُّنن، حتى في المباحات وشهوات النفس، وقد قال أنس حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدُّبَّاء من حوالي القصعة: فما زلتُ أحبُّ الدبَّاء من يومئذٍ.

عن عبيد الله بن أبي رافع، أن جدته سلمى أخبرته، قالت: دخلت على الحسن بن علي، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عباس، فقالوا: صفي لنا طعاما مما كان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم أكله، فقالت: يا بني إذا لا تشتهونه اليوم، فقمت فأخذت شعيرا فطحنته، ونسفته وجعلت منه خبزة وكان أدمه الزيت، ونثرت عليه الفلفل فقربته إليهم، وقلت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب هذا" (المعجم الكير الطبراني، سلمى امرأة أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث: 957).

وكان ابن عمر يلبس النعال السبتية (وهي جلود البقر المدبوغة بالقرظ، يتخذ منها النعال)، ويصبغ بالصفرة؛ إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل نحو ذلك[11].

يقول الحسن بن أبي الحسن: عمل قليل في سُنَّة، خير من عمل كثير في بدعة؛ (المرجع السابق).

وقال سهل التستري: أصول مذهبنا ثلاثة:

• الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأخلاق والأفعال.

• والأكل من الحلال.

• وإخلاص النية في جميع الأعمال.

وجاء في تفسير قوله تعالى: ï´؟ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ï´¾ [فاطر: 10]، أنه الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم[12].

وهذا أحد السلف - وهو الجنيد بن محمد - يقول: الطرق إلى الله تعالى كلها مسدودة على الخلق إلا مَن اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، ولزم طريقته؛ فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه، ï´؟ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ï´¾ [الأحزاب: 21][13].

خامسًا: ترك مخالفة أمره، وتبديل سنته:

ومن مقتضيات حب الرسول أن يتبع سُنته، ويتأسى بسيرته، ويقتدي بهَدْيه، كما كانت، فمخالفة أمره وتبديل سُننه بدعة وضلالة، يستحق العبد على ذلك العذاب والخذلان من الله عز وجل؛ قال الله عز وجل: ï´؟ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ï´¾ [النور: 63].

وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ليُذَادَنَّ رجالٌ عن حوضي، كما يُذاد البعير الضال، فأناديهم: ألا هلموا، فيقال: إنهم قد بدَّلوا بعدك، ولم يزالوا يرجعون على أعقابهم، فأقول: ألا سحقًا سحقًا!))[14].

وعن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فمَن رغِب عن سُنتي فليس مني))[15].

سادسًا: كثرة ذكره له صلى الله عليه وسلم:

ومن مقتضيات حبه كثرة ذكره، فمن أحب شيئًا يذكره، ويزداد شوقه إلى لقائه، فكل محب يحب لقاء حبيبه، ويرغب في صحبته، ويحرص على مرافقته في الدنيا والآخرة، كيف فرِح الأنصار بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم؟ هذا موقف السيرة النبوية يسترعي انتباهنا، يخرجون في كل صباح إلى الحرة، منتظرين قدومه صلى الله عليه وسلم، ويجلسون هناك حتى تشتد حرارة الشمس، فيعودون إلى بيوتهم، ويصف البراء بن عازب فرح أهل المدينة بمقدم الحبيب صلى الله عليه وسلم إليهم بقوله: "فما رأيت أهل المدينة فرِحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم"[16].
هناك صحابي جليل، يذكُرُ موتَه وموت الحبيب صلى الله عليه وسلم، فيخشى مِن عدم تمكنه من النظر إلى وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم في الجنة.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنك لأحبُّ إليَّ من نفسي، وإنك لأحب إليَّ من أهلي ومالي، وإنك لأحبُّ إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك، عرَفتُ أنك إذا دخلتَ الجنة رُفِعتَ مع النبيين، وأني إذا دخلتُ الجنة خشيتُ ألا أراك، فلم يردَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: ï´؟ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ï´¾ [النساء: 69][17].

قال ابن القيم: "لأن العبد كلما أكثر مِن ذكر المحبوب، واستحضاره في قلبه، واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه، تضاعَف حبُّه، وتزايد شوقه إليه، واستولى على جميع قلبه، وإذا أعرض عن ذكرِه وإحضار محاسنه بقلبه، نقص حبه من قلبه، ولا شيء أقر لعين المحب من رؤية محبوبه، ولا أقر لقلبه من ذكره وإحضار محاسنه، فإذا قوي هذا في قلبِه، جرى لسانه بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه، وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه"[18].

سابعًا: تعظيمه وتوقيره، وإظهار الخشوع عند ذكره:

ومن مقتضيات حب الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيمُه وتوقيره، وإظهار الخشوع عند ذكره، قال إسحاق التجِيبي: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده لا يذكرونه إلا خشعوا، واقشعرت جلودهم، وبكوا، وكذلك كثير من التابعين، ومنهم من يفعل ذلك محبة له وشوقًا إليه، ومنهم يفعله تهيبًا وتوقيرًا[19].

ولقد حرَص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على تعليم الناس تعظيمَ النبي صلى الله عليه وسلم ميتًا كتعظيمه حيًّا، وذلك مِن تمام وفائه للنبي صلى الله عليه وسلم.

روى البخاري عن السائب بن يزيد قال: كنت قائمًا في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب، فأتني بهذين، فجئته بهما، قال: مَن أنتما؟ - أو من أين أنتما؟ - قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتُكما؛ ترفعان أصواتَكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟![20].

وقال مصعب بن عبدالله: "كان مالكٌ إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، يتغيَّر لونه، وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يومًا في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت، لما أنكرتم عليَّ ما ترون.

ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر - وكان سيد القراء -: لا نكادُ نسأله عن حديث أبدًا إلا يبكي حتى نرحمه.

ولقد كنت أرى جعفر بن محمد، وكان كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفرَّ لونه، وما رأيتُه يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة"[21].

فمن تعظيمه صلى الله عليه وسلم ألا يذكر اسمه مجردًا، بل يوصف بالنبوة أو الرسالة، وهذا كان أدبًا للصحابة في ندائه، فهو أدب لهم ولغيرهم عند ذكره، فلا يقال: محمد، ولكن: نبي الله، أو الرسول، ونحو ذلك، كذلك كلما يذكر اسمه يصلى ويسلم عليه.


ثامنًا: محبته لمن أحب النبي صلى الله عليه وسلم وبُغض مَن أبغضه:

ومن مقتضيات حب النبي صلى الله عليه وسلم محبته لمَن أحب النبي صلى الله عليه من أهل بيته وأصحابه من المهاجرين والأنصار، وعداوة مَن عاداهم وبغض من أبغضهم؛ لأنه من أحبَّ شيئًا أحب من يحب، فمِن إجلال أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ذكرُ مناقبهم ومحاسنهم، والذود عنهم، والدعاء لهم في الصلاة والسلام؛ كما قال تعالى: ï´؟ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ï´¾ [الشورى: 23]، ومِن محبة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ذكر محاسنهم وفضائلهم، والكف عما شجر بينهم، يخشى الخسارة ممن يلمز أصحابه ويلومهم في الدنيا والآخرة، ففي الحديث: ((لا تسبُّوا أحدًا من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا، ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نَصيفه))[22].

ومن مقتضى حب النبي صلى الله عليه وسلم أن يبغض مَن أبغضه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يعادي ويجانب مَن عاداه وجانبه؛ مِن مخالف السنة، والمبتدع في دينه، يقول الله عز وجل: ï´؟ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ï´¾ [المجادلة: 22]، وهؤلاء أصحابه صلى الله عليه وسلم قد قتلوا أحباءَهم وقاتَلوا آباءهم وأبناءهم في مرضاة الله، لَمَّا خالفوا الله والرسول في مواقع الحرب والسلم.

خلاصة القول:

نحن الآن قد تباعدنا كثيرًا عن متابعة سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعظميه وتوقيره، والمحبة القلبية الخالصة له، وعدلنا عن سيرته وسُننه، وتشبَّثنا بأذيال عظماء الشرق والغرب، وأنهجنا منهجهم، في القيادة والسياسة، وفي الفكر والفلسفة، وفي الأدب والأخلاق، ما اكتفينا بذلك، بل نحن نعتزُّ ونفتخر بالانتساب إليهم، وباختيار أسلوبهم وطريقهم المضل، أين نحن من سيرة الصحابة والأسلاف؟ وأين حالنا من حالهم؟ وما أثر الحب عندنا؟ وما أثره عندهم؟ ولقد قام بقلوبهم ما قصرت هممنا عن أن تقوم بأقلِّه؟ رزَقَنا الله ما يحب ويرضى.

اللهم ارزقنا حبك وحب نبيك صلى الله عليه وسلم .امين


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق