بسم الله الرحمن الرحيم
أعـــــراس الشيطــــــان *
من آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله
كنّا نفهم أن الشيطان يطوّف ما يطوّف ثم يأوي إلى قلوب أوليائه، لينفث فيها الشر، ويزيّن لها معصية الله، ويحرّكها إلى الفساد والمنكر، ويذكرها بسننه المنسية لتتوب إليه من إهمالها وإضاعتها؛ وما كنّا نعلم أن للشيطان مراجَ خاصة لا يبرحها في فصلين من السنة، ومعظمها في "العمالة الوهرانية"، وما ذلك لطيب في هوائها، أو عذوبة في مائها، أو اعتدال في جوّها، فالشيطان غني عن هذا كله، ولا يعبأ بهذا كله، وإنما ذلك للذة يجدها الشيطان في هواها ... وسهولة انقياد يجدها في أوليائه بها، وقابلية للتسويل والتزّين قلّما يجدها في غيرهم من رعاياه، وصدق الله العظيم، فإن الشياطين لا تنزَّلُ إلا على كل أفّاك أثيم.
والشيطان حقيقة روحية، لا تدرك بالحواس، ولا تُعرف بالحدود، ولا تُقاس بالموازين البشرية؛ وإنما نعرفه بآثاره في أوليائه، من القابلية للشر والفساد، والاستجابة للمنكر والباطل، والتهوّر في الفسوق والعصيان، والمسارعة إلى المساخط، والعكوف على الضلال، وسرعة التلقّي لوحي الشيطان وتلبيسه، والمحادة لله ورسوله فيما أمرا به أو نهيا عنه.
ويجتمع في مجموع صفاته أنه درب مفتن متمرّس بسلائل آدم، خالي الذرع من الهم إلا بهم، من يوم قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، فهو يتفنّن في تزيين الفواحش لهم، ويعرضها عليهم مزركشة ذات تهاويل، ويضع الأسماء على غير مسمّياتها، ليغرّ بالزركشة ويغري بالاسم، فيضع للأغرار من أتباعه اسم الدين على ما ينقض الدين ويهدمه، واسم الخير على ما يمحو الخير ويعدمه، ويوحي إلى أوليائه بالفواحش مغيّرة العناوين، فيأتونها مبتدرين، ويجترحونها مخلصين، كما يأتي المؤمن القانت فرضَ ربّه، ويستقبل أمره.
ولكن يبدو لنا أن الشيطان المكلّف بالعمالة الوهرانية بليد القريحة، جامد الفكر، خامد الذوق، جافي الطبع، كثيف الحسّ، خشن المسّ، بدوي النزعة، وحشي الغريزة، فكلّ ما يأمر به أولياءه وأتباعه فهو من جنس طبعه، سمج غث خال من الجمال والفن والذوق، وقد عهِدنا الشيطان "المتمدن " لطيف الإحساس، فنيّ الذوق، وعهدنا أعماله فنية الأسلوب فاتنة المظهر؛ والفتنة هي سلاح الشيطان الأحدّ، يكسو بها أعماله فيصبي الحلماء، ويستنزل النسّاك إلى مواطن الفتاك، أما هذه الأعمال التي نشاهدها من أولياء الشيطان في عمالة وهران فهي سخيفة باردة حيوانية وحشية.
...
هذه "الزرد" التي تقام في طول العمالة الوهرانية وعرضها هي أعراس الشيطان وولائمه، وحفلاته ومواسمه، وكلّ ما يقع فيها من البداية إلى النهاية كله رجس من عمل الشيطان، وكلّ داع إليها، أو معين عليها، أو مكثر لسوادها فهو من أعوان الشيطان، ألم ترَ إلى ما يركب فيها من فواحش ومحرمات؛ وما يُهتك فيها من أعراض وحرمات؟ كلّ ذلك مما يأمر به الشيطان "البدوي"، وكلّ ذلك مما ذكرنا به القرآن، وبيّن لنا أنه من أمره ووعده، وتزيينه وإغوائه.
كلّما انتصف فصل الربيع من كل سنة تداعى أولياء الشيطان في كل بقعة من هذه العمالة إلى زردة يُقيمونها على وثن معروف من أوثانهم، يسوّله لهم الشيطان وليًّا صالحًا، بل يصوّره لهم إلهًا متصرفًا في الكون، متصرفًا في النفع والضرّ والرزق والأجل بين عباد الله، وقد يكون صاحب القبر رجلًا صالحًا، فما علاقة هذه الزرد بصلاحه؟ وما مكانها في الدين؟ وهل يرضى بها لو كان حيًّا وكان صالحًا الصلاح الشرعي؟ وقد كانت هذه الزرد تقام في أيام الجدوب للاستسقاء غير المشروع، فأصبحت عادة مستحكمة، وشرعة محكمة، وعبادة موقوتة، يتقرّب بها هؤلاء المبتدعة إلى أوثانهم في أوقات الجدوب والغيوث على السواء، يدعوهم إليها شيطانهم في النصف الأخير من كل ربيع، فإذا جاء الغيث نسبوه إلى أوثانهم، وإذا كان الجدب نسبوه إلى الله، عكس ما قال الله وحكم، ثم إذا جاء الصيف فَاءُوا إلى الأعمال الصيفية مضطرين، فإذا أقبل الخريف عادوا إلى تلك العادة النكراء فأنفقوا فيها كلّ ما جمعوه، وتداينوا بالربا المضاعف بما لا تقوم به ذممهم ولا أموالهم؛ فإذا ثَقُل الدين وألحّ الدائن، باع من يملك قطعة أرض أرضه، وباع من يملك دابة دابته، وتلك هي الغاية التي يعمل لها الشيطانان، شيطان الجن، وشيطان الاستعمار! ..
جُلْ ما شئت في عمالة وهران في النصف الأخير من الربيع، والنصف الأول من الخريف، فإنك تسمع في كل سوق أذانًا بزردة، وترى في كل طريق حركة إلى زردة، وركابًا تشد إلى وعدة.
وسرْ ما شئت في جميع الأوقات، وفي جميع طرق المواصلات ترَ القبابَ البيضاء لائحة في جميع الثنايا والآكام ورؤوس الجبال، وسلْ تجد القليل منها منسوبًا إلى معروف من أجداد القبائل، وتجد الأقلّ مجهولًا، والكثرة منسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني.
واسأل الحقيقة تجبك عن نفسها بأن الكثير من هذه القباب إنما بناها المعمّرون الأوربيون في أطراف مزارعهم الواسعة، بعد ما عرفوا افتتان هؤلاء المجانين بالقباب، واحترامهم لها، وتقديسهم للشيخ عبد القادر الجيلاني، فعلوا ذلك لحماية مزارعهم من السرقة والإتلاف. فكل معمر يَبني قبة أو قبّتين من هذا النوع يأمن على مزارعه السرقة، ويستغني عن الحرّاس ونفقات الحراسة، ثم يترك لهؤلاء العميان- الذين خسروا دينهم ودنياهم- إقامة المواسم عليها في كل سنة، وإنفاق النفقات الطائلة في النذور لها وتعاهدها بالتبييض والإصلاح، وقد يحضر المعمر معهم الزردة، ويشاركهم في ذبح القرابين، ليقولوا عنه إنه محبّ في الأولياء خادم لهم، حتى إذا تمكّن من غرس هذه العقيدة في نفوسهم راغ عليهم نزغا للأرض من أيديهم، وإجلاء لهم عنها، وبهذه الوسيلة الشيطانية استولى المعمرون على تلك الأراضي الخصبة التي أحالوها إلى جنات، زيادة على الوسائل الكثيرة التى انتزعوا بها الأرض من أهلها.
وكأن هؤلاء القوم يعتقدون أن أرواح الأولياء كالثعابين والحيات، تتخذ من الحجارة المجموعة مقرًّا وملجأً، فكلّما وجدوا حجارة مجموعة اعتقدوا أنها مباءة لولي واتخذوها مزازًا. ولقد مررتُ في إحدى جولاتي في تلك المقاطعة بقطعة أرض موات، كأنها مقبرة أموات، مرصّعة بالحجارة، مغطاة بالسدر والدوم، تحفها قطع متجاورات، غُرست زيتونًا وكرومًا وفواكه شتّى، فكأن تلك القطعة من بينها جنة الرجاز التي تخيّلها أبو العلاء المعرّي في رسالة الغفران؛ فشهدت كل واحدة بصاحبها، ثم مررتُ بعد سنة بتلك القطعة، فدلّني تبدّل الأرض غير الأرض على أن صاحبها الأول قامت قيامته، ووجدت تلك الحجارة قد رُكمت على حافة الطريق، ثم مررت بها مرة أخرى في تلك السنة فإذا تلك الحجارة المركومة قد رشّت بالجير الأبيض، وإذا فيها كوى للبخور والشمع، قلت، سبحان من يحي قلوبًا ويميت قلوبًا، سبحان من جعل التوحيد مفتاح السعادة في الدارين.
ولقد ماتتْ هذه العوائد الشيطانية قبل الحرب الأخيرة أو كادت تموت، بتأثير الحركة الإصلاحية المطهّرة للعقائد، ثم قضي عليها بتأثّر الناس بالحرب ولأوائها، وقد عادت في السنتين الأخيرتين إلى ما كانت عليه، ودعا داعي الشيطان إليها فأسمع، وكأنّما أذن في القانتين بصلاة، أو ثوّب في المستطيعين بحجّ، فإذا هم في اليوم الموعود مهطعون إلى الداعي، رجالًا ونساءً وأطفالًا، يُزجون الرواحل، ويسوقون القرابين، ويحملون الأدوات، تراهم فتقول إن القوم صُبِّحوا بغارة، تسيل بهم الطرق، وتغصّ بهم الفجاج، حتى إذا وصلوا إلى الوثن نُصبت الخيام، وسالت الأباطح بالمنكرات والآثام.
وإن لعودة هذه المنكرات لسببًا جديدًا غير العقيدة، فقد ضعفت، وغير المنفعة المادية لدعاة الشيطان، فقد نزرت، وإنما هو تنشيط الحكومة لها، وتحريضها على إحيائها، لأن في بقائها قوّة للاستعمار، ومقاومة للحركة الإصلاحية، وإلهاء لرجال الإصلاح عن البناء والإصلاح، وإنا- إن شاء الله- لهذه المكائد لمتفطنون، وإنا على إحباطها لعاملون، وإنا للحديث عن هذه المخزيات لعائدون.
...
يا قومنا، أجيبوا داعي الله، ولا تجيبوا داعيَ الشيطان، يا قومنا إن أصول هذه المنكرات مَفسدة للعقيدة، وإن فروعها مُفسدة للعقل والمال، وإنكم مسؤولون عند الله عن جميع ذلك، يا قومنا إنكم تنفقون هذه الأموال في حرام وإن الذبائح التي تذبحونها حرام لا يحلّ أكلها، لأنها مما أهل به لغير الله؛ فمن أفتاكم بغير هذا فهو مفتي الشيطان، لا مفتي القرآن.
من آثار الامام محمد البشير الابراهيمي رحمه الله
الشاملة ، من : 319/3 الى : 322/3
__________
* نشرت في العدد 95 من جريدة «البصائر»، 14 نوفمبر سنة 1949.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق