مجلس ماتع من مجالس التابعين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد :
فقد تميزت مجالس السلف رحمهم الله ورضي عنهم بالهدوء والوقار ولين الجانب مع قوة العلم وحسن الفهم وجمال الخُلق وصفاء القلب واستحضار الدليل ، كل ذلك بأسلوب هادئ وحوار لطيف ونقاش علمي وأدب رفيع بعيد عن الفظاظة والغلظة والقسوة والشدة والتهكم والتنفير والإثارة والاستفزاز .
إنها مجالس تعَدُّ بحق مدرسةً راقيةً في جمال العلم وجمال الحوار وجمال الخُلق وجمال الحديث ، وإليك مجلس من روائع مجالسهم لترى من خلاله الطريقة المثلى والنهج الأسمى والمسلك الرشيد الذي كانوا عليه ، وليتنا نكون في مجالسنا كما كانوا لنسعد كما سعدوا ونفوز كما فازوا .
روى مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده عن حصين بن عبد الرحمن قال : كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ ؟ قُلْتُ أَنَا ، ثُمَّ قُلْتُ : أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ وَلَكِنِّي لُدِغْتُ ، قَالَ فَمَاذَا صَنَعْتَ ؟ قُلْتُ اسْتَرْقَيْتُ ، قَالَ فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ ؟ قُلْتُ حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ ، فَقَالَ وَمَا حَدَّثَكُمْ الشَّعْبِيُّ ؟ قُلْتُ : حَدَّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ، فَقَالَ قَدْ أَحْسَنَ مَنْ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي فَقِيلَ لِي هَذَا مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْمُهُ وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقِيلَ لِي انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ الْآخَرِ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقِيلَ لِي هَذِهِ أُمَّتُكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ )) ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ فَلَعَلَّهُمْ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فَلَعَلَّهُمْ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ((مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ ؟ )) فَأَخْبَرُوهُ ، فَقَالَ : (( هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)) فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ : ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ ، فَقَالَ : (( أَنْتَ مِنْهُمْ )) ، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ : ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ : ((سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ)) [1].
راوي هذا المجلس هو حصين بن عبد الرحمن أحد علماء التابعين الفضلاء وأئمة العلم النبلاء والحفاظ المتقنين .
يقول " كنت عند سعيد بن جبير " أي في مجلس ، وسعيد كذلك من أجلَّة التابعين وعلية العلماء المحققين ، فاستهل سعيد هذا المجلس المبارك بقوله : " أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة " ؛ والكوكب هو الشهاب الذي ترُجم به الشياطين حين يحاولون استراق السمع من السماء ، كما قال تعالى { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:6-10] .
وقوله " انقض البارحة " : أي سقط من السماء ، والبارحة هي أقرب ليلة مضت ، ومراده الليلة التي سبقت اليوم الذي عقدوا فيه هذا المجلس . ومن المعلوم أن من كان مستيقظاً في ذاك الوقت سيتنبه في الغالب لهذه الآية العظيمة الدالة على كمال قدرة الله عز وجل ، والله يقول : {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59] ، والسلف رحمهم الله يستشعرون هذا المعنى ويتذاكرونه ويذكرون به عظمة الله وكمال قدرته سبحانه ، بخلاف من ليس على طريقتهم ممن يرى أنها أمور طبيعية وظواهر كونية فلا تؤثر فيهم ولا يبالون بها ولا يكترثون .
قال حصين : " فقلت أنا " أي أنا رأيته .
ثم استدرك حصين رحمه الله وقال : " ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة " ؛ قال ذلك بُعداً عن الرياء ومن أن يُحمد بما لم يفعله تلك الليلة ؛ وهذا يبيِّن لنا الحياة الجميلة التي كانوا يعيشونها في لياليهم ، بحيث إنَّ الذي يكون مستيقظاً في الليل لا يظنُّ فيه إلا أنه في صلاة ، بينما في وقتنا الحاضر من يكون مستيقظاً في الليل فثمة أمور تشغله بسبب ما نعيشه من تحول في الحياة بسبب الإضاءة والإنارة التي جعلت الليل شبيهاً بالنهار ، بل لم نعُد نرى بسبب قوة الإضاءة وكثرتها في البيوت والطرقات الكواكب والنجوم وجمال السماء وزينتها ، مما أدى بكثير من الناس إلى تحول عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها حيث جعل لهم الليل لباساً ينامون فيه ويهدؤون ويسكنون والنهار معاشاً يسعون فيه في تحصيل أرزاقهم وجلب مصالحهم . نعم كان مستغرباً في حياتهم أن يقوم المسلم في الليل في غير صلاة ، ولهذا قال " أما إني لم أكن في صلاة " إذ الأذهان في وقتهم لا تذهب إلا إلى هذا ولا تظن إلا هذا الظن .
إذاً ماذا كنت تفعل في تلك الساعة ما دمت لم تكن في صلاة ؟ سؤال يطرح نفسه في هذا المقام ، وأجاب عنه حصين دون أن يُسأل فقال : " ولكني لُدغت " ؛ السبب الذي كان من أجله مستيقظاً تلك الساعة هو أنه لُدغ أي لدغته عقرب فكان متأذِّياً من سمِّها متألماً من لدغتها منشغلاً بهذا الأمر ، واللدغة تؤذي الملدوغ وتتعبه وتؤلمه فلا يتمكن بسببها من الراحة ولا يهنأ بنوم ، ولأجل ذلك رأى الكوكب فلم يكن نائماً ولا كان مصلياً وإنما كان مشغولاً بهذه اللدغة التي أصابته تلك الليلة فأرقته وآلمته .
قال له سعيد : " فما صنعت ؟ " وهذا سؤال طبيعي جداً في مثل هذا المقام أن يقال ما صنعت ؟ أو بمَ تعالجت؟ أو كيف فعلت ؟ أو بأيِّ شيء تداويت ؟ وهو في الوقت نفسه يتضمن المواساة والاطمئنان وقوة العاطفة وتحرك المشاعر تجاه من أصيب ، بل قد تقوى المشاعر في مثل هذا المقام لدى بعض الناس فتكثر منه الأسئلة التي ترهق المصاب وتزعجه ، ولربما صاحَبَ ذلك لدى بعض الناس فضولاً لا ثمرة من وراءه ، فيسأل المصاب عن تفاصيل دقيقة تتعلق بالحدث الذي أصابه كأن يقول البعض في مثل هذا الموقف : ما لون العقرب ؟ ومن أين خرجت ؟ وما حجمها ؟ ونحو ذلك من الأسئلة ، فيتحوَّل المجلس إلى حديث عوام لا فائدة فيه ، فأي فائدة في السؤال عن العقرب المعتدية والإعراض عن حال المصاب بِسُمِّها المتأذي من لدغتها !! .
قال حصين : " استرقيت " أي : الذي فعلته وصنعته عندما لدغتني العقرب هو : أني استرقيت لنفسي بالقرآن والذكر المأثور .
فقال له سعيد : " فما حملك على ذلك ؟ " وهذه رغبة من سعيد في معرفة الدليل الذي استند عليه حصين في هذا العمل ، وهو من كمال حرص السلف رحمهم الله وعنايتهم بمعرفة الدليل ، بخلاف حال الكثير من الناس حيث يزعجهم السؤال عن الدليل ، بل لم يجد سعيد رحمه الله أي حرج في سؤاله في هذا المقام عن الدليل على ما فعل ، وقد يستكثر بعض الناس مثل هذا السؤال فيقول : الرجل مصاب ومتأذٍ بالسُّم وأنت تقول له الدليل !! ولربما قال بعضهم : وهل هذا وقته ؟! بينما الأمر عند السلف طبيعي جداً ومألوف ومعتاد .
قال حصين : " حديث حدثناه الشعبي " أي الدليل على ما صنعت حديث حدثناه الشعبي .
قال سعيد : " وما حدثكم ؟ " أي اذكر لنا الحديث الذي حدَّثكم به الشعبي ، وهذا كله من تمام الحرص وكمال العناية بمعرفة الدليل .
قال حصين : " حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال : لا رقية إلا من عين أو حمة " ؛ وهو حديث ظاهر الدلالة على المقصود . والعين : هي إصابة العائن غيره بعينه ، والحمه : هي لدغة العقرب وذوات السموم . وليس المراد حصر جواز الرقية في هذين فقط ، وإنما المراد لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والحمة ، والحمة كما عرفنا هي لدغة العقرب ، وقد أحسن حصين رحمه الله عندما رقى نفسه عملاً بهذا الحديث واستناداً إلى هذا الدليل .
ولهذا قال له سعيد : " قد أحسن من انتهى إلى ما سمع " أي أحسنتَ في صنيعك وأصبتَ في عملك حيث بنيْته على الدليل وأقمته على السنة ، فأنت بلغك الدليل وعملت به فأحسنت بهذا الصنيع ، إذ الناس في هذا الباب ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :
1- قسم بلَغَه الدليل وعمل به ؛ وهذا محسِن .
2- قسم يعمل بدون دليل ولا برهان ؛ وهذا مسيء .
3- قسم لا يعمل بما يعلم ؛ وهذا كذلك مسيء .
فالمحسن إذاً من انتهى إلى ما سمع ؛ أي : سمع الحق وعمل به ، فهذا جمع بين العلم والعمل .
ثم قال سعيد بعد أن أيَّد حصيناً على صنيعه : " ولكن حدثنا ابن عباس ...." وساق الحديث إلى تمامه .
والشاهد فيما ساقه سعيد هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم (( لا يسترقون )) ، ولم يورد سعيد ذلك ليخطِّئ به صنيع حصين ، وإنما ساقه ليبين مقاماً عظيماً في هذا الباب وهو مقام تمام التوكل وكماله ، لا أن الحديث الذي أورده معارض للحديث الأول ، لقوله " قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع " ولكن كذا وكذا . فعلم بهذا أن الحديث الأول لا يخالف الثاني ، لأن الثاني فيه وصف السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بدون حساب ولا عذاب بتمام التوكل ، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكتوون ولا يتطيرون ، وهذا لا يتعارض مع ما ورد من مشروعية استرقاء المسلم لنفسه بالآيات والرقى الشرعية والتعوذات المأثورة ، فهذا يدل على المشروعية وذاك يدل على مقام التمام والكمال ؛ فلا تعارض .
وبهذا تم هذا المجلس المبارك الماتع النافع . وهذه دعوة أوجِّهها في تمام عرض هذا المجلس للباحثين وطلاب العلم إلى المساهمة في إبراز مجالس السلف رحمهم الله لنأخذ منها الدروس ونستقي منها العبر ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
*********
________________
[1] صحيح مسلم (220) ، مسند الإمام أحمد (2321).
المصدر موقع الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد :
فقد تميزت مجالس السلف رحمهم الله ورضي عنهم بالهدوء والوقار ولين الجانب مع قوة العلم وحسن الفهم وجمال الخُلق وصفاء القلب واستحضار الدليل ، كل ذلك بأسلوب هادئ وحوار لطيف ونقاش علمي وأدب رفيع بعيد عن الفظاظة والغلظة والقسوة والشدة والتهكم والتنفير والإثارة والاستفزاز .
إنها مجالس تعَدُّ بحق مدرسةً راقيةً في جمال العلم وجمال الحوار وجمال الخُلق وجمال الحديث ، وإليك مجلس من روائع مجالسهم لترى من خلاله الطريقة المثلى والنهج الأسمى والمسلك الرشيد الذي كانوا عليه ، وليتنا نكون في مجالسنا كما كانوا لنسعد كما سعدوا ونفوز كما فازوا .
روى مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده عن حصين بن عبد الرحمن قال : كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ ؟ قُلْتُ أَنَا ، ثُمَّ قُلْتُ : أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ وَلَكِنِّي لُدِغْتُ ، قَالَ فَمَاذَا صَنَعْتَ ؟ قُلْتُ اسْتَرْقَيْتُ ، قَالَ فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ ؟ قُلْتُ حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ ، فَقَالَ وَمَا حَدَّثَكُمْ الشَّعْبِيُّ ؟ قُلْتُ : حَدَّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ، فَقَالَ قَدْ أَحْسَنَ مَنْ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي فَقِيلَ لِي هَذَا مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْمُهُ وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقِيلَ لِي انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ الْآخَرِ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقِيلَ لِي هَذِهِ أُمَّتُكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ )) ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ فَلَعَلَّهُمْ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فَلَعَلَّهُمْ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ((مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ ؟ )) فَأَخْبَرُوهُ ، فَقَالَ : (( هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)) فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ : ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ ، فَقَالَ : (( أَنْتَ مِنْهُمْ )) ، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ : ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ : ((سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ)) [1].
راوي هذا المجلس هو حصين بن عبد الرحمن أحد علماء التابعين الفضلاء وأئمة العلم النبلاء والحفاظ المتقنين .
يقول " كنت عند سعيد بن جبير " أي في مجلس ، وسعيد كذلك من أجلَّة التابعين وعلية العلماء المحققين ، فاستهل سعيد هذا المجلس المبارك بقوله : " أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة " ؛ والكوكب هو الشهاب الذي ترُجم به الشياطين حين يحاولون استراق السمع من السماء ، كما قال تعالى { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:6-10] .
وقوله " انقض البارحة " : أي سقط من السماء ، والبارحة هي أقرب ليلة مضت ، ومراده الليلة التي سبقت اليوم الذي عقدوا فيه هذا المجلس . ومن المعلوم أن من كان مستيقظاً في ذاك الوقت سيتنبه في الغالب لهذه الآية العظيمة الدالة على كمال قدرة الله عز وجل ، والله يقول : {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59] ، والسلف رحمهم الله يستشعرون هذا المعنى ويتذاكرونه ويذكرون به عظمة الله وكمال قدرته سبحانه ، بخلاف من ليس على طريقتهم ممن يرى أنها أمور طبيعية وظواهر كونية فلا تؤثر فيهم ولا يبالون بها ولا يكترثون .
قال حصين : " فقلت أنا " أي أنا رأيته .
ثم استدرك حصين رحمه الله وقال : " ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة " ؛ قال ذلك بُعداً عن الرياء ومن أن يُحمد بما لم يفعله تلك الليلة ؛ وهذا يبيِّن لنا الحياة الجميلة التي كانوا يعيشونها في لياليهم ، بحيث إنَّ الذي يكون مستيقظاً في الليل لا يظنُّ فيه إلا أنه في صلاة ، بينما في وقتنا الحاضر من يكون مستيقظاً في الليل فثمة أمور تشغله بسبب ما نعيشه من تحول في الحياة بسبب الإضاءة والإنارة التي جعلت الليل شبيهاً بالنهار ، بل لم نعُد نرى بسبب قوة الإضاءة وكثرتها في البيوت والطرقات الكواكب والنجوم وجمال السماء وزينتها ، مما أدى بكثير من الناس إلى تحول عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها حيث جعل لهم الليل لباساً ينامون فيه ويهدؤون ويسكنون والنهار معاشاً يسعون فيه في تحصيل أرزاقهم وجلب مصالحهم . نعم كان مستغرباً في حياتهم أن يقوم المسلم في الليل في غير صلاة ، ولهذا قال " أما إني لم أكن في صلاة " إذ الأذهان في وقتهم لا تذهب إلا إلى هذا ولا تظن إلا هذا الظن .
إذاً ماذا كنت تفعل في تلك الساعة ما دمت لم تكن في صلاة ؟ سؤال يطرح نفسه في هذا المقام ، وأجاب عنه حصين دون أن يُسأل فقال : " ولكني لُدغت " ؛ السبب الذي كان من أجله مستيقظاً تلك الساعة هو أنه لُدغ أي لدغته عقرب فكان متأذِّياً من سمِّها متألماً من لدغتها منشغلاً بهذا الأمر ، واللدغة تؤذي الملدوغ وتتعبه وتؤلمه فلا يتمكن بسببها من الراحة ولا يهنأ بنوم ، ولأجل ذلك رأى الكوكب فلم يكن نائماً ولا كان مصلياً وإنما كان مشغولاً بهذه اللدغة التي أصابته تلك الليلة فأرقته وآلمته .
قال له سعيد : " فما صنعت ؟ " وهذا سؤال طبيعي جداً في مثل هذا المقام أن يقال ما صنعت ؟ أو بمَ تعالجت؟ أو كيف فعلت ؟ أو بأيِّ شيء تداويت ؟ وهو في الوقت نفسه يتضمن المواساة والاطمئنان وقوة العاطفة وتحرك المشاعر تجاه من أصيب ، بل قد تقوى المشاعر في مثل هذا المقام لدى بعض الناس فتكثر منه الأسئلة التي ترهق المصاب وتزعجه ، ولربما صاحَبَ ذلك لدى بعض الناس فضولاً لا ثمرة من وراءه ، فيسأل المصاب عن تفاصيل دقيقة تتعلق بالحدث الذي أصابه كأن يقول البعض في مثل هذا الموقف : ما لون العقرب ؟ ومن أين خرجت ؟ وما حجمها ؟ ونحو ذلك من الأسئلة ، فيتحوَّل المجلس إلى حديث عوام لا فائدة فيه ، فأي فائدة في السؤال عن العقرب المعتدية والإعراض عن حال المصاب بِسُمِّها المتأذي من لدغتها !! .
قال حصين : " استرقيت " أي : الذي فعلته وصنعته عندما لدغتني العقرب هو : أني استرقيت لنفسي بالقرآن والذكر المأثور .
فقال له سعيد : " فما حملك على ذلك ؟ " وهذه رغبة من سعيد في معرفة الدليل الذي استند عليه حصين في هذا العمل ، وهو من كمال حرص السلف رحمهم الله وعنايتهم بمعرفة الدليل ، بخلاف حال الكثير من الناس حيث يزعجهم السؤال عن الدليل ، بل لم يجد سعيد رحمه الله أي حرج في سؤاله في هذا المقام عن الدليل على ما فعل ، وقد يستكثر بعض الناس مثل هذا السؤال فيقول : الرجل مصاب ومتأذٍ بالسُّم وأنت تقول له الدليل !! ولربما قال بعضهم : وهل هذا وقته ؟! بينما الأمر عند السلف طبيعي جداً ومألوف ومعتاد .
قال حصين : " حديث حدثناه الشعبي " أي الدليل على ما صنعت حديث حدثناه الشعبي .
قال سعيد : " وما حدثكم ؟ " أي اذكر لنا الحديث الذي حدَّثكم به الشعبي ، وهذا كله من تمام الحرص وكمال العناية بمعرفة الدليل .
قال حصين : " حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال : لا رقية إلا من عين أو حمة " ؛ وهو حديث ظاهر الدلالة على المقصود . والعين : هي إصابة العائن غيره بعينه ، والحمه : هي لدغة العقرب وذوات السموم . وليس المراد حصر جواز الرقية في هذين فقط ، وإنما المراد لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والحمة ، والحمة كما عرفنا هي لدغة العقرب ، وقد أحسن حصين رحمه الله عندما رقى نفسه عملاً بهذا الحديث واستناداً إلى هذا الدليل .
ولهذا قال له سعيد : " قد أحسن من انتهى إلى ما سمع " أي أحسنتَ في صنيعك وأصبتَ في عملك حيث بنيْته على الدليل وأقمته على السنة ، فأنت بلغك الدليل وعملت به فأحسنت بهذا الصنيع ، إذ الناس في هذا الباب ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :
1- قسم بلَغَه الدليل وعمل به ؛ وهذا محسِن .
2- قسم يعمل بدون دليل ولا برهان ؛ وهذا مسيء .
3- قسم لا يعمل بما يعلم ؛ وهذا كذلك مسيء .
فالمحسن إذاً من انتهى إلى ما سمع ؛ أي : سمع الحق وعمل به ، فهذا جمع بين العلم والعمل .
ثم قال سعيد بعد أن أيَّد حصيناً على صنيعه : " ولكن حدثنا ابن عباس ...." وساق الحديث إلى تمامه .
والشاهد فيما ساقه سعيد هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم (( لا يسترقون )) ، ولم يورد سعيد ذلك ليخطِّئ به صنيع حصين ، وإنما ساقه ليبين مقاماً عظيماً في هذا الباب وهو مقام تمام التوكل وكماله ، لا أن الحديث الذي أورده معارض للحديث الأول ، لقوله " قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع " ولكن كذا وكذا . فعلم بهذا أن الحديث الأول لا يخالف الثاني ، لأن الثاني فيه وصف السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بدون حساب ولا عذاب بتمام التوكل ، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكتوون ولا يتطيرون ، وهذا لا يتعارض مع ما ورد من مشروعية استرقاء المسلم لنفسه بالآيات والرقى الشرعية والتعوذات المأثورة ، فهذا يدل على المشروعية وذاك يدل على مقام التمام والكمال ؛ فلا تعارض .
وبهذا تم هذا المجلس المبارك الماتع النافع . وهذه دعوة أوجِّهها في تمام عرض هذا المجلس للباحثين وطلاب العلم إلى المساهمة في إبراز مجالس السلف رحمهم الله لنأخذ منها الدروس ونستقي منها العبر ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
*********
________________
[1] صحيح مسلم (220) ، مسند الإمام أحمد (2321).
المصدر موقع الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق