بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده
وبعد :
فإنه مما وقع بين يديّ في هذا اليوم ، كتاب ٌ عتيق الطراز حديث المضمون ، فقرأت منه على عجل ، نتفا من أوله و أخرى من وسطه و مثلها من آخره ، و تلك عادتي في الارتياد ، و الرائد لا يكذب أهله .
فأنبأني الرائد أن الوليمة ذات زهم و ودك ، يردفه رضيف و سمك .
و المولم سدّ باب التطفيل ، و دعا أرباب النباهة و أهل التغفيل .
ذلكم الجواد الكريم هو الأديب الأريب محمود شاكر رحمه الله تعالى ، و تلكم المأدبة الرّاقية و التحفة الباقية ، هي كتابه النبيل : أسمار و أباطيل
و بعد أن أتبعت الارتغاء بالحسو ، و استبدلت اليقين بالقفو ، أزمعتُ أن أتحف الإخوان مما منه أتحفت ، فقبضتُ قبضة من دُرر ذلك النظام الثمين ، و نبذتها في ربى هذا المحل الخصيب .
و لمن شاء الحلية بالنّظام ، فليقرأ الأسمار من البدء إلى التمام ، فإنّ نقلَ المرقومِ كلِّه لا يسمح به المقام .
و إليكم من درره نسخا ، لا تغني عن الأصل و لا تدني من الفصل
و كان الحامل له على إراقة المداد ، رفع اللثام عن أهل السواد
وبعد :
فإنه مما وقع بين يديّ في هذا اليوم ، كتاب ٌ عتيق الطراز حديث المضمون ، فقرأت منه على عجل ، نتفا من أوله و أخرى من وسطه و مثلها من آخره ، و تلك عادتي في الارتياد ، و الرائد لا يكذب أهله .
فأنبأني الرائد أن الوليمة ذات زهم و ودك ، يردفه رضيف و سمك .
و المولم سدّ باب التطفيل ، و دعا أرباب النباهة و أهل التغفيل .
ذلكم الجواد الكريم هو الأديب الأريب محمود شاكر رحمه الله تعالى ، و تلكم المأدبة الرّاقية و التحفة الباقية ، هي كتابه النبيل : أسمار و أباطيل
و بعد أن أتبعت الارتغاء بالحسو ، و استبدلت اليقين بالقفو ، أزمعتُ أن أتحف الإخوان مما منه أتحفت ، فقبضتُ قبضة من دُرر ذلك النظام الثمين ، و نبذتها في ربى هذا المحل الخصيب .
و لمن شاء الحلية بالنّظام ، فليقرأ الأسمار من البدء إلى التمام ، فإنّ نقلَ المرقومِ كلِّه لا يسمح به المقام .
و إليكم من درره نسخا ، لا تغني عن الأصل و لا تدني من الفصل
و كان الحامل له على إراقة المداد ، رفع اللثام عن أهل السواد
قال رحمه الله تعالى : ( ... فهذه الفصول التي كتبتها ، ترفع اللثام عن شيء من هذه القصة التي تجري أحداثها في أخطر ميدان من ميادين هذا الصراع ، و هو ميدان « الثقافة » و « الأدب » و « الفكر » جميعا . و يزيده خطرا : أن الذين تولوا كِبر هذا الصراع ، و الذين ورثوهم من خلفهم ، إنما هم رجال منا ، من بني جلدتنا ، من أنفسنا ، ينطقون بلساننا ، و ينظرون بأعيننا ، و يسيرون بيننا آمنين ، بميثاق الأخوة في الأرض ، أو في الدين ، أو في اللغة ، أو في الجنس .
و يزيد الأمر بشاعة : أن الذين هم هدف للتدمير و التمزيق و النّسف ، لا يكادون يتوهمون أن ميدان « الثقافة » و « الأدب » و « الفكر » هو أخطر ميادين هذه الحرب الخسيسة الدائرة على أرضنا من مشرق الشمس إلى مغربها ، و لا أن معارك « الثقافة » و « الأدب » و « الفكر » متراحبة لا تحد بحدود،و لا أن أكثرها يأتي موقتا توقيتا دقيقا : إما قبيل حركات النهضة و الإحياء ، و إما معها ، و إما في أعقابها ، و لا أن الأمر صار أخطر مما كان قبل سبعين سنة ، و لا أن هذه المعارك ليست في حقيقتها « أدبية » أو « ثقافية » أو « فكرية » ، بل هي معارك « ...... » تتخذ « الثقافة » و « الأدب » و « الفكر » سلاحا ناسفا لقوى متجمّعة ، أو لقوى هي في طريقها إلى التجمّع ، و لا أن أمضى سلاح في يد عدوّنا هو سلاح « الكلمة » الذي يحمله رجال من أنفسنا ، ينبثُّون في كل ناحية ، و يعملون في كل ميدان ، و ينفثون سمومهم بكل سبيل ، و لا أن بعض هؤلاء الرجال يأتون ما يأتون عن علم ، و بعضهم قد أخذ من غفلته ، فهو ماض في طريقه على غير بينة . ) [ص 9/10]
و انظر رحمك الله إلى هذه الكلمات التي شابت مفارقها ، و قد رمت عظام ساطرها ، لتعلم أن هذا الدّاء الذي نعاني منه اليوم قديم ، و شكوى العقلاء منه معمّرة .
قال رحمه الله تعالى : ( كنت أتوقع أن تبادر جريدة « ..... » إلى البراءة مما نشر في صفحاتها الأدبية ، تسعة أسابيع متواليات ....
إلى أن قال : ... و صحيفة ..... و غير صحيفة ..... ، تحمل هذا العبء ، لأنها هي الناطقة بلسان العرب اليوم ، و الداعية إلى توحيد أمة العرب أمة واحدة . وهذه تبعة يحتاج حاملها إلى ترك التساهل في الصغائر ، فما ظنك بالكبائر ؟ و إلى الدقة و الحذر في كل حرف ينشر في الصّحيفة ، لأن أثره بليغ نافذ في نفوس الآلاف المؤلفة ، في هذه الرقعة من الأرض المتراحبة الأرجاء ، و هم بين صغير يتلقف ما يلقى إليه بتسليم المتعلم لأستاذه ، و كبير ينظر فيحسن الظن أحيانا ، و يسئ النظر أحيانا أخرى ، فيرضى و ينكر ، فيكون لرضاه أثر حسن ينقله إلى من يتلقى عنه ، و لسخطه أثر سيء يوحي به إلى من يأخذ عنه . و الآثار المترتبة على الرضى و السخط لا تقف عند حد ، لأنها تنتهي دائما إلى تكوين رأي يتناول أدنى العلائق الإنسانية في حياتنا اليومية ، إلى أعلى الروابط في حياتنا .... . و هذا شيء مخوف العواقب مفزع ، لأنا لا ندري أين يقع الرضى و أين يقع السخط ، في رقعة ممتدة من شمال بعيد إلى جنوب قصي ، و من شرق نازح إلى غرب متباعد . و لا ندري أيضا من الذي يحمل قلبه الرضى ، و ما منزلته في الناس و أثره فيهم ، و من الذي يطوي جوانحه على سخط ، و ما مكانه في الناس و تأثيره فيهم ؟ و لا ندري أيضا متى يكون الرضى سببا من أسباب توثيق علائق هذه الملايين بعضها ببعض ؟ و متى يكون السخط عاملا في فصم هذه العرى و تمزيق علائقها شيئا بعد شيء ؟ فكل ما يؤدي إلى هذه البلبلة المخوفة على هذا المستوى ، ينبغي أن يتوقاه كل حاملٍ تبعته ، و كلنا اليوم حاملُ تبعةٍ ، في وقت تحتاج هذه الأمة إلى إعادة تكوين وحدة شاملة كانت ، ثم مزقتها سياسة عدو شديد العداوة بالمكر و البطش في القرنين الأخيرين .
هذه هي التبعة حيال كبير يحسن النظر أو يسئ ، أما الصغير الناشئ ، فالأمر فيه أخطر ، و هو أشد عليه وبالا ، لأنه يتعلق بتكوين نفسه و عقله و إرادته ، و بالمرجو فيه إذا كبر و اشتد و صار أهلا للنظر ، وقادرا على التأثير .
و الصحيفة و المعلم كلاهما عوضُ عن ثدي أمه ، فإنه يرتضع منهما مادة بناءه العقلي و النفسي ، فإذا تلقى سوء النظر ، و فساد التفكير ، و خطل الرأي ، فإنما يتلقى سموما لا يكاد يبرأ من عقابيلها ما عاش ، فإذا فوجئ في خلال ذلك التكوين ، و هذا شيء لا مفر منه ، بما يصادم ما تلقاه ، اندلعت في كيانه بلبلة أشد من زلازل الأرض ، فلا يكاد ينجو من آثار التدمير الفظيع الذي يورثه إياه الزلزال الأكبر .
هذا ، مع فقدان القدرة على بناء ما تهدم في نفسه . ثم ينطلق على ذلك فيكبر و يصلب عوده ، و لكنه يبقى بناء متهدما في داخله ، لا يستقيم له رأي و لا نظر و لا إدراك ، فإذا تولى أمرا ، فإنما يتولاه ليتلفه و يدمره من حيث يدري و لا يدري . و تدور الدائرة ! ) [ص108/109]
و لولا أن المقال كتب منذ أربع و خمسين سنة قمرية (الخميس 27 شعبان 1384 هـ) ، لظننا أن الكاتب بيننا اليوم و أنه يقصد جريدة كذا و صحيفة كذا ، و لو أسقطت المضمون على معظم إعلامنا ، لسقط عليه ، حتى كأن هذا الثوب حيك له .
قال رحمه الله تعالى : ( ... الإحاطة بقضية من أعقد القضايا التي ابتلي بها العالم العربي خاصة ، و العالم الإسلامي عامة ، و لا تزال حية إلى اليوم ، بل بلغت عنفوانها في هذه السنين الأخيرة ، و ليس لها شبيه في العالم كله ،...
... و الكشف عن حقيقة هذه القضية ، و هي قضية العامية و الفصحى ، كشف عن أعظم مؤامرة خبيثة ، بدأت خافتة ، ثم علا صوتها و اشتد ضجيجها منذ سنة 1956 م ، عقب العدوان الثلاثي على مصر ، و بعد ارتداد قوى الشر على أعقابها ، و المشتركون في القضية ، بين غافل لا يدري ماذا يقول ، و لا ما يراد به ، وبين ماكر خبيث يضرم النار في الحطب ، لتأكل الأخضر و اليابس بعد قليل ....
إلى أن قال : ... كان : ....... متكشفا لي غاية التكشف ، كنت أراه عاريا من كل ستر يخفيه ، و أرى الخيوط التي تحركه و تديره ، و لكن صحيفة « ..... » التي جعلته ..... ، قد لبست على الناس أمره ، إذ أخرجته من خمول الذكر إلى صيت يسير به حيث سارت ، و أنا لا أدري على وجه التحقيق كيف وقع هذا ؟ و لا من الذي هيأ لمثله هذه الفرصة ؟ و لكني كنت أعلم أنه هو أو غيره ، كان لا بد أن يتدسس لمثل هذا المكان ، في غمرة الحوادث التي مرت بنا في السنوات الأخيرة ، و ما ذلك إلا لأني كنت أطالع زحف هذه القوى الشرير منذ قديم ، بلا غفلة عنه ، و كيف أغفل عنه و قد كدت يوما أن أكون أحد صرعى هذا الزحف ، و رأيت إخوانا لي قد صُرعوا و أنا أراهم بعيني ، منهم من نجاه الله كما نجاني ، و منهم من هلك فيمن هلك .
كيف أغفل عن هذا الزحف ، و أنا لم أزل أشهد منذ عشرات السنين طلائع التخطيط المدبّر ، تنقض على أمتي و بلادي من كل ناحية ، و يتم لها كل ما تريد ، أو بعض ما تريد يوما بعد يوم ، و عاما بعد عام ؟
و من أجل ذلك لم أحمل القلم منذ حملته ، إلا و أنا مؤمن أوثق إيمان بأني أحمل أمانة ، إما أن أؤديها على وجهها ، و إما أن أحطم هذا القلم تحت قدمي بلا جزع عليه و لا على نفسي . و أبَيْت منذ عقلت أمري أن أجعلته وسيلة إلى طلب الصيت في الناس ، أو ابتغاء الشهرة عندهم ، عرف ذلك من عرف من خلطائي في هذه العزلة الطويلة الأمد التي ضربتها على نفسي ، و جهل ذلك من جهله ، و على شدة ما لقيت طول هذه السنين على ملامةٍ تَلحاني على هذه العزلة التي رضيتها لنفسي ، لم أرض أن أخوض فيما يخوض فيه الناس ، إلا كمثل تحِلّة القسم ، أي بمقدار مفرط القلة ، غير مبالغ في ذلك و لا موغل ، و لذلك صار رأيي مقصورا على قلة من إخواني كنت أبثهم ما أجد و ما أعلم ، ثم أحبس لساني عن كثير ممن ألقى من الناس ، حتى صرت كالعيِيّ الذي لا يحسن الإبانة عن ذات نفسه ، لأن طول الكتمان و ترك تحريك اللسان بالرأي ، مضر بالمرء كضرر الثرثرة بلا عقل .
فلما جاء ما لا يسكت عليه لشدة خطره ، ظللت أؤامر نفسي أي السبيلين أسلك ؟ فلما تبين لي الرشد ، حملت القلم و أنا على بينة من طريقي ، طريق لن يخدعني عنه أحد بثناء أو ذم ، فكلاهما لا يغرني و لا يرهبني . و قلت لنفسي : هذا إنسان تعرفينه على وجه ، و يعرفه الناس على وجه آخر ، تعرفينه بطول إلف لأمثاله مخادعا شديد الخداع ، و يعرفه الناس مخدوعين أشد الانخداع ، فكان بينا لي أن أجعل همي كشف الزيف المفضي إلى الخديعة ، لأكشف الأخطاء التي أخشى أن يصدقها الناس . و كان بينا لي أن انخداع الناس بهذا الانسان مأتاه من طريقين :
طريق صحيفة « ..... » التي وثق الناس بها ، لظنهم أنها منذ انتزعت من أيدي أعدائهم ، صارت إلى أيد أمينة لا تخون الأمانة .
و طريق اللقب الذي يحمله هذا الإنسان و صاحبه عند الناس أمين أيضا لا يخون .
فعندئذ لم أجد طريق أهدى لي و للناس من أن أبدأ بتحليل شيء من كلام هذا الانسان على وجه الدراسة الأدبية ، ليكون بيان زيفه إثباتا قاطعا على أن حامل هذا اللقب لا يستحقه بوجه من الوجوه ، حين يتبين لكل أحد أنه دعيّ ثرثار ، لا يحسن شيئا من مناهج دراسة الآداب على وجه يليق بحامل هذا اللقب .) [ص143/145]
معاول الهدم ذاتها ، و طرق التخطيط بعينها ، و الأمة المقصودة بالهدم نفسها ، و لو لا هؤلاء الشرفاء الحراس و اليقظى ، الذين قيضهم الله تعالى لحفظ هذا البنيان ، لأصبح أثرا بعد عين من أزمان .
و قد ذكر أمورا كثيرة ، لا يزال يستجد بعضها ـ بل أغلبها ـ بين الفينة و الأخرى ، مما أريد به ضرب هذه الأمة الراسخة .
لكن منعنا من نقل الكل حذر الإطالة ، و خشية الملالة .
لكنّ بيت القصيد و حبّ الحصيد ، الخَلِقُ الجديد ، قطعة نفيسة ، تقمع لفظة خسيسة . و كان تناوله لموضوعها شهادةَ وفاةٍ لذلك الادّعاء و النسبة ، بتجليته الحقيقة عن شهادة الميلاد ، للفظٍ و مصطلحٍ ، ينبزُ به السلفيةَ خصومُها ، و تُلقي بالقبول في أمة غابت عنها فهومها .
قال رحمه الله تعالى : ( و ما دام الأمر قد جرني إلى ذكر الألفاظ و وضعها في غير مواضعها ، و استفساد معانيها بفساد المقاصد التي تكمن ورائها ، فلا بد لي أن أعود إلى لفظ سلف في مقالتي الماضية ، و هو اللفظ الذي استخدمه « أجاكس عوض » و استخدمه المسمى « سامي داود » ، و كلاهما يضمر في هذا اللفظ معنى بعينه ، إذ جعل العموم تورية عن الخصوص ، و كلاهما سيء المقصد في هذه التورية ، لأنه يريد أن يشفي غليل صدره من شيء و إن ساق كلامه مساق ثور إغريقي محارب ، أو مساق مؤرخ وديع يكتب ذكرى ساءته ، فبقي منها شُفافة ألفت ظلها الكئيب على بعض كلامه !! و نفس الإنسان وعاء للخير و الشر ، و لكنه يستطيع بالعقل الورِع الذي نسميه نحن المسلمين « الدين » أن يصرع شيطان عقله بالتقوى . بيد أن هذا الأمر قلما يحسنه إلا من ألف تسبيح الله و تحميده و تنزيهه ، و إسلام وجهه إليه ، منيبا إليه ضارعا ، مستعينا به مخلصا ، و عندئد يعلم أن أسوأ الخُلق ارتكاب التورية طلبا لشفاء الغليل ، فإنه عندئذ يكون غشاشا مخادعا لئيم الطباع .
و هذا اللفظ الذي أشرت إليه ، هو لفظ « الرجعية » فكلاهما استخدمه ، و أحدهما شرحه شرحا فيه مغالطة ظاهرة ، لا تنفي و لا تثبت ، و الآخر تركه غفلا بلا شرح ، و لكنه ظاهر الدلالة ، لمن عرف الحادثة التي رواها هذا المؤرخ المُحتَجِنُ من أخبار التاريخ ما فيه بيان واضح ، لينقله إلى الناس مظلما غامضا غير مفهوم ، و حسبك بهذا سوءا و منقصة و خيانة للأمانة . و لكيلا أدع لأحد علي سبيلا ، ينبغي أن أؤرخ لهذا اللفظ ، كيف أتى ؟ و من أين أتى ؟ و ما معناه ؟ لأن هذه الألفاظ المبهمة التي لا يجد لها الإنسان حدا ، شديد الضرر . و لكن يؤسفني أن أكثر الذين يلجأون إليها ، إنما هم القوم الذين يدعون « الثقافة » و يدعون « الاتجاه العلمي » ، و يدعون « الدقة العلمية » ، و يدعون « المنهج » ، و يدعون ما شئت من الزيف الذي لا حدود له . فأنت إذا شئت أن تستقصي معنى « الرجعية » في كلام من يتكلمون و يهضبون و يثرثرون ، و قعت في مثل « ردغة الخبال » من الحيرة في فهم المراد منها ...
و قد رأيته من الخير أن أتتبع تاريخ هذه اللفظة ، بقدر ما تحتمله ذاكرتي . و قد كنت خليقا ، أو كانت هذه الأمة خليقة أن تعمد إلى هذه الألفاظ المستحدثة ، فتعرف تاريخ مجيئها إلى استعمال أهل اللسان العربي ، و من أول من استعملها ؟ و لم استعملها ؟ و في أي غرض كانت تقال ؟ و أي زيادة لحقت معناها الأول ؟ و ذلك لا يتم إلا بتتبع الصحف و الكتب ، و استخراج المواضع التي ذكرت فيها مؤرخة . و إذا فعلنا ذلك عرفنا مصادر هذا اللفظ ، و حددنا معانيه في زمن بعد زمن ، و أدركنا أثر استعماله في تجلية المعاني ، أو زيادتها غموضا و فسادا ، و لكن هذا شيء لا أستطيع بيانه في أسطر قلائل ، فمن الخير أن أنصرف عنه إلى ما أريد .
و « الرجعية » لفظ يألفه الناس اليوم ، على غموضه المتلف للفهم ، المؤدي إلى اختلاط الإدراك ، الممهد لكل ذي هوى أن يبلغ إلى هواه باستعماله ، لأنه يحمل معنى من معاني الفساد في مفهومه الغامض .
و لكني شهدت مولده قديما ، فمن المفيد أن أسجل بعض تاريخه بلا تحيز ، حتى يتحرى القارئ لنفسه إذا قرأه ، و يتجنه الكاتب الذي يريد الإفهام دون الإبهام .
كنا يومئذ في زمان صراع ، و ذلك منذ نحو من خمسين سنة ، نشأت طفلا في صراع ثقافي و صراع اجتماعي ، و صراع فكري ، و صراع ديني ، و صراع سياسي ، و كان لكل صراع طابعه و ألفاظه و كتابه و جماهيره ، قلّت أو كثرت ، و تمادت بي الأيام حتى عقلت ، و ذلك في مطلع الثورة التي شملت مصر و السودان في سنة 1919 م ، و أظن أنه قد بقي في ذاكرتي شيء من الألفاظ التي كانت تدور في الصراع الضخم ، و لكني لا أجد بينها لفظ « الرجعية » ، و لا أعيه كان ظاهرا يومئذ ، أي في سنة 1919 و ما قبلها ، إلا أن يكون شيئا نادرا لا يكاد يستقيم أو يستبين ، أو لا يكاد يستقيم أو يستبين لي أنا على الأقل . و لكني أذكر أن أكبر صراع كان قائما يومئذ بين أهل هذا الدين ، أعني الإسلام ، كان يستخدم لفظا اشتقته الكتاب ، أو أوتوا به على النسبة إلى « السّلف » ، فكانت طائفة كبيرة تسمي نفسها « السّلفيّون » ، و هو لفظ يراد به رجوع أصحابه إلى سيرة « السلف » من أصحاب رسول الله ï·؛ و من تبعهم على الحق في العقيدة ، و في تجريد الإيمان من شوائب الشرك ، و في العمل بالسنة ، و في إحياء منهج « السّلف » في الرجوع إلى الكتاب و السنة دون سواهما ، و كان للسلفيين ظهور و غلبة في فترة من الفترات ، و كان أكثرهم من أهل الحمية و الجد و الثبات و الإخلاص في القول و العمل ، و إن شابهم من ينتسب إليهم ، و يدعي دعواهم ، و لكنه لا يقوم مقامهم ، و لا يلتزم التزامهم ، بل ربما خالفهم ، و أقام على البدع و سوغها و جعلها من سنة السلف .
***
و عاصر هذا الصراع صراع آخر بين الحضارة الغازية ، و هي الحضارة الأروبية المسيحية الوثنية ، و بين بقايا الحضارة الإسلامية العربية المتمثلة في السلفيين و أهل البدع ، و أهل الأهواء من كل لون و نحلة . و كان هذا الصراع قائما في الميادين كلها ، في الميادين الاجتماعية و الفكرية و الثقافية و الدينية و السياسية جميعا ، و كان محرك هذا الصراع ،الغازي المحتل بمدارس و فرائضه التي فرضها علينا في مجتمعنا برمته ....
إلى أن قال : ... فنشأ من بين هذا الصراع بين الحضارة الغازية ، و بقايا الحضارة الإسلامية العربية التي ذكرتها، جيل دخل في الصّراع الدّينيّ بين السّلفيين ومن ناوأهم من أهل البدع والأهواء، ولكنّه تكلّم في الشئون التي هي عند المسلمين "دين" بلسان آخر غير لسان أهل هذا الدّين من سلفيين ومبتدعة، وأدرك الذين كانوا يقودون حركة الصّراع بين الحضارتين أنّ أقوى الفريقين المتصارعين من سلفيين ومبتدعة هو فريق السلفيين، لا من حيث كثرتهم وغلبتهم، بل من حيث القوّة التي تشتمل عليها دعوتهم؛ لأنّها تؤدي إلى إعادة بناء لغة الأمّة، إذ لا معنى للانتساب إلى طريقة "السّلف" إلّا بأن يتملّك السلفيّ ناصيّة اللّغة وآدابها تملكا يمكّنه من الاستمداد المباشر من القرآن والسنّة على نفس النّهج الذي كان السّلف يستمدّون به من القرآن والسنّة في آدابهم وأخلاقهم وثقافتهم وفقههم وعلمهم وتفكيرهم، في سائر ما يكون به الإنسان حيّا رشيدا قادرا على بناء الحضارة؛ ولأنّها تؤدي أيضا إلى اتّخاذ سمت نابع من القرآن والسنّة، تكون به حضارة الكتاب والسنّة ممثّلة في رجال يغدون بين النّاس ويروحون، ويغضبون ويرضون، ويتنازعون ويصطلحون، ويعيشون عيشة كاملة ممثّلة لخلاصة الرّحلة الطّويلة العميقة في استنباط طريق للحياة الإنسانية الصّحيحة، من الفطرة التي جعلها الله كامنة في الطّبيعة البشرية، ومطويّة في هذا التّنزيل المعجز الذي جاء من عند الله وهو القرآن وفي جوامع الكلم التي أوتيها نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم مبينا عن كتاب الله ومفصّلا لجمله وهو "الحديث"؛ وهذه الفطرة هي التي ذكرها الله سبحانه في سورة الروم فقال: ï´؟فأقم وجهك للدّين حنيفا فطرة الله التي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدّين القيّم ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمونï´¾
فهذه القوّة التي اشتملت عليها دعوة السّلفيين كانت مصدرا لمخاوف الاستعمار والتبشير، فأرادوا أن يقاوموا هذه الدّعوة، القليل عدد أصحابها، والذين هم مع قلّتهم يصارعون جمهورا غالبا من المبتدعة يؤيدهم إلف العامّة -و هم الكثرة- ما عندهم من البدع المنكرة التي ينكرها السّلفيون أشدّ الإنكار؛ فعمدوا إلى بثّ فكرة قريبة إلى النّفوس سريعة إليها تؤيدها جميع الظواهر؛ وهي أنّ السلفيين قوم متشدّدون يريدون أن يرهقوا النّاس بما لا طاقة لهم به من التّكاليف. وهذه المهارة في إدراك الوسائل التي تقاوم بها الأفكار كانت معروفة مدروسة في دوائر الاستعمار والتّبشير، وإن كان كثير منّا لا يزال غافلا عنها غير قادر على إدراك المحيط الذي تستعمل فيه هذه الوسائل، وذلك لما طبعنا عليه المستعمرون والمبشّرون من التّهاون والغفلة وقلّة الصّبر على جلاد الفكر ومعاناته والتّغلغل به إلى غاياته البعيدة المغرقة في البعد.
فمن معسكر الصّراع بين الحضارة الغازية وبين الحضارة الإسلامية أو بقاياها يومئذ، ظهرت كلمة "السّلفيين" مقرونة بتبغيضها إلى العامّة وتصويرها في صور منكرة تكرهها النّفوس؛ لأنّها تشقّ عليها. ثمّ بدأت الكلمة تدخل في محيط الصّراع الاجتماعي، فمن أوّل ما أذكر من ذلك أنّ التّالف الكريه "سلامة موسى" -صنيعة المبشّر "ويلككس"- كان أكثر النّاس استعمالا للفظ "السلفيين" للدلالة على التّأخر والتّشدّد والتّخلّف، في مقابل الدّعوة التي أرسله يعوي بها من اصطنعوه...
و لكنّ هذه اللّفظة كانت شديدة على الألسنة لا تلين بها كلّ اللّين، فبعد قليل ولا أدري كيف كان ذلك -لأنّ الأمر يعتمد على التّتبع التّاريخي للعبارات يوما بيوم وشهرا بشهر كما أسلفت- بعد قليل رأينا لفظ "الرّجعيين" يحلّ محل "السّلفيين" فجأة، وهو لفظ سهل على لسان العامّة وغير العامّة، وإذا بنا نراه مستعملا على ألسنة ضرب من الكتّاب؛ أمثال التّالف الغبيّ "سلامة موسى" من صبيان التّبشير وسفهائه الذين يسافهون عنه، وعلى ألسنة أصحاب الصّحف من نصارى لبنان المقيمين في مصر والمستولين على صحافتها كلّها يومئذ. ثمّ لم نلبث إلّا قليلا حتى رأينا هذا اللّفظ ينتقل للدلالة على الحياة الإسلامية كلّها، واشتقّ له مصدر هو "الرّجعية" يستعمله الكتّاب إذا أرادوا التّورية عن الإسلام، تهربا من أن تنالهم تهمة الطعن في دين الدّولة. ) [ص399/404]
كانت هذه هي الدرر التي آثرت أن أتحفكم بها ، و لولا الموانع ، لأتبعتها بغيرها ، و لكن المخيض صرح عن الزبد ، و فيما نقلته دلالة على ما يحدث في إعلام هذا البلد .
و بهذا تعلم أن جهود المصلحين اليوم من مشايخنا و علمائنا ، و دفاعهم عن أمتهم و دينهم و وطنهم و لغتهم ، عمل مستمر ، قد سبقهم إليه الأوائل ، كما أن المفسدين لهم سلف طالح به يقتدون و سيرته ينتهجون .
و الله الموفق و هو الهادي إلى سواء السبيل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق