إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرر أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد:
الصيام عباد الله! مدرسة التقوى، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
والترجي في كلام الله عز وجل أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم على القطع، كما قال ابن عباس: عسى من الله واجب.
على عادة الملوك إذا أرادوا أن يقولوا: نحن سنفتح هذا البلد، يقولون: نرجو أن نفتح هذا البلد، ونرجو أن ننتصر على هذا الجيش، فلما يقطعون به يأتون به على صيغة الترجي، كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، فأنتم ترحمون قطعاً إذا استمعتم إلى كلام الله عز وجل، كذلك من صام حق الصيام كما أمر الله عز وجل لا بد أن يصل إلى درجة التقوى.
والتقوى هي: علم القلب بقرب الرب،والتقوى هي: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإن الله عز وجل يراك والتقوى كذلك عباد الله: ألا يراك الله حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك.
فالصيام يوصل إلى تقوى الله عز وجل؛ لأنه يتكون من نية باطنة لا يطلع عليها أحد إلا الله عز وجل، وترك لشهوات يستخفى بتناولها عادة، فلا نستطيع أن نجزم في شخص بأنه صائم؛ لأنه قد يخلو ولو للحظات فينتهك حرمة الصيام، فهو إنما يترك الطعام والشراب والشهوة لأنه يحس بأن الله عز وجل يراه، وبأن الله عز وجل مطلع على قلبه، وعلى سر أمره وعلانيته، فالصيام يدرب العبد على مراقبة الله عز وجل، وهذه المراقبة هي التقوى المقصودة، والدرة المفقودة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
وقد شرف الله عز وجل هذه العبادة بإضافتها إلى نفسه الشريفة عز وجل فقال تعالى في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به) ، فأضاف الله عز وجل كل أعمال ابن آدم إلى نفس ابن آدم، وشرف عبادة الصيام بأن أضافها إلى نفسه الشريفة فقال: {(إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به)}. فلما كان الصيام سراً بين العبد وربه تكفل الله عز وجل بتحديد أجر الصيام، فليس له تسعيرة محددة: {(فكل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشرة أمثالها)}. فكل عمل من الأعمال له ثواب محدد، أما الصيام فالله تعالى يتكفل بتحديد أجره، والصيام من الصبر وقد قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
فالصيام عبادة ترقى بالعبد إلى درجة المراقبة وإلى درجة التقوى، كما أن الصائم يلتزم بأخلاق معينة هي أخلاق المتقين وأخلاق المحسنين، فلا يسفه على السفيه بمثل سفهه، ولا يجهل على الجاهل بمثل جهله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث)ولا يتكلم كلاماً فاحشاً(ولا يصخب) أي: لا يرفع صوته بغير حاجة أو ضرورة (وإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم، إني صائم).
فالصيام عباد الله قد يكون صياماً عن الطعام والشراب والشهوات، فمن كان صيامه عن الطعام، والشراب والشهوة، فله في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب وحور عين، كما قال عز وجل: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24].قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين.
ومن الناس من يصوم عما سوى الله عز وجل، فيحفظ الرأس وما وعى، ويحفظ البطن وما حوى، ويذكر الموت والبلى.
ومن صام في الدنيا عن شهواته، أدركها غداً بعد وفاته، ومن تعجل ما حرم عليه من لذاته، عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته، أنت في دار شتات فتأهب لشتاتك، واجعل الدنيا كيوم صمته عن شهواتك، واجعل الفطر عند الله يوم وفاتك. أهل الصيام! أهل الخصوص من الصوام صومهم صون اللسان عن البهتان والكذب والعارفون وأهل الأنس صومهم صون القلوب عن الأغيار والحجب.
فينبغي للمسلم عباد الله! إذا نوى الصيام أن ينوي ترك كل الذنوب والمعاصي، وأن يصوم سمعه وبصره وجوارحه، كما قال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
اللَّهُمَّ أيْقِظنَا من رَقَدَات الغفلة، ووفْقنا للتَّزودِ من التَّقْوَى قَبْلَ النُّقْلَة، وارزقْنَا اغْتِنَام الأوقاتِ في ذيِ المُهْلَة، واغْفِر لَنَا ولوَالِدِيْنا ولِجَمِيع المسلِمِين برَحْمتِك يا أَرحم الراحِمين. وصلَّى الله وسلَّم على نبيَّنا محمدٍ وعلى آله وصحبِهِ أجمعين.
_________________
كتبه الشيخ أحمد فريد حفظه الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق