بسم الله الرحمن الرحيم
الــذَّنْبُ الـذِي لَا يُغْفَــرُ !!!فإنه من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة أن الذنب مهما عظُم فإن الله تبارك وتعالى يغفره لمن تاب منه توبة نصوحا، قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الزمر 53؛
وهذه في حق التائبين قال الإمام المفسر السعدي رحمه الله (واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعا من الشرك والقتل والزنا والربا وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار، ولكن لمغفرته ورحمته ونيلها أسباب إن لم يأت بها العبد فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة، أعظمها وأجلها بل لا سبب لها غيره الإنابة إلى الله تعالى بالتوبة النصوح والدعاء والتضرع والتأله والتعبد، فهلُمَّ إلى هذا السبب الأجل والطريق الأعظم) تيسير الكريم الرحمان ص 694.
وأما غير التائبين ومن مات على ذنب ما فإنه تحت مشيئة الله تعالى خلا الشرك، قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء 116.
وهذه في حق غير التائبين، قال الإمام أبو عثمان الصابوني (ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوبا كثيرة صغائر كانت أو كبائر، فإنه لا يكفر بها وإن خرج من الدنيا غير تائب منها ومات على التوحيد والإخلاص، فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفى عنه وأدخله الجنة يوم القيامة سالما غانما غير مبتلى بالنار ولا معاقب على ما ارتكبه واكتسبه ثم استصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عاقبه وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها، بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار) عقيدة السلف أصحاب الحديث 71-72.
إذا تبين لك هذا وجب عليك أيها الناصح لنفسك أن تسعى في فكاكها من هذا الذنب العظيم؛ أعظم الظلم {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لقمان 13.
قال السعدي رحمه الله : (ووجه كونه عظيما أن لا أفظع وأبشع ممن سوَّى المخلوق من تراب بمالك الرقاب وسوى الذي لا يملك من الأمر شيئا بمن له الأمر كله، وسوَّى الناقص الفقير من جميع الوجوه بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه، وسوَّى من لم ينعم بمثقال ذرة من النعم بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ودنياهم وأخراهم وقلوبهم وأبدانهم إلا منه، ولا يصرف السوء إلا هو، فهل أعظم من هذا الظلم شيء) تيسير الكريم الرحمان ص 618،
ولا سبيل إلى الفكاك والخلاص من هذا الظلم العظيم إلا بالله وصدق اللجوء إليه والفرار إليه؛
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في رسالته العظيمة؛ الرسالة التابوكية ص 17-18 : (فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له، وهذا بعينه معنى الفرار إليه، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} الذاريات:50، والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه، وتحت "من" و"إلى" في هذا سر عظيم من أسرار التوحيد، فإن الفرار إليه سبحانه يتضمن إفراده بالطلب والعبودية ولوازمها، فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.).
ثم بمعرفة الشرك ماهيته وأنواعه وعواقبه الوخيمة في العاجلة والآجلة وقد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم حين أجاب السائل عن الذنب الأعظم فقال «أن تجعل لله ندا وهو خلقك»
رواه البخاري ومسلم.
وقد خافه أبو الأنبياء وإمام الحنفاء عليه السلام حين دعا ربه {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} إبراهيم 35، قال بعض السلف (ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم).
والشرك أخطر آفات القلوب على الإطلاق إذ صاحبه خالد مخلَّد في النار، بعيد عن مغفرة العزيز الغفار {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}،
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان 1/60 : (والمقصود أن الشرك لما كان أظلم الظلم وأقبح القبائح وأنكر المنكرات كان أبغض الأشياء إلى الله تعالى وأكرهها له وأشدها مقتا لديه، ورتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه وأخبر أنه لا يغفره وأن أهله نجس ومنعهم من قربان حرمه وحرم ذكاتهم ومناكحتهم وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين).
هذا واعلم أن الشرك في توحيد الألوهية والعبادة على نوعين شرك أكبر وشرك أصغر:
فأما الأكبر قال عنه ابن القيم رحمه الله رحمة واسعة في مدارج السالكين 1/306 كلاما ماتعا نافعا: (وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين ولهذا قالوا لآلهتهم في النار {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَال مُبِين إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} الشعراء 97-98، مع إقرارهم بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال أكثر مشركي العالم، بل كلهم يحبون معبوداتهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله، وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين وإذا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوداتهم غضبوا غضب الليث إذا حرد (غضب)، وإذا انتُهكت حرمات الله لم يغضبوا لها بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه ولم تتنكر له قلوبهم، وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه ديدنا له إن قام وإن قعد وإن عثر وإن مرض، وإن استوحش فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه وهو لا ينكر ذلك ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه)
وقال في النونية:
والشرك فاحذره فشرك ظاهر --- ذا القسم ليس بقابل الغفران
وهو اتخاذ الند للرحمان --- أيا كان من حجر ومن إنسان
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه --- ويحبه كمحبة الديان
وأما الشرك الأصغر وهو شرك لا يخرج من الملة لكنه ينقص التوحيد وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر قاله الشيخ الفوزان في إعانة المستفيد: وهو بدوره قسمان:يدعوه أو يرجوه ثم يخافه --- ويحبه كمحبة الديان
شرك ظاهر على اللسان والجوارح وهو ألفاظ وأفعال، فالألفاظ مثل الحلف بغير الله فعن سعد بن عبيدة أن ابن عمر رضي الله عنه سمع رجلا يقول لا والكعبة، فقال ابن عمر لا يحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» رواه أبو داوود والترمذي وحسنه، ولذا قال ابن مسعود رضي الله عنه (لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا) أخرجه عبد الرزاق في المصنف والطبراني في الكبير وهو في صحيح الترغيب والترهيب للألباني 2953.
وقول: "ما شاء الله وشئت"، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده» رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد.
وقول: "لولا الله وفلان"، والصواب أن يقال ما شاء الله ثم فلان ولولا الله ثم فلان لأن ثم تفيد الترتيب مع التراخي وتجعل مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ} التكوير 29، أفاده الشيخ الفوزان في إعانة المستفيد ص-514.
وأما الأفعال مثل لبس الحلقة للتبرك والخيط لرفع البلاء أو دفعه ومثل تعليق التمائم خوفا من العين،
قال الشيخ الفوزان حفظه الله: (فإذا اعتقد أن هذه أسباب لرفع البلاء أو دفعه فهذا شرك أصغر لأن الله لم يجعل هذه أسبابا وأما أن اعتقد أنها تدفع أو ترفع البلاء بنفسها فهذا شرك أكبر لأنه تعلق بغير الله تعالى)، إعانة المستفيد ص 35.
والقسم الثاني من قسمي الشرك الأصغر؛ الشرك الخفي، وهو الشرك في الإرادات والنيات كالرياء والسمعة كأن يعمل عملا مما يتقرب به إلى الله يريد به ثناء الناس عليه، كتحسين الصلاة، وإظهار الصدقة من أجل الثناء والمدح والرياء إذا خالط العمل أبطله، وهو أخوف ما خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، فعن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله، قال الرياء» رواه أحمد وهو صحيح.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)»، وعند البخاري عن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به»
قال الإمام ابن القيم في الجواب الكافي ص-201 (وأما الشرك في الإرادات والنيات فذلك البحر الذي لا ساحل له وقل من ينجو منه فمن أراد بعمله غير وجه الله ونوى شيئا غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته والإخلاص أن يخلص لله في أفعاله وأقواله وإرادته ونيته وهذه هي الحنيفية ملة ابراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم ولا يقبل من أحد غيرها وهي حقيقة الإسلام كما قال تعالى{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} آل عمران-85، وهي ملة إبراهيم عليه السلام التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء)
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
كتبه نبيل باهي
يوم الجمعة 09 جمادى الأول لعام 1436 هـ
التصفية والتربية الجزائرية
يوم الجمعة 09 جمادى الأول لعام 1436 هـ
التصفية والتربية الجزائرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق