....(( زينة الإيمان )) تلكم الزينة العظيمة والحلية البهية الجميلة ؛ التي مَنْ وُفِّق للتحلي بها والتّجمل بها والتزيّن بها فقد وُفِّق لأعظم الخير وسعِد في دنياه وأخراه ؛ فالإيمان هو الزينة الحقيقية والحلية التي لا نظير لها ولا مثيل ، ومن عرِي من هذه الزينة فإنه فاقدٌ للجمال وإن كان متحلياً بأبهى الحُلل وأحسن الثياب ؛ إذ الإيمان هو الزينة الحقيقية، ولما ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف نعمة اللباس وإنزاله للناس ليكون لهم زينة ً وستراً وجمالاً قال عز وجل في ذلكم السياق الكريم : ]وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [[الأعراف:26]، إذ إن لباس التقوى وحلية الإيمان هو في الحقيقية الحلية الحقيقية والزينة التامة الكاملة التي من فقَدَها فقَدَ الخير والفضيلة وفَقَد الحُسن والجمال ، فأي جمال يتصور بدون إيمان !! وأي حلاوةٍ وحسْنٍ تتصوَّر بدون تقوى الرحمن سبحانه وتعالى !! نعم قد تكون هناك مظاهر زائفة ، وقد تكون أمور يُفتن بها الناس ويظنون أنهم بها على أكمل زينة وأحسن حلية ، وبفقْدهم لزينة الإيمان وحلاوة الإيمان يكونون بذلك فاقدين للزينة الحقيقية والجمال الحقيقي .
ولقد امتنّ الله سبحانه وتعالى على أهل الإيمان بأن أكرمهم بهذه الزينة ، وجمّلهم بهذه الحلية ، وأصبحوا لمخالطة الإيمان قلوبهم ولتذوقهم طعمه وحلاوته ولمعرفتهم بقدره ومكانته أصبحوا يحسُّون بمكانة هذه الزينة ويجدون ذلك في قلوبهم ، قال الله تعالى في سورة الحجرات : ]وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ [الحجرات:7-8] ، والشاهد قول الله عز وجل :]وَزَيَّنَهُ [ أي الإيمان ] فِي قُلُوبِكُمْ [ ؛ فأصبح قلب المؤمن الذي منّ الله سبحانه وتعالى عليه بذوق هذه الحلاوة وشهود هذا الطعم والهناءة بهذه اللذة يجد هذه الزينة في قلبه ويحس بها ]وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [ ، ويحس أن هذه الزينة التي منّ الله سبحانه وتعالى عليه بها وأكرمه بأن جعله من أهلها هي الزينة الحقيقية والجمال الحقيقي ، فلا يغتر بالمظاهر الزائفة التي تكون لأناسٍ وأناسٍ معوِّقاً وحائلاً وصارفاً عن تحقيق الإيمان وتتميمه وتكميله ؛ بل لقد آل الأمر ببعض الناس إلى أن أصبحوا في البحث عن الزينة الموهومة يخالفون شرع الله ويعصون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخالفون الفطرة السليمة التي خلقهم الله سبحانه وتعالى عليها وهم في ظنهم الخاطئ يظنون أنهم بذلك يحقِّقون الزينة والحلية لأنفسهم وأنهم يكتسبون بذلك حُسناً وجمالا ، وهيهات ثم هيهات أن يُكتسب الجمال بعصيان الرحمن ، وأن تنال الحلية بمخالفة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ، وواقع هؤلاء أنهم يعيشون أوهاماً زائفة وظنوناً فاسدة وتحولاتٍ في الفِطَر القويمة وكذلك في العقول المستقيمة.
والعاقل يبني حليته وزينته في ضوء ما حُدَّ له في شرع الله المطهر وسنة نبيه الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وفي الدعاء المأثور عن نبينا عليه الصلاة والسلام وهو في السنن الكبرى للنسائي وغيره بسند ثابت من حديث عمار بن ياسر وهو من جملة أدعية الصلاة ، يقول عليه الصلاة والسلام : ((اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ)) فيسأل عليه الصلاة والسلام ربَّه هذا السؤال العظيم والمطلب الجليل والمقصد النبيل ؛ وهو التزيُّن بزينة الإيمان والتجمُّل بجمال التقوى ]وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ[ .
وهذا التزين والتجمل بحلية الإيمان وزينته يتطلَّب من العبد الموفَّق مجاهدةً للنفس واستعانةً بالله عزّ وجلّ كما قال عليه الصلاة والسلام : (( احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ)) ؛ فيجاهد نفسه على التحقق بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام ساعياً في تكميل نفسه بذلك وتتميم جماله الظاهر والباطن بتحقيق ذلك ، وهو في كل ذلك يطلب من الله مده وعونه .
وفي هذا الباب يُنقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم دعوات عظيمة مباركة يحسن بالمسلم أن يُعنى بها :
§ منها الدعوة المشار إليها آنفا .
§ ومنها ما ثبت في صحيح مسلم من دعائه عليه الصلاة والسلام : ((اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِى دِينِىَ الَّذِى هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي ... )) إلى آخر الدعاء .
§ وكذلك ما جاء في دعاء الكرب : (( اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلاَ تَكِلْنِى إِلَى نَفْسِى طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِى شَأْنِى كُلَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ )) .
وهنا تتحقق السعادة والهناءة واللذة والطمأنينة وراحة النفس ونيل ثواب الله سبحانه وتعالى وأجره والفوز برضاه عز وجل .
وزينة الإيمان هي زينةٌ تتناول ظاهر العبد وباطنه ؛ فهي زينةٌ للقلب بحقائق الإيمان وأصول الدّين ، وأعظم ذلكم أصول الإيمان التي يقوم عليها دين الله وتقوم عليها هذه الزينة ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) وهذه أصول وقواعد وأسس يقوم عليها هذا الجمال العظيم والزينة العظيمة ؛ زينة الإيمان ، قال الله تعالى: ] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ[ [البقرة:177]، وقال الله تعالى :] آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ[[البقرة:285]، وقال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [ [النساء:136].
فهذه أصول وقواعد وأسس يبنى عليها هذا الجمال العظيم وتبنى عليها هذه الزينة العظيمة ؛ فهي أصولٌ تقوم عليها شجرة الإيمان ، وقد قال الله تعالى : ] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ[[إبراهيم:24] ، فهذه الشجرة الجميلة البهية الحسنة التي لا أزين منها وأحسن قيامها على أصل ثابت ، ومن هذا الأصل تتفرع الفروع الجميلة البهية الحسنة - فروع الإيمان - وهي أنواع الطاعات وصنوف القربات التي يتقرب بها المسلم لربِّه جلّ وعلا ، ثم بعد ذلك تأتي الثمار الجميلة الحسنة البهية التي يجنيها المؤمن ]تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا[[إبراهيم:25] فلا يزال المؤمن يجني من ثمار هذه الشجرة الجميلة البهية في كل وقتٍ وحين في دنياه وأخراه ؛ من سعادةٍ ، وراحة قلبٍ ، وقرة عينٍ ، وهناءة نفسٍ ، وسعة رزقٍ ، وذهاب همٍّ ، وزوال غمٍّ إلى غير ذلك من الثّمار في هذه الحياة الدنيا ، وثواب الآخرة خير وأبقى .
ثم كذلكم تزيين الظاهر وتجمّله بزينة الإيمان بلزوم فرائض الدين وواجبات الإسلام والشرائع التي أُمر بها العبد وفي مقدمة ذلكم مباني الإسلام الخمسة التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر : (( بُنِىَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ)) ، فإنَّ هذه الأعمال المباركة والطاعات العظيمة هي في الحقيقة زينةٌ للمسلم وجمال ، إضافةً إلى كونها سبب فلاحه وسعادته في دنياه وأخراه ؛ فالصلاة نورٌ لصاحبها وبهاءٌ وحُسن ، وكذلك عموم الطاعات لا يزال العبد يزداد بها حسناً وبهاءً ، بخلاف المعرِض عن دين الله سبحانه وتعالى ؛ فإن الخطيئة والمعصية والبعد عن طاعة الله سبحانه وتعالى ظلمةٌ في الوجه ووحشةٌ في الصدر ، وكذلك النكوص عن شرع الله سبحانه وتعالى بممارسة البدع المحدثات يسبِّب ذلك كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله : " صاحب البدعة على وجهه ظلمة ؛ وإن ادّهن في اليوم ثلاثين مرة " أي وضْع الدهون التي توضع للتجميل والتحسين لا تُذهب ظلمة البدعة وظلمة المعصية لله سبحانه وتعالى .
كذلكم عناية المسلم بآداب الشريعة وأخلاق الإسلام هذه جمالٌ عظيم ، وإذا أكرم الله سبحانه وتعالى عبده بالتحلي بالآداب الفاضلة والأخلاق الكاملة والمعاملات الرفيعة ؛ فإن كل من يخالطه يحس بهذا الجمال ويحس بهذه الروعة ويحس بهذا الحُسن الذي يكسو من كان كذلكم متصفاً متحلياً متجملاً متزيناً بأخلاق الإسلام الفاضلة ، وقد جاء نبينا عليه الصلاة والسلام بالآداب الكاملة والأخلاق الرفيعة الفاضلة التي تسمو بصاحبها في عالي الدرجات ورفيع الرتب ، إضافةً إلى ما أعدَّه الله سبحانه وتعالى لذوي الأخلاق الرفيعة من أجرٍ وثواب ، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال : (( تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ)) ، وقال عليه الصلاة والسلام :(( إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ)) ، وقال :(( إن أقربكم مني منزلا يوم القيامة : أحاسنكم أخلاقا )) ، والأحاديث في هذا الباب عديدة .
ثم إن فظاظة الأخلاق وسوء التعامل والاتصاف بالأخلاق الغليظة الفظة الجافية والأساليب الغليظة النابية يُظلِم بصاحبه ويُبعده عن حقيقة الزينة وحقيقة الجمال ، فينفضّ عنه من حوله ولا يطيقون سماع حديثٍ له أو رؤية شخصه لفظاظة أخلاقه وغلظته وعنفه وشدته ؛ حتى ولو كان أقرب قريب له ، فإن الناس ينفرون منه ولا يطيقون رؤيته ولا سماع حديثه . وهذا مما يوضح ويبيِّن أن الخلق الإسلامي والآداب الإسلامية جمال للشخص وزينة ؛ تزيد من مكانته وتعلي من قدره وترفع من شأنه وتمكِّن أيضاً لمحبته في قلوب الآخرين وسماع حديثه والأنس بملاقاته ، فالأدب والخلق الفاضل في التعامل أيضا كلٌّ بحسب أحقيته من ذلك ، وأحق الناس بحُسن الأدب وجمال الصحبة الوالدة كما جاء في الحديث : من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله ؟ قال : ((أُمُّكَ)) قال: ثم من ؟ قال: ((أُمُّكَ)) قال: ثم من ؟ قال: ((أُمُّكَ)) قال: ثم من؟ قال: (( ثم أباك ثم أدناك فأدناك )) .
وليس أدب الإسلام تصنُّعاً يمارَس في مواضع معيَّنة لمصالح معينة يزول هذا الأدب بزوالها ، وإنما هو شيءٌ ينصبغ به العبد المؤمن ويتحلى به ويكون ديدناً له في حياته وفي تعاملاته بتوفيق من ربه سبحانه وتعالى .
ثم إن مما هو داخل في هذه الزينة _ زينة الإيمان وجمال هذا الدين _ : بُعْد العبد عن المنكرات وبُعده عن المحرمات ؛ فإن الله سبحانه وتعالى لم يحرِّم على عباده شيئا إلا لما فيه من المضرة عليهم في العاجل والآجل ، فالمعصية وإن مالت إليها النفس وتطلَّعت في بعض الأوقات لفعلها وتشوّفت للوقوع فيها هي في الحقيقة هلكة للإنسان في دنياه وأخراه وإذهابٌ لبهائه وحسنه ، وإذا خطى في المعصية خطواتٍ كان بكل خطوةٍ يخطوها في المعصية يفقد حظاً ونصيباً من زينة الإيمان وجماله بحسب ذلك .
ولنتأمل في هذا المعنى ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) مشيراً ومنبِّهاً عليه الصلاة والسلام أن ممارسة الإنسان لهذه الكبائر وفِعْله لها ووقوعه فيها يُضعِف ويُنقص حظ العبد ونصيبه من جمال الإيمان وزينته .
وفي الحديث الآخر قال : (( إِذَا زَنَى العَبْدُ خَرَجَ مِنْهُ الإِيمَانُ فَكَانَ فَوْقَ رَأْسِهِ كَالظُّلَّةِ )) والإيمان الذاهب هنا عمن وقع في الكبائر هو الإيمان الكامل الواجب لا أصل الإيمان ، فهذه الكبائر التي ذُكرت في هذا الحديث ذكرت على سبيل المثال ، للتنبيه على هذه الكبائر العظيمة ، ويكون في حكمها ما كان نظيرها من كبائر الإثم وعظائم الذنوب والموبقات عموماً المهلكات لصاحبيها ؛ فاستبقاء العبد لزينة الإيمان وحلاوته وحُسنه وجماله يتطلب منه مجاهدةً للنفس على البعد عن هذه الآثام والبعد عن هذه المحرمات .
والكبيرة حدُّها عند أهل العلم : ما صُدِّر بلعنٍ ، أو وعيدٍ بعدم دخول الجنة ، أو تهديدٍ بدخول النار ، أو قيل عن فاعلها : لا يؤمن ، أو ليس منا ، أو اشتد غضب الله على من فعل كذا ، أو لعنة الله على من فعل كذا ؛ فهذه عظائم ، والشيطان في هذا الباب يزيِّن للإنسان هذه المحرمات حتى يقع فيها فيذهب عنه حظه ونصيبه من زينة الإيمان بحسب وقوعه في تلك المخالفات ] أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ[[فاطر:8] ،كثير من هذه المعاصي يمارسها بعض الناس لأنها زُيِّنت له ؛ زينها له الشيطان وزيَّنتها له نفسه الأمارة بالسوء ، وإلا لو أبصرها ونظر إليها بنور الإيمان لوجدها نقصاً لا كمالاً ؛ وبهذا يُعلم سبب وقوع الكثير من الناس في مخالفات يعلم هذا المخالِف حرمتها والوعيد الذي فيها ومع ذلك يمارسها .
ولو نظرنا في أحاديث - ومنها أحاديث عديدة تخص النساء - صُدّرت بلعن ، ومن هي المرأة العاقلة الحصيفة التي ترضى لنفسها بهذا اللعن الذي جاء في أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام !! كقوله : ((لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ ، وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ)) ، إلى غير ذلكم من أحاديث عديدة في هذا الباب ، ثم تضعف المرأة وتنهزم أمام دواعي النفس ووساوس الشيطان وقرينات السوء فيصبح هذا الأمر الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لعْنُ فاعله أمراً تستحسِنه وتراه أمراً جميلاً وأمراً حسَناً وتظن أنها تزداد بفعله جمالاً ، والحقيقة أنها لو نظرت إلى هذا نظرةً إيمانية بصفاء الإيمان وصحة الاعتقاد وحُسن الصلة بالله تبارك وتعالى لما رأته كذلك ؛ لأن شرع الله سبحانه وتعالى ليس فيه محاربة للجمال وليس فيه محاربة للحُسن ؛ وإنما هذه الأمور هي من قبائح الأفعال وزُيِّنت لفاعلها ، إما زيَّنها له الشيطان أو زينتها نفسه الأمارة بالسوء ؛ وإلا فإن شرع الله سبحانه وتعالى كله جمال وكله حسن وكله زينة ، ولا يمنع من جمالٍ ولا حسنٍ وإنما يمنع من أمور هي تحوّلٌ في الفطَر وانحرافٌ عن الطريق السّوي الذي ينبغي أن يكون عليه العبد ، فتكون هذه الممارسات التي قد تقع هي من اجتيال الشيطان للإنسان عن فطرته .
ومما يؤكد ذلك : أن المجتمعات التي لم تصل إليها الوسائل الحارثة للفطرة تبقى نافرةً من هذه الأعمال كارهةً لها مبغضةً لفِعْلها ، وإذا انفتح الإنسان وأتاح لنفسه وبصره وسمعه إلى نظر محرم ربما سارقه ذلك مع الوقت فأحب هذه الأشياء ومالت إليها نفسه فحدَث عنده حينئذ التحول في الفطرة ورؤية الحَسن قبيحاً والقبيحَ حَسَناً ، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المخرَّج في صحيح مسلم : ((تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كالحَصِيرِ عُوداً عُودَا ، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ )) ، فهذه النكَت السوداء التي تُنكت في القلب هي التي تصل بالقلب إلى درجة الظلمة - يظلم بالمعصية - وحينئذ يرى المعروف منكراً والمنكر معروفا ، والحسَن قبيحاً والقبيح حسَنا ، إلى غير ذلكم .
ومن أكرمه الله سبحانه وتعالى بالعناية بالأصل الذي وُجد لأجله وخُلق لتحقيقه وسأل ربه سبحانه وتعالى العون على ذلك والتوفيق لتحقيق ذلك هُدي بإذن الله عز وجل إلى صراط الله المستقيم وفاز بعون الله عز وجل ومدِّه وتوفيقه بالزينة الحقيقة والجمال الكامل الذي يفوز بآثاره الدنيوية والأخروية ؛ كمِثل ما جاء في قوله تعالى : ]إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا[ [الكهف:107] ، وقوله جل وعلا : ]إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا[[مريم:96] ، وقوله جل وعلا : ] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [ [القمر:54-55] ، وقوله جل وعلا : ] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا [ إلى آخر الآيات [النبأ:32-33] ، وقوله جل وعلا :] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا[[النور:55] ، وقوله سبحانه وتعالى : ] مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [[النحل:97].
الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر _وفقه الله_
ولقد امتنّ الله سبحانه وتعالى على أهل الإيمان بأن أكرمهم بهذه الزينة ، وجمّلهم بهذه الحلية ، وأصبحوا لمخالطة الإيمان قلوبهم ولتذوقهم طعمه وحلاوته ولمعرفتهم بقدره ومكانته أصبحوا يحسُّون بمكانة هذه الزينة ويجدون ذلك في قلوبهم ، قال الله تعالى في سورة الحجرات : ]وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ [الحجرات:7-8] ، والشاهد قول الله عز وجل :]وَزَيَّنَهُ [ أي الإيمان ] فِي قُلُوبِكُمْ [ ؛ فأصبح قلب المؤمن الذي منّ الله سبحانه وتعالى عليه بذوق هذه الحلاوة وشهود هذا الطعم والهناءة بهذه اللذة يجد هذه الزينة في قلبه ويحس بها ]وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [ ، ويحس أن هذه الزينة التي منّ الله سبحانه وتعالى عليه بها وأكرمه بأن جعله من أهلها هي الزينة الحقيقية والجمال الحقيقي ، فلا يغتر بالمظاهر الزائفة التي تكون لأناسٍ وأناسٍ معوِّقاً وحائلاً وصارفاً عن تحقيق الإيمان وتتميمه وتكميله ؛ بل لقد آل الأمر ببعض الناس إلى أن أصبحوا في البحث عن الزينة الموهومة يخالفون شرع الله ويعصون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخالفون الفطرة السليمة التي خلقهم الله سبحانه وتعالى عليها وهم في ظنهم الخاطئ يظنون أنهم بذلك يحقِّقون الزينة والحلية لأنفسهم وأنهم يكتسبون بذلك حُسناً وجمالا ، وهيهات ثم هيهات أن يُكتسب الجمال بعصيان الرحمن ، وأن تنال الحلية بمخالفة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ، وواقع هؤلاء أنهم يعيشون أوهاماً زائفة وظنوناً فاسدة وتحولاتٍ في الفِطَر القويمة وكذلك في العقول المستقيمة.
والعاقل يبني حليته وزينته في ضوء ما حُدَّ له في شرع الله المطهر وسنة نبيه الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وفي الدعاء المأثور عن نبينا عليه الصلاة والسلام وهو في السنن الكبرى للنسائي وغيره بسند ثابت من حديث عمار بن ياسر وهو من جملة أدعية الصلاة ، يقول عليه الصلاة والسلام : ((اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ)) فيسأل عليه الصلاة والسلام ربَّه هذا السؤال العظيم والمطلب الجليل والمقصد النبيل ؛ وهو التزيُّن بزينة الإيمان والتجمُّل بجمال التقوى ]وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ[ .
وهذا التزين والتجمل بحلية الإيمان وزينته يتطلَّب من العبد الموفَّق مجاهدةً للنفس واستعانةً بالله عزّ وجلّ كما قال عليه الصلاة والسلام : (( احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ)) ؛ فيجاهد نفسه على التحقق بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام ساعياً في تكميل نفسه بذلك وتتميم جماله الظاهر والباطن بتحقيق ذلك ، وهو في كل ذلك يطلب من الله مده وعونه .
وفي هذا الباب يُنقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم دعوات عظيمة مباركة يحسن بالمسلم أن يُعنى بها :
§ منها الدعوة المشار إليها آنفا .
§ ومنها ما ثبت في صحيح مسلم من دعائه عليه الصلاة والسلام : ((اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِى دِينِىَ الَّذِى هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي ... )) إلى آخر الدعاء .
§ وكذلك ما جاء في دعاء الكرب : (( اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلاَ تَكِلْنِى إِلَى نَفْسِى طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِى شَأْنِى كُلَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ )) .
وهنا تتحقق السعادة والهناءة واللذة والطمأنينة وراحة النفس ونيل ثواب الله سبحانه وتعالى وأجره والفوز برضاه عز وجل .
وزينة الإيمان هي زينةٌ تتناول ظاهر العبد وباطنه ؛ فهي زينةٌ للقلب بحقائق الإيمان وأصول الدّين ، وأعظم ذلكم أصول الإيمان التي يقوم عليها دين الله وتقوم عليها هذه الزينة ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) وهذه أصول وقواعد وأسس يقوم عليها هذا الجمال العظيم والزينة العظيمة ؛ زينة الإيمان ، قال الله تعالى: ] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ[ [البقرة:177]، وقال الله تعالى :] آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ[[البقرة:285]، وقال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [ [النساء:136].
فهذه أصول وقواعد وأسس يبنى عليها هذا الجمال العظيم وتبنى عليها هذه الزينة العظيمة ؛ فهي أصولٌ تقوم عليها شجرة الإيمان ، وقد قال الله تعالى : ] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ[[إبراهيم:24] ، فهذه الشجرة الجميلة البهية الحسنة التي لا أزين منها وأحسن قيامها على أصل ثابت ، ومن هذا الأصل تتفرع الفروع الجميلة البهية الحسنة - فروع الإيمان - وهي أنواع الطاعات وصنوف القربات التي يتقرب بها المسلم لربِّه جلّ وعلا ، ثم بعد ذلك تأتي الثمار الجميلة الحسنة البهية التي يجنيها المؤمن ]تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا[[إبراهيم:25] فلا يزال المؤمن يجني من ثمار هذه الشجرة الجميلة البهية في كل وقتٍ وحين في دنياه وأخراه ؛ من سعادةٍ ، وراحة قلبٍ ، وقرة عينٍ ، وهناءة نفسٍ ، وسعة رزقٍ ، وذهاب همٍّ ، وزوال غمٍّ إلى غير ذلك من الثّمار في هذه الحياة الدنيا ، وثواب الآخرة خير وأبقى .
ثم كذلكم تزيين الظاهر وتجمّله بزينة الإيمان بلزوم فرائض الدين وواجبات الإسلام والشرائع التي أُمر بها العبد وفي مقدمة ذلكم مباني الإسلام الخمسة التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر : (( بُنِىَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ)) ، فإنَّ هذه الأعمال المباركة والطاعات العظيمة هي في الحقيقة زينةٌ للمسلم وجمال ، إضافةً إلى كونها سبب فلاحه وسعادته في دنياه وأخراه ؛ فالصلاة نورٌ لصاحبها وبهاءٌ وحُسن ، وكذلك عموم الطاعات لا يزال العبد يزداد بها حسناً وبهاءً ، بخلاف المعرِض عن دين الله سبحانه وتعالى ؛ فإن الخطيئة والمعصية والبعد عن طاعة الله سبحانه وتعالى ظلمةٌ في الوجه ووحشةٌ في الصدر ، وكذلك النكوص عن شرع الله سبحانه وتعالى بممارسة البدع المحدثات يسبِّب ذلك كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله : " صاحب البدعة على وجهه ظلمة ؛ وإن ادّهن في اليوم ثلاثين مرة " أي وضْع الدهون التي توضع للتجميل والتحسين لا تُذهب ظلمة البدعة وظلمة المعصية لله سبحانه وتعالى .
كذلكم عناية المسلم بآداب الشريعة وأخلاق الإسلام هذه جمالٌ عظيم ، وإذا أكرم الله سبحانه وتعالى عبده بالتحلي بالآداب الفاضلة والأخلاق الكاملة والمعاملات الرفيعة ؛ فإن كل من يخالطه يحس بهذا الجمال ويحس بهذه الروعة ويحس بهذا الحُسن الذي يكسو من كان كذلكم متصفاً متحلياً متجملاً متزيناً بأخلاق الإسلام الفاضلة ، وقد جاء نبينا عليه الصلاة والسلام بالآداب الكاملة والأخلاق الرفيعة الفاضلة التي تسمو بصاحبها في عالي الدرجات ورفيع الرتب ، إضافةً إلى ما أعدَّه الله سبحانه وتعالى لذوي الأخلاق الرفيعة من أجرٍ وثواب ، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال : (( تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ)) ، وقال عليه الصلاة والسلام :(( إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ)) ، وقال :(( إن أقربكم مني منزلا يوم القيامة : أحاسنكم أخلاقا )) ، والأحاديث في هذا الباب عديدة .
ثم إن فظاظة الأخلاق وسوء التعامل والاتصاف بالأخلاق الغليظة الفظة الجافية والأساليب الغليظة النابية يُظلِم بصاحبه ويُبعده عن حقيقة الزينة وحقيقة الجمال ، فينفضّ عنه من حوله ولا يطيقون سماع حديثٍ له أو رؤية شخصه لفظاظة أخلاقه وغلظته وعنفه وشدته ؛ حتى ولو كان أقرب قريب له ، فإن الناس ينفرون منه ولا يطيقون رؤيته ولا سماع حديثه . وهذا مما يوضح ويبيِّن أن الخلق الإسلامي والآداب الإسلامية جمال للشخص وزينة ؛ تزيد من مكانته وتعلي من قدره وترفع من شأنه وتمكِّن أيضاً لمحبته في قلوب الآخرين وسماع حديثه والأنس بملاقاته ، فالأدب والخلق الفاضل في التعامل أيضا كلٌّ بحسب أحقيته من ذلك ، وأحق الناس بحُسن الأدب وجمال الصحبة الوالدة كما جاء في الحديث : من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله ؟ قال : ((أُمُّكَ)) قال: ثم من ؟ قال: ((أُمُّكَ)) قال: ثم من ؟ قال: ((أُمُّكَ)) قال: ثم من؟ قال: (( ثم أباك ثم أدناك فأدناك )) .
وليس أدب الإسلام تصنُّعاً يمارَس في مواضع معيَّنة لمصالح معينة يزول هذا الأدب بزوالها ، وإنما هو شيءٌ ينصبغ به العبد المؤمن ويتحلى به ويكون ديدناً له في حياته وفي تعاملاته بتوفيق من ربه سبحانه وتعالى .
ثم إن مما هو داخل في هذه الزينة _ زينة الإيمان وجمال هذا الدين _ : بُعْد العبد عن المنكرات وبُعده عن المحرمات ؛ فإن الله سبحانه وتعالى لم يحرِّم على عباده شيئا إلا لما فيه من المضرة عليهم في العاجل والآجل ، فالمعصية وإن مالت إليها النفس وتطلَّعت في بعض الأوقات لفعلها وتشوّفت للوقوع فيها هي في الحقيقة هلكة للإنسان في دنياه وأخراه وإذهابٌ لبهائه وحسنه ، وإذا خطى في المعصية خطواتٍ كان بكل خطوةٍ يخطوها في المعصية يفقد حظاً ونصيباً من زينة الإيمان وجماله بحسب ذلك .
ولنتأمل في هذا المعنى ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) مشيراً ومنبِّهاً عليه الصلاة والسلام أن ممارسة الإنسان لهذه الكبائر وفِعْله لها ووقوعه فيها يُضعِف ويُنقص حظ العبد ونصيبه من جمال الإيمان وزينته .
وفي الحديث الآخر قال : (( إِذَا زَنَى العَبْدُ خَرَجَ مِنْهُ الإِيمَانُ فَكَانَ فَوْقَ رَأْسِهِ كَالظُّلَّةِ )) والإيمان الذاهب هنا عمن وقع في الكبائر هو الإيمان الكامل الواجب لا أصل الإيمان ، فهذه الكبائر التي ذُكرت في هذا الحديث ذكرت على سبيل المثال ، للتنبيه على هذه الكبائر العظيمة ، ويكون في حكمها ما كان نظيرها من كبائر الإثم وعظائم الذنوب والموبقات عموماً المهلكات لصاحبيها ؛ فاستبقاء العبد لزينة الإيمان وحلاوته وحُسنه وجماله يتطلب منه مجاهدةً للنفس على البعد عن هذه الآثام والبعد عن هذه المحرمات .
والكبيرة حدُّها عند أهل العلم : ما صُدِّر بلعنٍ ، أو وعيدٍ بعدم دخول الجنة ، أو تهديدٍ بدخول النار ، أو قيل عن فاعلها : لا يؤمن ، أو ليس منا ، أو اشتد غضب الله على من فعل كذا ، أو لعنة الله على من فعل كذا ؛ فهذه عظائم ، والشيطان في هذا الباب يزيِّن للإنسان هذه المحرمات حتى يقع فيها فيذهب عنه حظه ونصيبه من زينة الإيمان بحسب وقوعه في تلك المخالفات ] أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ[[فاطر:8] ،كثير من هذه المعاصي يمارسها بعض الناس لأنها زُيِّنت له ؛ زينها له الشيطان وزيَّنتها له نفسه الأمارة بالسوء ، وإلا لو أبصرها ونظر إليها بنور الإيمان لوجدها نقصاً لا كمالاً ؛ وبهذا يُعلم سبب وقوع الكثير من الناس في مخالفات يعلم هذا المخالِف حرمتها والوعيد الذي فيها ومع ذلك يمارسها .
ولو نظرنا في أحاديث - ومنها أحاديث عديدة تخص النساء - صُدّرت بلعن ، ومن هي المرأة العاقلة الحصيفة التي ترضى لنفسها بهذا اللعن الذي جاء في أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام !! كقوله : ((لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ ، وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ)) ، إلى غير ذلكم من أحاديث عديدة في هذا الباب ، ثم تضعف المرأة وتنهزم أمام دواعي النفس ووساوس الشيطان وقرينات السوء فيصبح هذا الأمر الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لعْنُ فاعله أمراً تستحسِنه وتراه أمراً جميلاً وأمراً حسَناً وتظن أنها تزداد بفعله جمالاً ، والحقيقة أنها لو نظرت إلى هذا نظرةً إيمانية بصفاء الإيمان وصحة الاعتقاد وحُسن الصلة بالله تبارك وتعالى لما رأته كذلك ؛ لأن شرع الله سبحانه وتعالى ليس فيه محاربة للجمال وليس فيه محاربة للحُسن ؛ وإنما هذه الأمور هي من قبائح الأفعال وزُيِّنت لفاعلها ، إما زيَّنها له الشيطان أو زينتها نفسه الأمارة بالسوء ؛ وإلا فإن شرع الله سبحانه وتعالى كله جمال وكله حسن وكله زينة ، ولا يمنع من جمالٍ ولا حسنٍ وإنما يمنع من أمور هي تحوّلٌ في الفطَر وانحرافٌ عن الطريق السّوي الذي ينبغي أن يكون عليه العبد ، فتكون هذه الممارسات التي قد تقع هي من اجتيال الشيطان للإنسان عن فطرته .
ومما يؤكد ذلك : أن المجتمعات التي لم تصل إليها الوسائل الحارثة للفطرة تبقى نافرةً من هذه الأعمال كارهةً لها مبغضةً لفِعْلها ، وإذا انفتح الإنسان وأتاح لنفسه وبصره وسمعه إلى نظر محرم ربما سارقه ذلك مع الوقت فأحب هذه الأشياء ومالت إليها نفسه فحدَث عنده حينئذ التحول في الفطرة ورؤية الحَسن قبيحاً والقبيحَ حَسَناً ، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المخرَّج في صحيح مسلم : ((تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كالحَصِيرِ عُوداً عُودَا ، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ )) ، فهذه النكَت السوداء التي تُنكت في القلب هي التي تصل بالقلب إلى درجة الظلمة - يظلم بالمعصية - وحينئذ يرى المعروف منكراً والمنكر معروفا ، والحسَن قبيحاً والقبيح حسَنا ، إلى غير ذلكم .
ومن أكرمه الله سبحانه وتعالى بالعناية بالأصل الذي وُجد لأجله وخُلق لتحقيقه وسأل ربه سبحانه وتعالى العون على ذلك والتوفيق لتحقيق ذلك هُدي بإذن الله عز وجل إلى صراط الله المستقيم وفاز بعون الله عز وجل ومدِّه وتوفيقه بالزينة الحقيقة والجمال الكامل الذي يفوز بآثاره الدنيوية والأخروية ؛ كمِثل ما جاء في قوله تعالى : ]إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا[ [الكهف:107] ، وقوله جل وعلا : ]إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا[[مريم:96] ، وقوله جل وعلا : ] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [ [القمر:54-55] ، وقوله جل وعلا : ] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا [ إلى آخر الآيات [النبأ:32-33] ، وقوله جل وعلا :] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا[[النور:55] ، وقوله سبحانه وتعالى : ] مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [[النحل:97].
الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر _وفقه الله_
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق