قال محمد البشير الابراهيمي رحمه الله:
" ما أضاع المسلمين ومزّق جامعتهم ونزل بهم إلى هذا الدرك من الهوان إلا بعدهم عن هداية القرآن، وجعلهم إياه عضين، وعدم تحكيمهم له في أهواء النفوس ليكفكف منها، وفي مزالق الآراء ليأخذ بيدهم إلى صوابها، وفي نواجم الفتن ليجلي غماءها، وفي معترك الشهوات ليكسر شرتها، وفي مفارق سبل الحياة ليهدي إلى أقومها، وفي أسواق المصالح والمفاسد ليميّز هذه من تلك، وفي مجامع العقائد ليميّز حقّها من باطلها، وفي شعب الأحكام ليقطع فيها بفصل الخطاب، وان ذلك كله لموجود في القرآن بالنص أو بالظاهر أو بالإشارة والاقتضاء، مع مزيد تعجز عنه عقول البشر مهما ارتقت، وهو تعقيب كل حكم بحكمة، وكل أمر بما يثبته في النفس، وكل نهي بما ينفر عنه، لأن القرآن كلام خالق النفوس، وعالم ما تكن وما تبدي، ومركب الطبائع، وعالم ما يصلح وما يفسد، وبارئ الإنسان وسطًا بين عالمين: أحدهما خير محض والآخر شر محض، فجعله ذا قابلية لهما من غير أن يكون أحدهما ذاتيًا فيه، ليبتليه أيشكر أم يكفر، وليمتحنه أي الطريقين يختار، كل ذلك ليجعل سعادته بيده، وعاقبته باختياره، وتزكيته أو تدسيته من كسبه، وحتى يهلك عن بيّنة، أو يحيا عن بينة.
ما كان الصدر الأول من سلفنا صالحًا بالجبلة والطبع، فالرعيل الأول منهم وهم الصحابة كانوا في جاهلية جهلاء كبقية العرب، وإنما أصْلَحَهم القرآن لما استمسكوا بعروته واهتدوا بهديه، ووقفوا عند حدوده، وحكموه في أنفسهم، وجعلوا منه ميزانًا لأهوائهم وميولهم، وأقاموا شعائره المزكية، وشرائعه العادلة في أنفسهم، وفيمن يليهم، كما أمر الله أن تقام، فبذلك أصبحوا صالحين مصلحين، سادة في غير جبرية، قادة في غير عنف، ولا يصلح المسلمون ويسعدون إلا إذا رجعوا إلى القرآن يلتمسون فيه الاشفية لأدوائهم، والكبح لأهوائهم، ثم التمسوا فيه مواقع الهداية التي اهتدى بها أسلافهم. وإذا كان العقلاء كلهم مجمعين على أن المسلمين الأولين صلحوا فأصلحوا العالم، وسادوه فلم يبطروا، وساسوه بالعدل والرفق، وزرعوا فيه الرحمة والحب والسلام، وأن ذلك كله جاءهم من هذا القرآن، لأنه الشيء الجديد الذي حوّل أذهانهم، وهذّب طباعهم، وثبّت الفضائل في نفوسهم، فإن الإجماع على ذلك ينتج لنا أن سبب انحطاط المسلمين في القرون الأخيرة هو هجرهم للقرآن، ونبذه وراء ظهورهم واقتصارهم على حفظ كلماته، وحفظ القرآن- وإن كان فضيلة- لا يغني غناء ما لم يفهم، ثم يعمل به. "
آثاره (4-227)
" ما أضاع المسلمين ومزّق جامعتهم ونزل بهم إلى هذا الدرك من الهوان إلا بعدهم عن هداية القرآن، وجعلهم إياه عضين، وعدم تحكيمهم له في أهواء النفوس ليكفكف منها، وفي مزالق الآراء ليأخذ بيدهم إلى صوابها، وفي نواجم الفتن ليجلي غماءها، وفي معترك الشهوات ليكسر شرتها، وفي مفارق سبل الحياة ليهدي إلى أقومها، وفي أسواق المصالح والمفاسد ليميّز هذه من تلك، وفي مجامع العقائد ليميّز حقّها من باطلها، وفي شعب الأحكام ليقطع فيها بفصل الخطاب، وان ذلك كله لموجود في القرآن بالنص أو بالظاهر أو بالإشارة والاقتضاء، مع مزيد تعجز عنه عقول البشر مهما ارتقت، وهو تعقيب كل حكم بحكمة، وكل أمر بما يثبته في النفس، وكل نهي بما ينفر عنه، لأن القرآن كلام خالق النفوس، وعالم ما تكن وما تبدي، ومركب الطبائع، وعالم ما يصلح وما يفسد، وبارئ الإنسان وسطًا بين عالمين: أحدهما خير محض والآخر شر محض، فجعله ذا قابلية لهما من غير أن يكون أحدهما ذاتيًا فيه، ليبتليه أيشكر أم يكفر، وليمتحنه أي الطريقين يختار، كل ذلك ليجعل سعادته بيده، وعاقبته باختياره، وتزكيته أو تدسيته من كسبه، وحتى يهلك عن بيّنة، أو يحيا عن بينة.
ما كان الصدر الأول من سلفنا صالحًا بالجبلة والطبع، فالرعيل الأول منهم وهم الصحابة كانوا في جاهلية جهلاء كبقية العرب، وإنما أصْلَحَهم القرآن لما استمسكوا بعروته واهتدوا بهديه، ووقفوا عند حدوده، وحكموه في أنفسهم، وجعلوا منه ميزانًا لأهوائهم وميولهم، وأقاموا شعائره المزكية، وشرائعه العادلة في أنفسهم، وفيمن يليهم، كما أمر الله أن تقام، فبذلك أصبحوا صالحين مصلحين، سادة في غير جبرية، قادة في غير عنف، ولا يصلح المسلمون ويسعدون إلا إذا رجعوا إلى القرآن يلتمسون فيه الاشفية لأدوائهم، والكبح لأهوائهم، ثم التمسوا فيه مواقع الهداية التي اهتدى بها أسلافهم. وإذا كان العقلاء كلهم مجمعين على أن المسلمين الأولين صلحوا فأصلحوا العالم، وسادوه فلم يبطروا، وساسوه بالعدل والرفق، وزرعوا فيه الرحمة والحب والسلام، وأن ذلك كله جاءهم من هذا القرآن، لأنه الشيء الجديد الذي حوّل أذهانهم، وهذّب طباعهم، وثبّت الفضائل في نفوسهم، فإن الإجماع على ذلك ينتج لنا أن سبب انحطاط المسلمين في القرون الأخيرة هو هجرهم للقرآن، ونبذه وراء ظهورهم واقتصارهم على حفظ كلماته، وحفظ القرآن- وإن كان فضيلة- لا يغني غناء ما لم يفهم، ثم يعمل به. "
آثاره (4-227)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق