الخلافة في الأرض
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة}، أي: قوماً يخلف بعضهم بعضاً [ابن كثير]. كما قال الله تعالى: {ويجعلكم خلفاء الأرض} وقول الله تعالى: {ويستخلف ربّي قوماً غيركم}، وقول الله تعالى لعاد: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح}، وقول الله تعالى لثمود: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد}، وقول الله تعالى لأمة محمد:{ثمّ جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون}.
وليس المراد بالخليفة (في الآية الأولى) آدم عليه السّلام بدليل قول الله تعالى: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}،وآدم منزّه عن ذلك [القرطبي].
والاستخلاف في عمارة الأرض وفي المال وفي الحكم ابتلاء من الله لكلّ مُستخلَف من عباده كما قال الله تعالى: {لننظر كيف تعملون} وقال الله تعالى لداود عليه السلام: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين النّاس بالحقّ ولا تتّبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله}، وقال الله تعالى عن سليمان عليه السلام: {هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أم أكفر}.
1ــ وقد غلب على مسلمي العصر الخلط في فهم معنى الخلافة فحصروها في الولاية الشاملة لجميع بلدان المسلمين، وظنّوها وحدها الصيغة الشرعية للحكم، مما أدى ببعض شباب الأمة – الذين رزقهم الله من الحماس ما لم يرزقهم من العلم والتّثبّت – إلى رفض غيرها من صيغ وعناوين الولاية، وأثناء تطلعهم واستعجالهم لهذا النوع المثالي من الحكم أسقطوا شرط الرّشد والهداية فعدّوا السلطنة العثمانية – غير الرّاشدة وغير المهدية – آخر خلافة شرعية.
والخلافة والاتحاد – مثل التعاون – قد تكون على البرّ والتّقوى أو على الإثم والعدوان.
2 – وقد بيّن النبي صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه أن "خلافة الّنبوّة [الرّاشدة المهديّة] ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء" رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم بإسناد صحيح. وهي ولاية أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم، وهم الذي ميّزهم النّبي صلى الله عليه وسلم بقوله (عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين من بعدي) رواه أحمد وأبو داوود والترمذي وابن ماجة وغيرهم.
3 – ولكن ثبت في الصّحيحين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يكون بعدي اثنا عشر خليفة من قريش) وفي رواية (لا يزال الدِّين قائماً حتى يكون اثنا عشر خليفة من قريش) وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون الأربعة وضِعْفُ عددهم من ولاة العهد الأموي، ومن هؤلاء الثمانية: الصالحون ومنهم دون ذلك، تجاوز الله عنّا وعنهم، وليسوا مثل الأربعة السابقين، ومع ذلك وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعليهم جميعاً بالخلفاء، وخيرهم: معاوية رضي الله عنه وآخرهم: عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
4 – وعلى هذا فليس لفظ الخليفة المطلق ولا غيره دليلاً على صحة الولاية ولا فسادها؛ وقد اصطفى الله طالوت مَلِكا يقاتل في سبيل الله (لا في سبيل الأرض والهوية العربية)، وزاده بسطة في العلم والجسم، وكان من جنده داود عليه الصلاة والسلام، وأتاه الله المُلْك والحكمة وعلمه مما يشاء، ووصف الله ولاية سليمان عليه الصلاة والسلام بالمُلْك إذ ورث أباه داود في العلم والحكم والنّبوّة، وخيّر الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بين أن يكون مَلكاً رسولاً وبين أن يكون عبداً رسولاً فاختار صفة العبودية والرّسالة فيما رواه الإمام أحمد وغيره.
5 – والإمامة [أو الخلافة أو الملك] تنال بالنصّ أو بالإيماء إليه كما في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، أو باستخلاف مَنْ قبله له كاستخلاف أبي بكر لعمر رضي الله عنهما، أو بترك الأمر شورى بين عدد من الصالحين يختاره الخليفة السّابق كما فعل عمر رضي الله عنــه، أو بإجمـــاع أهل الحلّ والعقــــد (لا الغوغاء) على مبايعته أو مبايعة واحدٍ منهم له؛ فيجب التزامها عند الجمهور، وحكى إمام الحرمين الإجماع على ذلك، أو بقهر واحدٍ النّاسَ على طاعته فتجب طاعته درءأً للشقاق والاختلاف، نصّ عليه الشافعي رحمه الله [ابن كثير]. وليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا في سنة خلفائه الرّاشدين، ولا فقه أئمة الدّين في القرون المفضّلة بل ولا في القرون العشرة بعدها ما يشرع الولاية بعدد أصوات النّاخبين فضلاً عن تفضيلها، وإنما ذلك تقليد للقوانين الوضعيّة وتحكيم لرأي الأكثريَّة، وقد قال الله تعالى عن أكثر الناس أنّهم {لايشكرون}، {لا يؤمنون}، {لا يعلمون}، {لا يفقهون}.
6 – وأكثر الأخطاء في فهم معنى الخلافة انتشاراً: اتباع القول بأنّها (خلافة عن الله في أرضه) تعالى الله عن الحاجة إلى استخلاف أحدٍ من عباده عنه، فهو العليم الخبير، وهو السميع البصير، وهو مع خلقه بعلمه وحكمه وتدبيره، ومع صالحي عباده بتوفيقه ونصره.
7 – ومما تقدم يتبين خطأ سيد قطب (تجاوز الله عنّا وعنه) الذي تلقّفه أكثر المسلمين اليوم في ظنّه أن اختيار معاوية رضي الله عنه (فمن بعده) ابنه للحُكْم من بعده خروج عن (قاعدة الإسلام الأساسيّة في الحكم: اختيار المسلمين المطلق)، كما أخطأ في ظنّه أن (الحاكم في الإسلام يتلقى الحكم من مصدر واحد: هو إرادة المحكومين) وأن الطريقة الصحيحة لاختيار الحاكم: (أن يستشير الجميع بالطريقة التي تكفل الحصول على آراء الجميع) وأنّ (النبيّ لا يملك أن يؤمّر أحداً دون مشورة المؤمنين، معركة الإسلام والرأسمالية دار الشروق 1414 ص 72 - 73)؛ فوراثة الحكم جائزة بنص الآية {وورث سليمان داود}، ولم يؤمّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم خليفة له من بعده (بمشورة ولا بدونها) نصّاً صريحاً، ولكن إنابته أبا بكر رضي الله عنه لإمامة المسلمين عنه في مرضه إشارة واضحة لأهليّته، وأولويته في تولّي الأمر بعده.
وعلى هذه السّنّة عهد أبو بكر بالأمر من بعده لعمر بن الخطاب رضي الله عن الخليفتين، وقد شرع الله الشورى بين المسلمين، ولكن نتيجتها غير ملزمة لوليّ الأمر، إذ خالف أبوبكر أكثر الصّحابة (أو كلهم) في محاربة مانعي الزكاة، بل وخالف من لم ير منهم تولية عمر من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين،
وصلى الله وبارك على محمد وعلى آل محمد وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
كتبه/ سعد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز الحصين تعاونا على البر والتقوى وتحذيرا من الإثم والعدوان.
المصدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق