الأوزاعي إمام أهل الشام
بسم الله الرحمن الرحيم
أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأَوْزاعي، عالم وإمام أهل الشام .. والأوزاع: اسم موضع مشهور بمدينة دمشق.
ولد الأَوْزاعي سنة 88 هجرية، وخرج في بعثٍ (مجاهدًا) إلى اليمامة، فلما وصل إليها دخل مسجدها، فاستقبل سارية يصلي إليها، وكان يحيى بن أبي كثير قريبًا منه، فجعل يحيى ينظر إلى صلاته فأعجبته، وقال: "ما أشبه صلاة هذا الفتى بصلاة عمر بن عبد العزيز!" قال: فقام رجل من جلساء يحيى فانتظر حتى إذا فرغ الأَوْزاعي من صلاته أخبره بما قال يحيى، فجاء الأَوْزاعي حتى جلس إليه، فسأله عن بلده، وعن حاله، وجرى بينهما كلام، فترك الأَوْزاعي الديوان، وأقام عند يحيى مدة يكتب عنه، وسمع منه، فقال له يحيى: "ينبغي لك أن تبادر إلى البصرة؛ لعلك أن تدرك الحسن البصري ومحمد بن سيرين فتأخذ عنهما"، فانطلق إليهما، فوجد الحسن قد مات قبل دخوله بشهرين، وابن سيرين كان مريضًا، فمات، ولم يسمع الأَوْزاعي منه شيئًا.
** عبادته
- قال الوليد بن مسلم: كان الأَوْزاعي إذا صلى الصبح جلس يذكر الله سبحانه وتعالى حتى تطلع الشمس، ويؤثر عن السلف ذلك، قال: ثم يقومون فيتذاكرون في الفقه والحديث.
- قال الوليد بن مسلم: ما رأيت أحدًا أشدَّ اجتهادًا من الأَوْزاعي في العبادة.
- دخلتِ امرأةٌ على امرأة الأَوْزاعي، فرأت الحصير الذي يصلي عليه مبلولًا، فقالت لها: لعل الصبي بال ها هنا، فقالت: لا، هذا من أثر دموع الشيخ في سجوده، وهكذا يصبح كل يوم.
- قال أبو مُسهِر: كان الأَوْزاعي يحيي الليل صلاة وقرآنًا وبكاءً.
** علمه
- قال أبو رزين اللخمي: أول ما سئل الأَوْزاعي عن الفقه سنة ثلاث عشرة ومائة وهو يومئذ ابن خمس وعشرين سنة، ثم لم يزل يفتي بعد ذلك بقية عمره إلى أن توفي رحمه الله.
- وحسب ابن عساكر في ‘تاريخ دمشق‘؛ فقد بدأ الأوزاعي الفتوى سنة 113هـ/732م وعمره 25 عاما! وصنّف كتبا ضمّنها علمه لكنها تلفت في زلزال كما سنرى.
وأشاد الإمام الذهبي -في ‘سِيَر أعلام النبلاء‘- بتراث الأوزاعي الفقهي؛ فقال إن "له مسائل كثيرة حسنة ينفرد بها [عن المذاهب]، وهي موجودة في الكتب الكبار، وكان له مذهب مستقل مشهور عمِل به فقهاءُ الشام مدةً وفقهاءُ الأندلس، ثم فَنِيَ"!
ويذكر أبو زرعة الدمشقي -في تاريخه- بسنده عن الهِقْل بن زياد الدمشقي تلميذ الأوزاعي: "أن الأوزاعي أجاب في سبعين ألف مسألة". وبشأن المدوَّن منها؛ ينقل ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي قوله: "بلغني أنه دون عنه ستين ألف مسألة، قال وهذا الذي عند الوليد أربعة آلاف مسألة قد أخرج من مصنفات الوليد". وهو الوليد بن مَزْيَدٍ العُذْرِيّ البيروتي، كان أحد تلاميذ الأوزاعي الذين قصدهم ابن عساكر بقوله: "أعلم الناس بالأوزاعي وبمجلسه وحديثه وفتياه عشرة أنفس".
- قال هِقْل بن زياد: أجاب الأَوْزاعي في سبعين ألف مسألة أو نحوها.
- قال موسى بن يسار: ما رأيت أحدًا له قدرة على المناظرة والدفاع عن الإسلام من الأَوْزاعي.
- قال بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ: قال لي الأَوْزاعي: يا بقيةُ، لا تذكر أحدًا من أصحاب نبيك إلا بخير، يا بقية، العلمُ ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وما لم يجِئْ عنهم، فليس بعلم.
- قال الوليد بن مسلم: كنا إذا جالسنا الأَوْزاعي فرأى فينا حدَثًا [أي ولدًا صغيرًا]، قال: يا غلام، قرأتَ القرآن؟ فإن قال: نعم، قال: اقرأ: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ﴾ [النساء: 11]، فإن قال: لا، قال: اذهب تعلم القرآن قبل أن تطلب العلم.
- ومن توقيره لأهل العلم .. قال الوليد بن مسلم: شيعَنا الأَوْزاعي وقت انصرافنا من عنده فأبعد في تشيعنا حتى مشى معنا فرسخين أو ثلاثة، فقلنا له: أيها الشيخ، يصعب عليك المشي على كبر السن، قال: امشوا واسكتوا، لو علمت أن لله طبقة أو قومًا يباهي الله بهم أو أفضل منكم لمشيت معهم وشيعتهم، ولكنكم أفضل الناس.
- ومن ورعه .. قال أبو هزان: ذكر الأَوْزاعي الخردل، وكان يحب أن يتداوى به، فقال رجل من أهل صفورية (بلدة في الأردن): أنا أبعث إليك منه يا أبا عمرو؛ فإنه ينبت عندنا كثير بري، قال: فبعث إليه منه بصرة، وبعث بمسائل، فبعث الأَوْزاعي بالخردل إلى السوق فباعه، وأخذ ثمنه فلوسًا، فصرها في رقعة الرجل، وأجابه في المسائل، وكتب إليه الأَوْزاعي: إنه لم يحملني على ما صنعت شيء تكرهه، ولكن كانت معه مسائل، فخفتُ أن يكون كهيئة الثمن لها.
- قال أحمد بن أبي الحواري: بلغني أن نصرانيَّا أهدى إلى الأَوْزاعي جرة عسل، فقال له: يا أبا عمرو، تكتب لي إلى والي بعلبك، فقال: إن شئت رددت الجرة وكتبت لك، وإلا قبلت الجرة ولم أكتب لك، قال: فرد الجرة وكتب له، فوضع عنه والي بعلبك ثلاثين دينارًا.
- كان الأَوْزاعي من أكرم الناس وأسخاهم، وكان له في بيت المال على الخلفاء إقطاع، فصار إليه من بني أمية وبني العباس نحو من سبعين ألف دينار، فلم يقتنِ منها شيئًا، ولا ترك يوم مات سوى سبعة دنانير، كان ينفقها في سبيل الله، وفي الفقراء.
- قال العباس بن مزيد: سمعت أصحابنا يقولون: صار إلى الأَوْزاعي أكثر من سبعين ألف دينار، يعني من السلطان من بني أمية وبني العباس، فلما مات ما خلف إلا سبعة دنانير بقية من عطائه، وما كان له أرض ولا دار، قال العباس: نظرنا فإذا هو أخرجها كلها في سبيل الله والفقراء.
- وعن بلاغته .. قال أبو عبيد الله - كاتب الخليفة المنصور-: كانت ترِدُ على المنصور من الأَوْزاعي (رحمه الله) كتب يتعجب منها، ويعجِز كتَّابه عن الإجابة، فكانت تنسخ في دفاتر وتوضع بين يدي المنصور، فيكثر النظر فيها؛ استحسانًا لألفاظها، فقال لسليمان بن مجالد - وكان من أحظى كتَّابه عنده وأشدهم تقدمًا في صنعته: ينبغي أن تجيب الأَوْزاعي عن كتبه جوابًا تامًّا، فقال: والله يا أمير المؤمنين، ما أحسن ذلك، وإنما أرد عليه ما أُحسن، وإن للأوزاعي نظمًا في الكتابة لا أظن أحدًا من جميع الناس يقدر على إجابته عنه، وأنا أستعين بألفاظه على من لا يعرفها ممن نكاتبه في الآفاق.
ثناء أهل العلم عليه
- قال مالك بن أنس: الأَوْزاعي إمام يقتدى به.
يكفي لبيان مكانته العلمية ترجيح الإمام مالك بن أنس فتوى للأوزاعي على فتواه هو نفسه، إذ يروي أبو زرعة الدمشقي رجوع مالك عن فتواه تلك قائلا: "أصاب الأوزاعي"! بل إن الإمام مالك قدّم الأوزاعي على سفيان الثوري وأبي حنيفة -حين سُئل عنهم- قائلا: "كان أرجَحَهم الأوزاعي".
- قال سفيان بن عيينة: كان إمامَ أهل زمانه.
- قال بشر بن الوليد: رأيت الأَوْزاعي كأنه أعمى من الخشوع.
- قال يحيى بن معين: العلماء أربعة: الثوري، وأبو حنيفة، ومالك، والأَوْزاعي.
- قال عبد الله بن المبارك: لو قيل لي: اختَرْ لهذه الأمة، لاخترت سفيان الثوري، والأَوْزاعي، ولو قيل لي: اختر أحدهما، لاخترت الأَوْزاعي؛ لأنه أرفقُ الرَّجلين.
- قال عبد الرحمن بن مهدي: إنما الناس في زمانهم أربعة: حماد بن زيد بالبصرة، والثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأَوْزاعي بالشام.
- قال الشافعي: ما رأيت رجلًا أشبه فقهه بحديثه من الأَوْزاعي.
- قال بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ: مَن ذكر الأَوْزاعي بخير، عرَفنا أنه صاحب سنَّة، ومن طعن عليه عرَفنا أنه صاحب بدعة.
- قال عقبة بن علقمة: ما رأيتُ أحدًا كان أسرع رجوعًا إلى الحق إذا سمعه من الأَوْزاعي، وكان يقول: أَمِرُّوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- قال الوليد بن مزيد البيروتي: ما سمعت من الأَوْزاعي كلمةً قط إلا احتاج مستمعُها إلى إثباتها (أي كتابتها).
- قال صدقة بن عبد الله: ما رأيت أحدًا أحلَمَ ولا أكمَلَ ولا أحمَلَ فيما حمل من الأَوْزاعي.
- قال أبو إسحاق الفزاري: لو قيل لي: اختَرْ للأمة، لاخترتُ الأَوْزاعي؛
- وقال أيضًا: ما رأيت أحدًا كان أشد تواضعًا من الأَوْزاعي، ولا أرحم بالناس منه، وإن كان الرجل ليناديه فيقول: لبيك.
- قال يحيى القطان عن مالك: اجتمع عندي الأَوْزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، فقلت: أيهم أرجح؟ قال: الأَوْزاعي.
- قال محمد بن عجلان: ما رأيت أحدًا أنصح للمسلمين من الأَوْزاعي.
- قال أبو حاتم الرازي: كان الأَوْزاعي ثقةً متَّبِعًا لِمَا سمع.
** قبس من كلامه
- بلغني أنه ما وعظ رجل قومًا لا يريد به وجه الله إلا زلَّت عنه القلوبُ كما زلَّ الماءُ عن الصفا.
- ليس ساعة من ساعات الدنيا إلا وهي معروضة على العبد يوم القيامة، يومًا فيومًا، وساعةً فساعةً، ولا تمر به ساعة لم يذكر الله تعالى فيها إلا تقطَّعَتْ نفسه عليها حسرات، فكيف إذا مرت به ساعة مع ساعة ويوم مع يوم وليلة مع ليلة؟!
- إن المؤمن يقول قليلًا ويعمل كثيرًا، وإن المنافق يقول كثيرًا ويعمل قليلًا.
- كان يقال: خمس كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنَّة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله.
- ما ابتدع رجل بدعةً إلا سُلِبَ الورَع.
- من أخذ بنوادر [الأمور الغريبة] العلماء، خرج من الإسلام.
- من أكثر ذكر الموت، كفاه اليسيرُ، ومَن علم أن منطقه مِن عمله، قلَّ كلامه.
- من أطال القيام في صلاة الليل، هوَّن الله عليه طول القيام يوم القيامة.
- عليك بآثار مَن سلف وإن رفَضك الناس، وإياك ورأيَ الرجال وإن زخرفوه بالقول؛ فإن الأمر ينجلي وأنت منه على طريق مستقيم.
- اصبر على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل ما قالوا، وكُفَّ عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسَعُك ما يسعهم.
- لا يكون في آخر الزمان شيء أعزُّ من أخ مؤنس، أو كسب درهم من حِلِّه، أو سنة يعمل بها.
- اصبر نفسك على السنَّة، وقف حيث وقف القوم، وقُلْ بما قالوا، وكُفَّ عما كفوا عنه، واسلُكْ سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسَعُك ما وسعهم، ولا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم القول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بالنية موافقةً للسنة، وكان مَن مضى مِن سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان، والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم جامع، كما يجمع هذه الأديان اسمها، ويصدقه العمل، فمَن آمن بلسانه، وعرَف بقلبه، وصدَّق ذلك بعمله - فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن قال بلسانه، ولم يعرف بقلبه، ولم يصدِّقه بعمله - لم يقبل منه، وكان في الآخرة من الخاسرين.
** مع الخلفاء
- روى أبو نعيم عن الأَوْزاعي قال: بعث إليَّ أبو جعفر أمير المؤمنين وأنا بالساحل، فأتيته، فلما وصلت إليه وسلمت عليه بالخلافة، ردَّ عليَّ واستجلسني، ثم قال: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي؟ قلت: وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد الأخذ عنكم، والاقتباس منكم، قلت: يا أمير المؤمنين، انظر، ولا تجهَلْ شيئًا مما أقول لك، قال: وكيف أجهله وأنا أسألك عنه وقد وجهتُ فيه إليك وأقدمتُك له؟ قلت: أن تسمَعَه ولا تعمل به، قال: فصاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف، فانتهره المنصور، وقال: هذا مجلس مثوبة لا عقوبة، فطابت نفسي، وانبسطت في الكلام.
- لما دخل عبد الله بن علي (عم الخليفة أبي العباس السفاح) دمشق، وسلب الملك من بني أمية، طلب الأَوْزاعيَّ، فتغيب عنه ثلاثة أيام، ثم أحضر بين يديه، قال: دخلت عليه وهو على سرير، وفي يده خيزرانة، والمسودة عن يمينه وشماله، معهم السيوف مصلتة، والعمد الحديد، فسلمت فلم يرد، ونكت بتلك الخيزرانة التي في يده، ثم قال: يا أوزاعي، ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة، أرِباط هو؟ قال: فقلت: أيها الأمير، سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري يقول: سمعت محمد بن إبراهيم التيمي يقول: سمعت علقمة بن وقاص يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)، قال: فنكت بالخيزرانة أشد مما كان ينكت، وجعل من حوله يعضون أيديهم، ثم قال: يا أوزاعي، ما تقول في دماء بني أمية؟ فقلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، فنكت أشد من ذلك، ثم قال: ما تقول في أموالهم؟ فقلت: إن كانت في أيديهم حرامًا، فهي حرام عليك أيضًا، وإن كانت لهم حلالًا، فلا تحل لك إلا بطريق شرعي، فنكت أشد مما كان ينكت قبل ذلك، ثم قال: ألا نوليك القضاء؟ فقلت: إن أسلافك لم يكونوا يشقون علي في ذلك، وإني أحب أن يتم ما ابتدءوني به من الإحسان، فقال: كأنك تحب الانصراف؟ فقلت: إن ورائي حرمًا (أي نساء)، وهم محتاجون إلى القيام عليهم وسترهم، قال: وانتظرت رأسي أن يسقط بين يدي، فأمرني بالانصراف، فلما خرجت إذا رسوله من ورائي، وإذا معه مائتا دينار، فقال: يقول لك الأمير: أنفق هذه، قال: فتصدقت بها، وكان في تلك الأيام الثلاثة صائمًا طاويًا، فيقال: إن الأمير لما بلغه ذلك، عرض عليه الإفطار عنده، فأبى أن يفطر عنده رحمه الله.
- قال أبو سعيد الثعلبي: لما خرج إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، وأخوه محمد بن عبد الله بن الحسن على أبي جعفر المنصور، أراد المنصور من أهل هذه الثغور أن يعينوه في القبض عليهما، فأبَوا ذلك، فوقع الألوف من أهل هذه الثغور من المسلمين أسرى في يد ملك الروم، وكان ملك الروم يحب أن يفادي بهم، ويأبى أبو جعفر المنصور، فكتب الأَوْزاعي إلى أبي جعفر كتابًا: أما بعد، فإن الله تعالى استرعاك أمرَ هذه الأمة؛ لتكون فيها بالقسط قائمًا، وبنبيه صلى الله عليه وسلم في خفض الجَناح والرأفة متشبهًا، وأسأل الله تعالى أن يسكِّنَ على أمير المؤمنين دَهْماء هذه الأمة، ويرزقه رحمتها؛ فإن سايحة المشركين غلبت عام أول، وموطئهم حريم المسلمين، واستنزالهم العواتق [من بلغت الحلم واستحقت الزواج] والذراري من المعاقل والحصون، وكان ذلك بذنوب العباد، وما عفا الله عنه أكثر، فبذنوب العباد استُنزلت العواتق والذراري من المعاقل والحصون، لا يلقَون لهم ناصرًا، ولا عنهم مدافعًا، كاشفات من رؤوسهن وأقدامهن، فكان ذلك بمرأى ومسمع، وحيث ينظر الله إلى خلقه وإعراضهم عنه، فليتقِ اللهَ أميرُ المؤمنين، وليتبع بالمفادات بهم من الله سبيلًا، وليخرج من محجة الله تعالى؛ فإن الله تعالى قال لنبيه: ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ﴾ [النساء: 75]
والله يا أمير المؤمنين، ما لهم يومئذ فيء موقوف، ولا ذمة تؤدي خراجًا إلا خاصة أموالهم، وقد بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إني لأسمع بكاء الصبي خلفي في الصلاة، فأتجوَّز فيها؛ مخافة أن تفتتن أمه))، فكيف بتخليتهم يا أمير المؤمنين في أيدي عدوهم يمتهنونهم ويتكشَّفون منهم ما لا نستحلُّه نحن إلا بنكاح؟! وأنت راعي الله، والله تعالى فوقك ومستوفٍ منك يوم توضع ﴿ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، فلما وصل إليه كتابُه، أمر بالفداء.
وأورد ابن أبي حاتم (ت 327هـ/ 939م) -في ‘الجرح والتعديل‘- للأوزاعي رسائل عديدة في مصالح المسلمين العامة موجهة للخلفاء.
توفي الأَوْزاعي (رحمه الله) سنة سبع وخمسين ومائة، وهو ابن تسع وستين سنة.
وقد ذكر له ابنُ أبي حاتم مواقف مشهودة في إنصاف أهل الذمة من الولاة في لبنان، وهو ما انعكس لُحمة وطنية كاملة في تشييع جنازته؛ فيَروي أنه "خرجت في جنازته أربع أمم ليس منها واحدة مع صاحبتها، وخرجنا يحمله المسلمون، وخرجت اليهود في ناحية، والنصارى في ناحية، والقبط في ناحية"!!
بسم الله الرحمن الرحيم
أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأَوْزاعي، عالم وإمام أهل الشام .. والأوزاع: اسم موضع مشهور بمدينة دمشق.
ولد الأَوْزاعي سنة 88 هجرية، وخرج في بعثٍ (مجاهدًا) إلى اليمامة، فلما وصل إليها دخل مسجدها، فاستقبل سارية يصلي إليها، وكان يحيى بن أبي كثير قريبًا منه، فجعل يحيى ينظر إلى صلاته فأعجبته، وقال: "ما أشبه صلاة هذا الفتى بصلاة عمر بن عبد العزيز!" قال: فقام رجل من جلساء يحيى فانتظر حتى إذا فرغ الأَوْزاعي من صلاته أخبره بما قال يحيى، فجاء الأَوْزاعي حتى جلس إليه، فسأله عن بلده، وعن حاله، وجرى بينهما كلام، فترك الأَوْزاعي الديوان، وأقام عند يحيى مدة يكتب عنه، وسمع منه، فقال له يحيى: "ينبغي لك أن تبادر إلى البصرة؛ لعلك أن تدرك الحسن البصري ومحمد بن سيرين فتأخذ عنهما"، فانطلق إليهما، فوجد الحسن قد مات قبل دخوله بشهرين، وابن سيرين كان مريضًا، فمات، ولم يسمع الأَوْزاعي منه شيئًا.
** عبادته
- قال الوليد بن مسلم: كان الأَوْزاعي إذا صلى الصبح جلس يذكر الله سبحانه وتعالى حتى تطلع الشمس، ويؤثر عن السلف ذلك، قال: ثم يقومون فيتذاكرون في الفقه والحديث.
- قال الوليد بن مسلم: ما رأيت أحدًا أشدَّ اجتهادًا من الأَوْزاعي في العبادة.
- دخلتِ امرأةٌ على امرأة الأَوْزاعي، فرأت الحصير الذي يصلي عليه مبلولًا، فقالت لها: لعل الصبي بال ها هنا، فقالت: لا، هذا من أثر دموع الشيخ في سجوده، وهكذا يصبح كل يوم.
- قال أبو مُسهِر: كان الأَوْزاعي يحيي الليل صلاة وقرآنًا وبكاءً.
** علمه
- قال أبو رزين اللخمي: أول ما سئل الأَوْزاعي عن الفقه سنة ثلاث عشرة ومائة وهو يومئذ ابن خمس وعشرين سنة، ثم لم يزل يفتي بعد ذلك بقية عمره إلى أن توفي رحمه الله.
- وحسب ابن عساكر في ‘تاريخ دمشق‘؛ فقد بدأ الأوزاعي الفتوى سنة 113هـ/732م وعمره 25 عاما! وصنّف كتبا ضمّنها علمه لكنها تلفت في زلزال كما سنرى.
وأشاد الإمام الذهبي -في ‘سِيَر أعلام النبلاء‘- بتراث الأوزاعي الفقهي؛ فقال إن "له مسائل كثيرة حسنة ينفرد بها [عن المذاهب]، وهي موجودة في الكتب الكبار، وكان له مذهب مستقل مشهور عمِل به فقهاءُ الشام مدةً وفقهاءُ الأندلس، ثم فَنِيَ"!
ويذكر أبو زرعة الدمشقي -في تاريخه- بسنده عن الهِقْل بن زياد الدمشقي تلميذ الأوزاعي: "أن الأوزاعي أجاب في سبعين ألف مسألة". وبشأن المدوَّن منها؛ ينقل ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي قوله: "بلغني أنه دون عنه ستين ألف مسألة، قال وهذا الذي عند الوليد أربعة آلاف مسألة قد أخرج من مصنفات الوليد". وهو الوليد بن مَزْيَدٍ العُذْرِيّ البيروتي، كان أحد تلاميذ الأوزاعي الذين قصدهم ابن عساكر بقوله: "أعلم الناس بالأوزاعي وبمجلسه وحديثه وفتياه عشرة أنفس".
- قال هِقْل بن زياد: أجاب الأَوْزاعي في سبعين ألف مسألة أو نحوها.
- قال موسى بن يسار: ما رأيت أحدًا له قدرة على المناظرة والدفاع عن الإسلام من الأَوْزاعي.
- قال بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ: قال لي الأَوْزاعي: يا بقيةُ، لا تذكر أحدًا من أصحاب نبيك إلا بخير، يا بقية، العلمُ ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وما لم يجِئْ عنهم، فليس بعلم.
- قال الوليد بن مسلم: كنا إذا جالسنا الأَوْزاعي فرأى فينا حدَثًا [أي ولدًا صغيرًا]، قال: يا غلام، قرأتَ القرآن؟ فإن قال: نعم، قال: اقرأ: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ﴾ [النساء: 11]، فإن قال: لا، قال: اذهب تعلم القرآن قبل أن تطلب العلم.
- ومن توقيره لأهل العلم .. قال الوليد بن مسلم: شيعَنا الأَوْزاعي وقت انصرافنا من عنده فأبعد في تشيعنا حتى مشى معنا فرسخين أو ثلاثة، فقلنا له: أيها الشيخ، يصعب عليك المشي على كبر السن، قال: امشوا واسكتوا، لو علمت أن لله طبقة أو قومًا يباهي الله بهم أو أفضل منكم لمشيت معهم وشيعتهم، ولكنكم أفضل الناس.
- ومن ورعه .. قال أبو هزان: ذكر الأَوْزاعي الخردل، وكان يحب أن يتداوى به، فقال رجل من أهل صفورية (بلدة في الأردن): أنا أبعث إليك منه يا أبا عمرو؛ فإنه ينبت عندنا كثير بري، قال: فبعث إليه منه بصرة، وبعث بمسائل، فبعث الأَوْزاعي بالخردل إلى السوق فباعه، وأخذ ثمنه فلوسًا، فصرها في رقعة الرجل، وأجابه في المسائل، وكتب إليه الأَوْزاعي: إنه لم يحملني على ما صنعت شيء تكرهه، ولكن كانت معه مسائل، فخفتُ أن يكون كهيئة الثمن لها.
- قال أحمد بن أبي الحواري: بلغني أن نصرانيَّا أهدى إلى الأَوْزاعي جرة عسل، فقال له: يا أبا عمرو، تكتب لي إلى والي بعلبك، فقال: إن شئت رددت الجرة وكتبت لك، وإلا قبلت الجرة ولم أكتب لك، قال: فرد الجرة وكتب له، فوضع عنه والي بعلبك ثلاثين دينارًا.
- كان الأَوْزاعي من أكرم الناس وأسخاهم، وكان له في بيت المال على الخلفاء إقطاع، فصار إليه من بني أمية وبني العباس نحو من سبعين ألف دينار، فلم يقتنِ منها شيئًا، ولا ترك يوم مات سوى سبعة دنانير، كان ينفقها في سبيل الله، وفي الفقراء.
- قال العباس بن مزيد: سمعت أصحابنا يقولون: صار إلى الأَوْزاعي أكثر من سبعين ألف دينار، يعني من السلطان من بني أمية وبني العباس، فلما مات ما خلف إلا سبعة دنانير بقية من عطائه، وما كان له أرض ولا دار، قال العباس: نظرنا فإذا هو أخرجها كلها في سبيل الله والفقراء.
- وعن بلاغته .. قال أبو عبيد الله - كاتب الخليفة المنصور-: كانت ترِدُ على المنصور من الأَوْزاعي (رحمه الله) كتب يتعجب منها، ويعجِز كتَّابه عن الإجابة، فكانت تنسخ في دفاتر وتوضع بين يدي المنصور، فيكثر النظر فيها؛ استحسانًا لألفاظها، فقال لسليمان بن مجالد - وكان من أحظى كتَّابه عنده وأشدهم تقدمًا في صنعته: ينبغي أن تجيب الأَوْزاعي عن كتبه جوابًا تامًّا، فقال: والله يا أمير المؤمنين، ما أحسن ذلك، وإنما أرد عليه ما أُحسن، وإن للأوزاعي نظمًا في الكتابة لا أظن أحدًا من جميع الناس يقدر على إجابته عنه، وأنا أستعين بألفاظه على من لا يعرفها ممن نكاتبه في الآفاق.
ثناء أهل العلم عليه
- قال مالك بن أنس: الأَوْزاعي إمام يقتدى به.
يكفي لبيان مكانته العلمية ترجيح الإمام مالك بن أنس فتوى للأوزاعي على فتواه هو نفسه، إذ يروي أبو زرعة الدمشقي رجوع مالك عن فتواه تلك قائلا: "أصاب الأوزاعي"! بل إن الإمام مالك قدّم الأوزاعي على سفيان الثوري وأبي حنيفة -حين سُئل عنهم- قائلا: "كان أرجَحَهم الأوزاعي".
- قال سفيان بن عيينة: كان إمامَ أهل زمانه.
- قال بشر بن الوليد: رأيت الأَوْزاعي كأنه أعمى من الخشوع.
- قال يحيى بن معين: العلماء أربعة: الثوري، وأبو حنيفة، ومالك، والأَوْزاعي.
- قال عبد الله بن المبارك: لو قيل لي: اختَرْ لهذه الأمة، لاخترت سفيان الثوري، والأَوْزاعي، ولو قيل لي: اختر أحدهما، لاخترت الأَوْزاعي؛ لأنه أرفقُ الرَّجلين.
- قال عبد الرحمن بن مهدي: إنما الناس في زمانهم أربعة: حماد بن زيد بالبصرة، والثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأَوْزاعي بالشام.
- قال الشافعي: ما رأيت رجلًا أشبه فقهه بحديثه من الأَوْزاعي.
- قال بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ: مَن ذكر الأَوْزاعي بخير، عرَفنا أنه صاحب سنَّة، ومن طعن عليه عرَفنا أنه صاحب بدعة.
- قال عقبة بن علقمة: ما رأيتُ أحدًا كان أسرع رجوعًا إلى الحق إذا سمعه من الأَوْزاعي، وكان يقول: أَمِرُّوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- قال الوليد بن مزيد البيروتي: ما سمعت من الأَوْزاعي كلمةً قط إلا احتاج مستمعُها إلى إثباتها (أي كتابتها).
- قال صدقة بن عبد الله: ما رأيت أحدًا أحلَمَ ولا أكمَلَ ولا أحمَلَ فيما حمل من الأَوْزاعي.
- قال أبو إسحاق الفزاري: لو قيل لي: اختَرْ للأمة، لاخترتُ الأَوْزاعي؛
- وقال أيضًا: ما رأيت أحدًا كان أشد تواضعًا من الأَوْزاعي، ولا أرحم بالناس منه، وإن كان الرجل ليناديه فيقول: لبيك.
- قال يحيى القطان عن مالك: اجتمع عندي الأَوْزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، فقلت: أيهم أرجح؟ قال: الأَوْزاعي.
- قال محمد بن عجلان: ما رأيت أحدًا أنصح للمسلمين من الأَوْزاعي.
- قال أبو حاتم الرازي: كان الأَوْزاعي ثقةً متَّبِعًا لِمَا سمع.
** قبس من كلامه
- بلغني أنه ما وعظ رجل قومًا لا يريد به وجه الله إلا زلَّت عنه القلوبُ كما زلَّ الماءُ عن الصفا.
- ليس ساعة من ساعات الدنيا إلا وهي معروضة على العبد يوم القيامة، يومًا فيومًا، وساعةً فساعةً، ولا تمر به ساعة لم يذكر الله تعالى فيها إلا تقطَّعَتْ نفسه عليها حسرات، فكيف إذا مرت به ساعة مع ساعة ويوم مع يوم وليلة مع ليلة؟!
- إن المؤمن يقول قليلًا ويعمل كثيرًا، وإن المنافق يقول كثيرًا ويعمل قليلًا.
- كان يقال: خمس كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنَّة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله.
- ما ابتدع رجل بدعةً إلا سُلِبَ الورَع.
- من أخذ بنوادر [الأمور الغريبة] العلماء، خرج من الإسلام.
- من أكثر ذكر الموت، كفاه اليسيرُ، ومَن علم أن منطقه مِن عمله، قلَّ كلامه.
- من أطال القيام في صلاة الليل، هوَّن الله عليه طول القيام يوم القيامة.
- عليك بآثار مَن سلف وإن رفَضك الناس، وإياك ورأيَ الرجال وإن زخرفوه بالقول؛ فإن الأمر ينجلي وأنت منه على طريق مستقيم.
- اصبر على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل ما قالوا، وكُفَّ عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسَعُك ما يسعهم.
- لا يكون في آخر الزمان شيء أعزُّ من أخ مؤنس، أو كسب درهم من حِلِّه، أو سنة يعمل بها.
- اصبر نفسك على السنَّة، وقف حيث وقف القوم، وقُلْ بما قالوا، وكُفَّ عما كفوا عنه، واسلُكْ سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسَعُك ما وسعهم، ولا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم القول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بالنية موافقةً للسنة، وكان مَن مضى مِن سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان، والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم جامع، كما يجمع هذه الأديان اسمها، ويصدقه العمل، فمَن آمن بلسانه، وعرَف بقلبه، وصدَّق ذلك بعمله - فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن قال بلسانه، ولم يعرف بقلبه، ولم يصدِّقه بعمله - لم يقبل منه، وكان في الآخرة من الخاسرين.
** مع الخلفاء
- روى أبو نعيم عن الأَوْزاعي قال: بعث إليَّ أبو جعفر أمير المؤمنين وأنا بالساحل، فأتيته، فلما وصلت إليه وسلمت عليه بالخلافة، ردَّ عليَّ واستجلسني، ثم قال: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي؟ قلت: وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد الأخذ عنكم، والاقتباس منكم، قلت: يا أمير المؤمنين، انظر، ولا تجهَلْ شيئًا مما أقول لك، قال: وكيف أجهله وأنا أسألك عنه وقد وجهتُ فيه إليك وأقدمتُك له؟ قلت: أن تسمَعَه ولا تعمل به، قال: فصاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف، فانتهره المنصور، وقال: هذا مجلس مثوبة لا عقوبة، فطابت نفسي، وانبسطت في الكلام.
- لما دخل عبد الله بن علي (عم الخليفة أبي العباس السفاح) دمشق، وسلب الملك من بني أمية، طلب الأَوْزاعيَّ، فتغيب عنه ثلاثة أيام، ثم أحضر بين يديه، قال: دخلت عليه وهو على سرير، وفي يده خيزرانة، والمسودة عن يمينه وشماله، معهم السيوف مصلتة، والعمد الحديد، فسلمت فلم يرد، ونكت بتلك الخيزرانة التي في يده، ثم قال: يا أوزاعي، ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة، أرِباط هو؟ قال: فقلت: أيها الأمير، سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري يقول: سمعت محمد بن إبراهيم التيمي يقول: سمعت علقمة بن وقاص يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)، قال: فنكت بالخيزرانة أشد مما كان ينكت، وجعل من حوله يعضون أيديهم، ثم قال: يا أوزاعي، ما تقول في دماء بني أمية؟ فقلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، فنكت أشد من ذلك، ثم قال: ما تقول في أموالهم؟ فقلت: إن كانت في أيديهم حرامًا، فهي حرام عليك أيضًا، وإن كانت لهم حلالًا، فلا تحل لك إلا بطريق شرعي، فنكت أشد مما كان ينكت قبل ذلك، ثم قال: ألا نوليك القضاء؟ فقلت: إن أسلافك لم يكونوا يشقون علي في ذلك، وإني أحب أن يتم ما ابتدءوني به من الإحسان، فقال: كأنك تحب الانصراف؟ فقلت: إن ورائي حرمًا (أي نساء)، وهم محتاجون إلى القيام عليهم وسترهم، قال: وانتظرت رأسي أن يسقط بين يدي، فأمرني بالانصراف، فلما خرجت إذا رسوله من ورائي، وإذا معه مائتا دينار، فقال: يقول لك الأمير: أنفق هذه، قال: فتصدقت بها، وكان في تلك الأيام الثلاثة صائمًا طاويًا، فيقال: إن الأمير لما بلغه ذلك، عرض عليه الإفطار عنده، فأبى أن يفطر عنده رحمه الله.
- قال أبو سعيد الثعلبي: لما خرج إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، وأخوه محمد بن عبد الله بن الحسن على أبي جعفر المنصور، أراد المنصور من أهل هذه الثغور أن يعينوه في القبض عليهما، فأبَوا ذلك، فوقع الألوف من أهل هذه الثغور من المسلمين أسرى في يد ملك الروم، وكان ملك الروم يحب أن يفادي بهم، ويأبى أبو جعفر المنصور، فكتب الأَوْزاعي إلى أبي جعفر كتابًا: أما بعد، فإن الله تعالى استرعاك أمرَ هذه الأمة؛ لتكون فيها بالقسط قائمًا، وبنبيه صلى الله عليه وسلم في خفض الجَناح والرأفة متشبهًا، وأسأل الله تعالى أن يسكِّنَ على أمير المؤمنين دَهْماء هذه الأمة، ويرزقه رحمتها؛ فإن سايحة المشركين غلبت عام أول، وموطئهم حريم المسلمين، واستنزالهم العواتق [من بلغت الحلم واستحقت الزواج] والذراري من المعاقل والحصون، وكان ذلك بذنوب العباد، وما عفا الله عنه أكثر، فبذنوب العباد استُنزلت العواتق والذراري من المعاقل والحصون، لا يلقَون لهم ناصرًا، ولا عنهم مدافعًا، كاشفات من رؤوسهن وأقدامهن، فكان ذلك بمرأى ومسمع، وحيث ينظر الله إلى خلقه وإعراضهم عنه، فليتقِ اللهَ أميرُ المؤمنين، وليتبع بالمفادات بهم من الله سبيلًا، وليخرج من محجة الله تعالى؛ فإن الله تعالى قال لنبيه: ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ﴾ [النساء: 75]
والله يا أمير المؤمنين، ما لهم يومئذ فيء موقوف، ولا ذمة تؤدي خراجًا إلا خاصة أموالهم، وقد بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إني لأسمع بكاء الصبي خلفي في الصلاة، فأتجوَّز فيها؛ مخافة أن تفتتن أمه))، فكيف بتخليتهم يا أمير المؤمنين في أيدي عدوهم يمتهنونهم ويتكشَّفون منهم ما لا نستحلُّه نحن إلا بنكاح؟! وأنت راعي الله، والله تعالى فوقك ومستوفٍ منك يوم توضع ﴿ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، فلما وصل إليه كتابُه، أمر بالفداء.
وأورد ابن أبي حاتم (ت 327هـ/ 939م) -في ‘الجرح والتعديل‘- للأوزاعي رسائل عديدة في مصالح المسلمين العامة موجهة للخلفاء.
توفي الأَوْزاعي (رحمه الله) سنة سبع وخمسين ومائة، وهو ابن تسع وستين سنة.
وقد ذكر له ابنُ أبي حاتم مواقف مشهودة في إنصاف أهل الذمة من الولاة في لبنان، وهو ما انعكس لُحمة وطنية كاملة في تشييع جنازته؛ فيَروي أنه "خرجت في جنازته أربع أمم ليس منها واحدة مع صاحبتها، وخرجنا يحمله المسلمون، وخرجت اليهود في ناحية، والنصارى في ناحية، والقبط في ناحية"!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق