بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الدَّعوةُ إلى سبيل الله رسالةُ الأنبياء ووظيفةُ المصلحين والعلماء، الَّذين تجَرَّدوا لإعلاء كلمة الله العزيز الحميد وتفانَوا في الذَّبِّ عن التَّوحيد، وحرَصوا على إنقاذ العباد من ظلمات الجهل والغَواية ومخالفة الحقِّ، مبتغين بذلك رضوانَ ربِّهم وإظهارَ دينه وهدايةَ الخلقِ، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين﴾[فُصِّلَت:33]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله وَالله غَفُورٌ رَّحِيم﴾[البقرة:218] وقال: ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون﴾[الحشر:8].
وبذلوا في سبيل ذلك الغاليَ والنَّفيس، وجادُوا بالأوقات والمُهَج، روى البخاري (6445) ومسلم (991) عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا لَسَرَّنِي أَنْ لاَ تَمُرَّ عَلَيَّ ثَلاَثُ لَيَالٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ، إِلاَّ شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْن»، وقال لعليٍّ رضي الله عنه: «فَوَالله لأَنْ يَهْدِيَ الله بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَم» رواه البخاري (3701) ومسلم (2406)، وفي «تهذيب الكمال» للمِزِّيّ (9 /427) أنَّ زهير بنَ نُعَيْم البابي قال: «وددتُ أنَّ جسدي قُرِضَ بالمقاريضِ وأنَّ هذا الخلق أطاعوا الله»، وكان عمرُ بن عبد العزيز رحمه الله يَقُول ـ كما في «سيرته لابن عبد الحكم» (ص130) ـ: «يَا*لَيْتَني قد عملت فِيكم بِكِتَاب الله وعملتم بِهِ، فَكلَّما عملت فِيكُم بسنَّة وَقع منِّي عُضْوٌ ، حَتَّى يكون آخرُ شَيْء مِنْهَا خُرُوجَ نَفسِي».
فكانت قرَّةُ أعينِهم وسرورُ قلوبِهم وراحةُ بالهم في ظهورِ التَّوحيد وعلوِّ الإسلام على الدِّين كلِّه ودخولِ النَّاس فيه كافَّةً، وخضوعِهم لأحكامه، ولم يكن شيءٌ أتعبَ لنفوسهم وأشدَّ على قلوبهم من بقاء الشِّرك والمنكرات وبروزِها والدَّعوة إليها، روى البخاري (6333) ومسلم (2476) عن جَرير بن عبد الله رضي الله عنه قَال: قَال لِي رسولُ الله ﷺ: «أَلاَ تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الخَلَصَةِ ـ وَهُوَ نُصُبٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ يُسَمَّى الكَعْبَةَ اليَمَانِيَةَ ـ... فَانْطَلَقْتُ فِي عُصْبَةٍ مِنْ قَوْمِي فَأَتَيْتُهَا فَأَحْرَقْتُهَا».
لقد كان ﷺ حريصًا على هداية النَّاس مُشفقًا عليهم من الضَّلال والشَّقاء في الدُّنيا والآخرة، وهذا من أكملِ صفاتِ بني آدم وأعزِّها وجودًا، بل لا يُعرف إلاَّ عن الَّذين اصطفاهم الله من الأنبياءِ ووَرثتِهم، فكان ذلك دأبَه وهمَّه منذ أمَرَه الله بالنِّذارة إلى أن التَحَق بالرَّفيق الأعلى، ولم يدعُ إلى نفسه ولا إلى عَرَض من أعراض الدُّنيا، بل عُرضت عليه ورفَضها كلَّها، قال تعالى: ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِين﴾[يوسف:108]، قال ابن باديس رحمه الله في «تفسيره» (1 /122): «فكان يدعو إلى دين الله، ويبيِّنُ هو ذلك الدِّينَ ويمَثِّلهُ، يدعو إلى عبادةِ الله وتوحيدِه وطاعته، ويشاهدُ النَّاسُ تلك العبادةَ والتَّوحيد والطَّاعة، فكان ﷺ كلُّه دعوةً إلى الله، فما دعا إلى نفسه؛ فقد مات ودِرعُه مرهونةٌ في دَيْن».
كان نبيُّنا ﷺ وإخوانُه المرسلون عليهم السلام هداةً مهتدين ومعلِّمين ناصحين، وكانوا أنصحَ لقومهم من أنفسهم، يبذُلون لهم العلمَ والفقهَ لوجه الله مجَّانًا ولا يطلبون منهم جزاءً ولا شكورًا، ولا يطمعون في شيْءٍ ممَّا عندهم، بل ينفقون الدُّنيا وما فيها في مرضاةِ الله جلَّ وعلا ونُصرةِ دينه وتأليفِ القلوبِ عليه، ويحتسبون الأجرَ على ربِّهم، وكان النَّبيُّ من أنبياء الله عليه السلام يقول لقومه: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِين﴾[الشعراء:109]، وقال خاتَمُهم محمَّد ﷺ: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِين﴾[ص:86]، ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد﴾[سبأ:47]، وقال تعالى: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُون﴾[الطور:40]، هذا استفهامٌ إِنْكارِيٌّ، أي إنَّك لم تسأَلْهُم عَلى ذَلِك شيْئًا، فأنت تدعوهم من غير أن تطلب منهم غرامةً تُثقِلُهم وتشُقُّ علَيهم، بل تطلب الأجرَ والثَّواب من الله الكريم الوهَّاب، كما قال تعالى: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين﴾[المؤمنون:72].
قال الشَّنقيطي رحمه الله في «أضواء البيان» (2 /179): «ويُؤْخَذُ من هذه الآياتِ الكريمة أنَّ الواجبَ على أتباعِ الرُّسُلِ من العلماءِ وغيرِهم أَنْ يَبذُلُوا ما عندهم من العلمِ مجَّانًا من غيرِ أَخذِ عِوَضٍ على ذلك».
وعن أبي العالية رحمه الله في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾[البقرة:41]، قال: «لا تأخذ على ما علَّمت أجرًا، فإنَّما أجرُ العلماءِ والحُكماء والحُلماء على الله عزَّ وجلَّ، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التَّوراة: يا ابنَ آدم علِّم مجَّانًا كما عُلِّمت مجَّانًا»(1).
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق