الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فمن المعلوم أنّ لفظةَ: «العقيدة» لم يَرِدِ استعمالُها في الكتابِ والسُّنَّةِ، ولا في أُمَّهاتِ معاجمِ اللّغةِ، واستعمل الأئمَّةُ السّابقون ما يدلُّ عليها، ﻛ: «السّنَّة»، و«الإيمان»، و«الشّريعة»، واستعمل كثيرٌ من الأئمَّةِ لفظتَيِ: «اعتقاد»، و«معتقد»، كابْنِ جريرٍ الطّبريّ، واللاّلكائيّ، والبيهقيّ.
فمن النّاحيةِ الاصطلاحيّةِ: تُستعملُ لفظةُ: «العقيدةِ» عند إطلاقِها للدّلالةِ على: «ما يَعقِدُ عليه العبدُ قلبَه من حقٍّ أو باطلٍ»، أمَّا استعمالُها مقيَّدةً بصفةٍ كعبارةِ: «العقيدةِ الإسلاميّةِ»، فقد عرَّفها بعضُهم بأنّها: «الإيمانُ الجازِمُ باللهِ، وما يجب له في أُلُوهيَّتِه، ورُبُوبِيَّتِه، وأسمائِه وصفاتِه، والإيمانِ بملائكتِه، وكتبِه، ورسلِه، واليومِ الآخرِ، والقَدَرِ خيرِه وشرِّه، وبكلِّ ما جاءت به النّصوصُ الصّحيحةُ من أصولِ الدِّينِ، وأمورِ الغيبِ وأخبارِه، وما أجمع عليه السّلفُ الصّالِحُ، والتّسليمُ لله تعالى في الحُكمِ والأمرِ، والقدَرِ والشّرعِ، ولرسولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بالطّاعةِ والتّحكيمِ والاتّباعِ».
فالعقيدةُ في الإسلامِ تقابلُ الشّريعةَ؛ لأنَّ المرادَ بالشّريعةِ التّكاليفُ العَمليّةُ التي جاء بها الإسلامُ في العباداتِ والمعاملاتِ، بينما العقيدةُ هي أمورٌ عِلميّةٌ يجب على المسلم أن يعتقدَها في قلبِه؛ لأنّ الله تعالى أخبره بها بطريقِ وحيه إلى رسولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، والصّلةُ بينهما وثيقةٌ جدًّا، يجتمعان في الإيمانِ عند الانفرادِ؛ لأنَّ له شِقَّين: عقيدةٌ نقيّةٌ راسخةٌ تستكنُّ في القلبِ، وشِقٌّ آخَرُ يتمثَّل في العمل الذي يظهر على الجوارحِ، فكان الإيمانُ عقيدةً يرضى بها قلبُ صاحبِها، ويعلن عنها بلسانِه، ويرتضي المنهجَ الذي جعله اللهُ متَّصلاً بها، لذلك جاء من أقوال علماء السّلفِ في الإيمان: أنَّه اعتقادٌ بالجَنانِ، ونُطقٌ باللِّسانِ وعملٌ بالأركانِ.
هذا، والاعتمادُ على صحَّةِ هذه العقيدةِ لا يكون إلاَّ وَفق منهجٍ سليمٍ، قائمٍ على صحيحِ المنقولِ الثّابتِ بالكتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ الواردةِ عن الصّحابةِ رضي الله عنهم، والتّابعين من أئمَّةِ الهدى ومصابيحِ الدُّجَى الذين سلكوا طريقَهم، كما قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»(١).
فكان هذا الصّراطُ القويمُ المتمثِّلُ في طلبِ العلمِ بالمطالبِ الإلهيّةِ عن طريق الاستدلالِ بالآياتِ القرآنيّةِ والأحاديثِ النّبويّةِ، والاسترشادِ بفهمِ الصّحابةِ والتّابعين ومَن التزم بنهجِهم من العلماءِ، من أعظمِ ما يتميَّز به أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ عن أهلِ الأهواءِ والفُرقةِ.
ومن مميِّزاتِهم الكبرى: عدمُ معارضتِهم الوحيَ بعقلٍ أو رأيٍ أو قياسٍ وتقديمُهم الشّرعَ على العقلِ، مع أنَّ العقلَ الصّحيحَ لا يُعارض النّصَّ الصّحيح، بل هو موافقٌ له، ورفضُهم التّأويل الكلاميَّ للنّصوصِ الشّرعيّةِ بأنواعِ المجازاتِ، واتّخاذُهم الكتابَ والسّنَّةَ ميزانًا للقَبولِ والرّفضِ.
تلك هي أهمُّ قواعدِ المنهجِ السّلفيّ وخصائصِه الكبرى، التي لم يتَّصفْ بها أحدٌ سواهم؛ ذلك لأنَّ مصدرَ التّلقِّي عند مخالفيهم من أهلِ الأهواءِ والبدعِ هو العقلُ الذي أفسدتْه تُرَّهاتُ الفلاسفةِ، وخُزَعْبَلاتُ المناطقةِ، وتَمَحُّلاَت المتكلِّمين، فأفرطوا في تحكيمِ العقلِ وردِّ النّصوصِ ومعارضتِها به، وغيرِ ذلك مِمّا هو معلومٌ من مذهبِ الخلَفِ.
هذا؛ وقد كان من نتائجِ المنهجِ القويمِ اتّحادُ كلمةِ أهلِ السّنّةِ والجماعةِ بتوحيدِ ربِّهم، واجتماعُهم باتّباعِ نبيِّهم صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، واتّفاقُهم في مسائلِ الاعتقادِ وأبوابِه، قولاً واحدًا، لا يختلف مهما تباعدتْ بهم الأمكنةُ، واختلفت بهم الأزمنةُ.
فالمنهجُ السّليمُ يؤدِّي إلى الاعتقادِ السّليمِ، فيُستدلُّ بصحَّةِ العقيدةِ على سلامةِ المنهجِ، فهو من الاستدلالِ بالمعلولِ على العلَّةِ، كالاستدلالِ بوجودِ أثرِ الشّيءِ على وجودِه، وبعدمِه على عدمِه، فهو من قياسِ الدّلالة عند الأصوليِّين.
وقد تكون العقيدةُ سليمةً في بعض جوانبِها، فاسدةً في بعضِها الآخَرِ، فيُستدلُّ على جانبِها الصّحيحِ بصِحَّةِ المنهجِ فيه، وعلى الفاسدِ بفسادِ منهجِه فيه، مثل أن يعتقدَ عقيدةَ السّلفِ في الأسماءِ والصّفاتِ، ويعتقدَ مسائلَ الخروجِ والحزبيّةِ وغيرِهما.
فيستدلُّ على صحّةِ عقيدتِه في الأسماءِ والصّفاتِ بصحّةِ المنهجِ فيها المتمثِّلِ في الاستدلالِ بالكتابِ والسّنَّةِ، والاسترشادِ بفهمِ السّلفِ الصّالحِ، كما يُستدلُّ على فسادِ عقيدتِه في الجانبِ الآخَرِ بتركه المنهج السلفيّ فيه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٦ جمادى الأولى ١٤٢٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٢١ مـاي ٢٠٠٨م
(١) أخرجه البخاريّ في «صحيحه» كتاب الشّهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد: (٢٥٠٩)، ومسلم في «صحيحه» كتاب «فضائل الصحابة»، باب فضل الصحابة ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين...: (٦٤٧٢)، والتّرمذيّ في «سننه» كتاب «المناقب»، باب ما جاء في فضل من رأى النّبيّ وصحبه: (٣٨٥٩)، وابن حبّان في «صحيحه»: (٧٢٢٨)، وأحمد في «مسنده»: (٥٣٨٣)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
فمن المعلوم أنّ لفظةَ: «العقيدة» لم يَرِدِ استعمالُها في الكتابِ والسُّنَّةِ، ولا في أُمَّهاتِ معاجمِ اللّغةِ، واستعمل الأئمَّةُ السّابقون ما يدلُّ عليها، ﻛ: «السّنَّة»، و«الإيمان»، و«الشّريعة»، واستعمل كثيرٌ من الأئمَّةِ لفظتَيِ: «اعتقاد»، و«معتقد»، كابْنِ جريرٍ الطّبريّ، واللاّلكائيّ، والبيهقيّ.
فمن النّاحيةِ الاصطلاحيّةِ: تُستعملُ لفظةُ: «العقيدةِ» عند إطلاقِها للدّلالةِ على: «ما يَعقِدُ عليه العبدُ قلبَه من حقٍّ أو باطلٍ»، أمَّا استعمالُها مقيَّدةً بصفةٍ كعبارةِ: «العقيدةِ الإسلاميّةِ»، فقد عرَّفها بعضُهم بأنّها: «الإيمانُ الجازِمُ باللهِ، وما يجب له في أُلُوهيَّتِه، ورُبُوبِيَّتِه، وأسمائِه وصفاتِه، والإيمانِ بملائكتِه، وكتبِه، ورسلِه، واليومِ الآخرِ، والقَدَرِ خيرِه وشرِّه، وبكلِّ ما جاءت به النّصوصُ الصّحيحةُ من أصولِ الدِّينِ، وأمورِ الغيبِ وأخبارِه، وما أجمع عليه السّلفُ الصّالِحُ، والتّسليمُ لله تعالى في الحُكمِ والأمرِ، والقدَرِ والشّرعِ، ولرسولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بالطّاعةِ والتّحكيمِ والاتّباعِ».
فالعقيدةُ في الإسلامِ تقابلُ الشّريعةَ؛ لأنَّ المرادَ بالشّريعةِ التّكاليفُ العَمليّةُ التي جاء بها الإسلامُ في العباداتِ والمعاملاتِ، بينما العقيدةُ هي أمورٌ عِلميّةٌ يجب على المسلم أن يعتقدَها في قلبِه؛ لأنّ الله تعالى أخبره بها بطريقِ وحيه إلى رسولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، والصّلةُ بينهما وثيقةٌ جدًّا، يجتمعان في الإيمانِ عند الانفرادِ؛ لأنَّ له شِقَّين: عقيدةٌ نقيّةٌ راسخةٌ تستكنُّ في القلبِ، وشِقٌّ آخَرُ يتمثَّل في العمل الذي يظهر على الجوارحِ، فكان الإيمانُ عقيدةً يرضى بها قلبُ صاحبِها، ويعلن عنها بلسانِه، ويرتضي المنهجَ الذي جعله اللهُ متَّصلاً بها، لذلك جاء من أقوال علماء السّلفِ في الإيمان: أنَّه اعتقادٌ بالجَنانِ، ونُطقٌ باللِّسانِ وعملٌ بالأركانِ.
هذا، والاعتمادُ على صحَّةِ هذه العقيدةِ لا يكون إلاَّ وَفق منهجٍ سليمٍ، قائمٍ على صحيحِ المنقولِ الثّابتِ بالكتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ الواردةِ عن الصّحابةِ رضي الله عنهم، والتّابعين من أئمَّةِ الهدى ومصابيحِ الدُّجَى الذين سلكوا طريقَهم، كما قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»(١).
فكان هذا الصّراطُ القويمُ المتمثِّلُ في طلبِ العلمِ بالمطالبِ الإلهيّةِ عن طريق الاستدلالِ بالآياتِ القرآنيّةِ والأحاديثِ النّبويّةِ، والاسترشادِ بفهمِ الصّحابةِ والتّابعين ومَن التزم بنهجِهم من العلماءِ، من أعظمِ ما يتميَّز به أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ عن أهلِ الأهواءِ والفُرقةِ.
ومن مميِّزاتِهم الكبرى: عدمُ معارضتِهم الوحيَ بعقلٍ أو رأيٍ أو قياسٍ وتقديمُهم الشّرعَ على العقلِ، مع أنَّ العقلَ الصّحيحَ لا يُعارض النّصَّ الصّحيح، بل هو موافقٌ له، ورفضُهم التّأويل الكلاميَّ للنّصوصِ الشّرعيّةِ بأنواعِ المجازاتِ، واتّخاذُهم الكتابَ والسّنَّةَ ميزانًا للقَبولِ والرّفضِ.
تلك هي أهمُّ قواعدِ المنهجِ السّلفيّ وخصائصِه الكبرى، التي لم يتَّصفْ بها أحدٌ سواهم؛ ذلك لأنَّ مصدرَ التّلقِّي عند مخالفيهم من أهلِ الأهواءِ والبدعِ هو العقلُ الذي أفسدتْه تُرَّهاتُ الفلاسفةِ، وخُزَعْبَلاتُ المناطقةِ، وتَمَحُّلاَت المتكلِّمين، فأفرطوا في تحكيمِ العقلِ وردِّ النّصوصِ ومعارضتِها به، وغيرِ ذلك مِمّا هو معلومٌ من مذهبِ الخلَفِ.
هذا؛ وقد كان من نتائجِ المنهجِ القويمِ اتّحادُ كلمةِ أهلِ السّنّةِ والجماعةِ بتوحيدِ ربِّهم، واجتماعُهم باتّباعِ نبيِّهم صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، واتّفاقُهم في مسائلِ الاعتقادِ وأبوابِه، قولاً واحدًا، لا يختلف مهما تباعدتْ بهم الأمكنةُ، واختلفت بهم الأزمنةُ.
فالمنهجُ السّليمُ يؤدِّي إلى الاعتقادِ السّليمِ، فيُستدلُّ بصحَّةِ العقيدةِ على سلامةِ المنهجِ، فهو من الاستدلالِ بالمعلولِ على العلَّةِ، كالاستدلالِ بوجودِ أثرِ الشّيءِ على وجودِه، وبعدمِه على عدمِه، فهو من قياسِ الدّلالة عند الأصوليِّين.
وقد تكون العقيدةُ سليمةً في بعض جوانبِها، فاسدةً في بعضِها الآخَرِ، فيُستدلُّ على جانبِها الصّحيحِ بصِحَّةِ المنهجِ فيه، وعلى الفاسدِ بفسادِ منهجِه فيه، مثل أن يعتقدَ عقيدةَ السّلفِ في الأسماءِ والصّفاتِ، ويعتقدَ مسائلَ الخروجِ والحزبيّةِ وغيرِهما.
فيستدلُّ على صحّةِ عقيدتِه في الأسماءِ والصّفاتِ بصحّةِ المنهجِ فيها المتمثِّلِ في الاستدلالِ بالكتابِ والسّنَّةِ، والاسترشادِ بفهمِ السّلفِ الصّالحِ، كما يُستدلُّ على فسادِ عقيدتِه في الجانبِ الآخَرِ بتركه المنهج السلفيّ فيه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٦ جمادى الأولى ١٤٢٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٢١ مـاي ٢٠٠٨م
(١) أخرجه البخاريّ في «صحيحه» كتاب الشّهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد: (٢٥٠٩)، ومسلم في «صحيحه» كتاب «فضائل الصحابة»، باب فضل الصحابة ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين...: (٦٤٧٢)، والتّرمذيّ في «سننه» كتاب «المناقب»، باب ما جاء في فضل من رأى النّبيّ وصحبه: (٣٨٥٩)، وابن حبّان في «صحيحه»: (٧٢٢٨)، وأحمد في «مسنده»: (٥٣٨٣)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق