عمر الإنسان قصير والليالي والأيام تسير تذهب الدنيا بما فيها جوعٌ وشِبع، أمنٌ وخوف، بكاءٌ وضحك، همٌّ وسرور، اجتماعٌ وافتراق؛ (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى)[النجم:43].
ثمانيةٌ تجري على المرء دائمًا ولا بُد أن المرء يلقى الثمانية: سرورٌ وحزنٌ، واجتماعٌ وفرقةٌ، ويُسرٌ وعسرٌ، ثم سُقمٌ وعافية، هكذا الحياة مهما امتدت قصرت، ومهما طالت نقصت، النَّفس من أنفاسك يُقربك إلى دارك وينقلك من دارك، نعم من دار الدنيا إلى الدار الأخرى، جعل الله في الليل والنهار عِبرًا، وفي المساء والصباح عجبًا، جعل الله في تقلب الأيام ومرور الشهور والأعوام تذكرةً وعظةً للأنام؛ (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ)[النور:44].
الأيام تطوي الأعمار والأعوام، وتُنهي الآجال، حتى يأتي الحُمام؛ فالعُمر محدود، والزمان معدود.
ألا إنما دنياك ساعة *** فاجعل الساعة طاعة
واحذر التقصير فيها *** واجتهد مقدار ساعة
من عرف حياته عرف وقته، ومن عرف وقته صان حياته؛ الأعمار مهما طالت لا بُد من الفناء، والدنيا مهما ازدانت فمآلها إلى الزوال؛ فهي كأنما دخل المرء من بابٍ وخرج من آخر.
دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائقٌ وثواني
انظروا -بارك الله فيكم- سرعة مرور الأيام كانت الجمعة في الأسبوع تُنتَظر على أحر من الجمر، ثم الشهر بعيدٌ، ثم السَّنة أبعد، فأصبح الشهر كلمحة بصر، والسَّنة كإحراق السعفة، الأسبوع كاليوم، والشهر كالأسبوع يفتح المرء صباحه، وفي لحظةٍ يختم مساءه، لا تنتهي أشغاله ولا يتفرغ باله.
قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: “إنما أنت أيام، كلما مضى منك يوم مضى بعضك“.
وقال بعض الحُكماء: “كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره! كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله وحياته إلى موته!”
سبحان الله! ما أسرع الليالي! تمضي الأعوام تلو الأعوام وكأنها أضغاث أحلام.
أَحْلَامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ *** إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لَا يُخْدَعُ
الليل ماضٍ والنهار جارٍ ولا يبقى للإنسان إلا عمله الباقي.
أليسَ من الخـسرانِ أنَّ لياليًا *** تمرُّ بلا نَفع وتُحسبُ من عمري؟
أحبتي في الله، إخوتي في الله: إن الإنسان يفرح بمرور الأيام وتمام الأعوام؛ لينال مُرتبًا أو رزقًا أو عطاءً أو وفاءً أو قسطًا، يفرح لعلاوةٍ قادمة أو أجرةٍ حالة أو بيعٍ أو شراء أو غائبٍ يُنتظر أو صغيرٍ يكبر، يفرح وحُق له أن يفرح فيما أباح الله له؛ لكن السؤال هو أن فرحه في الحقيقة فرحٌ بانتهاء عمره، وانقضاء أيامه.
نجد سرورًا بالهلال إذا بدا *** وما هو إلا السيف للحد يُنـتضى
إذا قيل: تم الشهر، فهو كنايةٌ *** وترجمةٌ عن شطر عمرٍ قد انتهى
نفرح بأيامنا، ونُسَر في شهورنا، وتذهب أعمارنا في أعوامنا وهي تُقدمنا إلى آجالنا، وتُقربنا إلى قبورنا، فرحماك.. رحماك.. رحماك يا مولانا.
إنَّا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مـضى يُدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا *** فإنما الربح والخـسران في العمل
عباد الله: أصبحت أسابيعنا كأيامنا، وشهورنا كأسابيعنا، وأعوامنا كشهورنا، نفتح الأعوام كأنها أيام.
إن الذي تمضي به الأيام كالذي يعبر الأسفار، ويقطع الفيافي والقفار، ويمـشي الكيلوات والأمتار يقرب من مراده، ويبتعد عن دياره، يقرب من أحبابه ويبتعد عن أوطانه ففي كل لحظة تقرب للآخرة درجة، والليل والنهار يقربان البعيد ويبليان الجديد، يُشيبان الصغار، ويُهرمان الكبار، يُفنيان الأعمار ويطويان الليل والنهار.
أَيَا وَيْحَ نَفْـسِي مِنْ نَهَارٍ يَقُودُهَا *** إِلَى عَسْكَرِ الْمَوْتَى وَلَيْلٍ يَذُودُهَا
السعيد -عباد الله- من بادر زمانه وحفظ أوقاته واجتهد في عملٍ يُقربه إلى ربه، فمن عمل صالحًا فلنفسه.
السعيد من تاب وأناب، واستعد ليوم الحساب، السعيد من سعى لدار السلام، واستعد لآخرته بالأعمال الصالحة وحُسن الختام.
أيها المسلمون: نحن مسافرون، ونحن مُقيمون، نعم مسافرون، ونحن في ديارنا مسافرون، ونحن بين أهلينا مسافرون، ونحن بين أولادنا، سفرٌ إلى الآخرة وسوف تستقل إلى نهايةٍ بلا عودة، فمنذ أن خرجنا من بطون أمهاتنا فنحن مسافرون (وَكُنْ في الدُّنْيا كأَنَّكَ غريبٌ، أَوْ عَابِرُ سبيلٍ) وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك، ومن فراغك لشغلك، ومن شبابك لهرمك.
أيها الإخوة الفضلاء: تمر الأسابيع وتمضي الشهور وتذهب الأعوام، تطلع شموسٌ وأقمارٌ وتغيب، وتُزهر نجومٌ وتُنير، وتأفل وتغور، فإذا العام قد انقضى وعامٌّ جديدٌ يدخل علينا.
نحن سائرون وإلى قبورنا قادمون، وعن أوطاننا ولذاتنا وأولادنا ذاهبون، وفي العمل الصالح فليتنافس المتنافسون.
قال الفضيل بن عياض لرجلٍ: “كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: أنت منذ ستين سنةً تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)[البقرة:156]؛ فقال الفضيل: تعرف تفسيرها؟ قال: لا، قال: من عرف أنه لله عبدٌ، وأنه إليه راجعٌ فليعلم أنه موقوف، ومَن علِم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول، ومن علِم أنه مسئول فليُعد للسؤال الجواب، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة تُحسن فيما بقي يُغفر لك ما مضـى، فإن أسأت فيما بقي أُخذِت بما مضى وما بقي”.
عباد الله: زرع الأعمار قد دنا للحصاد، ما هذا التباعد! ومُدد الأيام قد قاربت للنفاذ.
تَزَوَّدْ لِلَّذِي لَابُدَّ مِنْهُ *** فَإِنَّ المَوْتَ مِيقَاتُ العِبَادِ
أَيسـرك أَنْ تَكُونَ رَفِيقَ قَوْمٍ؟ *** هُمْ زَادٌ، وَأَنْتَ بِغَيْرِ زَادِ
(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة:197].
نسعى لراحاتنا، وسعة بيوتنا، وجمال مركوبنا، وكثرة أموالنا، ونحن عن قريبٍ سوف نفارق حياتنا ولا خيار لنا.
أَمَّا بُيوتُكَ في الدُّنْيَا فَوَاسِعَةٌ *** فَلَيْتَ قَبْرَكَ بَعد الموتِ يَتْسِعُ
أيها المسلمون: سرعة مرور الأيام عبرةٌ وعظةٌ لذوي العقول والأحلام، وأهل الذكرى والأفهام، فقدِّم لما تُقدم عليه، والمرء لا يدري ما بقاؤه، وما هي أيامه، وما يدري ما يعرض له في حياته وتقلباته (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)[لقمان:34]؛ من موتٍ أو عائقٍ أو مانعٍ أو حائلٍ، فالكيِّس من حاسب نفسه وعمل لِما بعد الموت، فقد تتغير الحال وداوم الحال من المُحال، وقد تنقلب الأمور، وينعكس ما في الصدور، فاجتهد لِما يؤنِّسك في القبور.
ليُفكر كل واحدٍ منَّا ماذا في عمرٍ أمضاه، وشبابه أبلاه؟ ماذا في عامٍ خلَّفه، ويومٍ أسلفه؟
في سرعة مرور الأيامن وتعاقب الأعوام تذكيرٌ للإنسان بالاستعداد والانتقال؛ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)[الفرقان:62].
عباد الله: انتبهوا وبادروا بالأعمال الصالحات وادَّكروا؛ فإن أعماركم سريعةً الانصرام، والأيام تمر بكم مر السحاب والغمام، والدنيا إذا تأملها اللبيب رآها كالسراب، وما فوق التراب تراب.
أعوامٌ سريعة المرور، وشهورُ تقتفي إثر شهور، فعلام الغرور؟! (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)[النساء:77].
سَلامٌ عَلَى دَارِ الغُرُورِ فإِنَّهَا *** مُنَغَّصَةٌ لِذَاتُهَا بِالفَجَائِعِ
فإِنَّ جَمَعَتْ بَيْنَ المُحِبيْنَ سَاعَةً *** فَعَمَّا قَلِيْلٍ أَرْدَفَتْ بِالموانِعِ
أيها المسلمون: لقد ذهب أكثر عامكم وفات، وتقضَّت أيامه ولياليه وأنتم منهمكون في اللذات، سادرون غافلون عن هادم اللذات، فحافظوا على أعماركم بحفظ أوقاتكم، واعمروها بطاعة مولاكم.
إِذَا كَانَ رَأسَ المَالِ عُمْرُكَ فَاحْتَرِزْ *** عَلَيْهِ مِنَ الإنفاق فِي غَيْرِ وَاجِبِ
تأملوا -عباد الله- سرعة مرور الشهور والأعوام، بالأمس الإنسان أعزب، ثم صار زوجًا، ثم أبًا، ثم جَدًّا، ثم له أحفادٍ وأسباط، لاسيما في زمننا مع كثرة الغفلة، وراحة البال، والأمن على العيال والمال، فتجري الأيام وتتقلب الأحوال، ونحن في غفلة بالٍ وسوء حال.
إخوة العقيدة والملة: في صحيح السُّنَّة “في آخر الزمان تكون السنة كالشهر، والشهر كالأسبوع، والأسبوع كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كإحراق السعفة بالنار“.
انت كأوراق التقويم تبدو لك في أول العام كميةً هائلة، وأوراقًا متتالية، ثم تنقص وتنقص، حتى تصير كالشن البالية، فهل تستطيع أن تُرجع ورقةً، والله لو دفعت الملايين ما استطعت أن تُرجع ورقةً من السنين، فأنت بين ثلاثة أيام: يومٌ مضـى وانقضـى، ويومٌ قادم، ويومٌ أنت فيه فاجتهد فيه، فهو كنزك وتجارتك.
يَا غَافِلَ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ الْمَنِيَّاتِ *** عَمَّا قَلِيلٍ سَتُثْوَى بَيْنَ أَمْوَاتِ
فَاذْكُرِ مَحِلَّكَ مِنْ قَبْلِ الْحُلُولِ بِهِ *** وَتُبْ إِلَى اللَّهِ مِنْ لَهْوٍ وَلَذَّاتِ
إِنَّ الْحِمَامَ لَهُ وَقْتٌ إِلَى أَجَلٍ **** فَاذْكُرْ مَصَائِبَ أَيَّامٍ وَسَاعَاتِ
لا تَطْمَئِنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا *** قَدْ آنَ لِلْمَوْتِ يَا ذَا اللُّبّ أَنْ يَأْتِي
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الشيخ : خالد بن علي أبا الخيل
ملتقى الخطباء
ثمانيةٌ تجري على المرء دائمًا ولا بُد أن المرء يلقى الثمانية: سرورٌ وحزنٌ، واجتماعٌ وفرقةٌ، ويُسرٌ وعسرٌ، ثم سُقمٌ وعافية، هكذا الحياة مهما امتدت قصرت، ومهما طالت نقصت، النَّفس من أنفاسك يُقربك إلى دارك وينقلك من دارك، نعم من دار الدنيا إلى الدار الأخرى، جعل الله في الليل والنهار عِبرًا، وفي المساء والصباح عجبًا، جعل الله في تقلب الأيام ومرور الشهور والأعوام تذكرةً وعظةً للأنام؛ (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ)[النور:44].
الأيام تطوي الأعمار والأعوام، وتُنهي الآجال، حتى يأتي الحُمام؛ فالعُمر محدود، والزمان معدود.
ألا إنما دنياك ساعة *** فاجعل الساعة طاعة
واحذر التقصير فيها *** واجتهد مقدار ساعة
من عرف حياته عرف وقته، ومن عرف وقته صان حياته؛ الأعمار مهما طالت لا بُد من الفناء، والدنيا مهما ازدانت فمآلها إلى الزوال؛ فهي كأنما دخل المرء من بابٍ وخرج من آخر.
دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائقٌ وثواني
انظروا -بارك الله فيكم- سرعة مرور الأيام كانت الجمعة في الأسبوع تُنتَظر على أحر من الجمر، ثم الشهر بعيدٌ، ثم السَّنة أبعد، فأصبح الشهر كلمحة بصر، والسَّنة كإحراق السعفة، الأسبوع كاليوم، والشهر كالأسبوع يفتح المرء صباحه، وفي لحظةٍ يختم مساءه، لا تنتهي أشغاله ولا يتفرغ باله.
قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: “إنما أنت أيام، كلما مضى منك يوم مضى بعضك“.
وقال بعض الحُكماء: “كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره! كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله وحياته إلى موته!”
سبحان الله! ما أسرع الليالي! تمضي الأعوام تلو الأعوام وكأنها أضغاث أحلام.
أَحْلَامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ *** إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لَا يُخْدَعُ
الليل ماضٍ والنهار جارٍ ولا يبقى للإنسان إلا عمله الباقي.
أليسَ من الخـسرانِ أنَّ لياليًا *** تمرُّ بلا نَفع وتُحسبُ من عمري؟
أحبتي في الله، إخوتي في الله: إن الإنسان يفرح بمرور الأيام وتمام الأعوام؛ لينال مُرتبًا أو رزقًا أو عطاءً أو وفاءً أو قسطًا، يفرح لعلاوةٍ قادمة أو أجرةٍ حالة أو بيعٍ أو شراء أو غائبٍ يُنتظر أو صغيرٍ يكبر، يفرح وحُق له أن يفرح فيما أباح الله له؛ لكن السؤال هو أن فرحه في الحقيقة فرحٌ بانتهاء عمره، وانقضاء أيامه.
نجد سرورًا بالهلال إذا بدا *** وما هو إلا السيف للحد يُنـتضى
إذا قيل: تم الشهر، فهو كنايةٌ *** وترجمةٌ عن شطر عمرٍ قد انتهى
نفرح بأيامنا، ونُسَر في شهورنا، وتذهب أعمارنا في أعوامنا وهي تُقدمنا إلى آجالنا، وتُقربنا إلى قبورنا، فرحماك.. رحماك.. رحماك يا مولانا.
إنَّا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مـضى يُدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا *** فإنما الربح والخـسران في العمل
عباد الله: أصبحت أسابيعنا كأيامنا، وشهورنا كأسابيعنا، وأعوامنا كشهورنا، نفتح الأعوام كأنها أيام.
إن الذي تمضي به الأيام كالذي يعبر الأسفار، ويقطع الفيافي والقفار، ويمـشي الكيلوات والأمتار يقرب من مراده، ويبتعد عن دياره، يقرب من أحبابه ويبتعد عن أوطانه ففي كل لحظة تقرب للآخرة درجة، والليل والنهار يقربان البعيد ويبليان الجديد، يُشيبان الصغار، ويُهرمان الكبار، يُفنيان الأعمار ويطويان الليل والنهار.
أَيَا وَيْحَ نَفْـسِي مِنْ نَهَارٍ يَقُودُهَا *** إِلَى عَسْكَرِ الْمَوْتَى وَلَيْلٍ يَذُودُهَا
السعيد -عباد الله- من بادر زمانه وحفظ أوقاته واجتهد في عملٍ يُقربه إلى ربه، فمن عمل صالحًا فلنفسه.
السعيد من تاب وأناب، واستعد ليوم الحساب، السعيد من سعى لدار السلام، واستعد لآخرته بالأعمال الصالحة وحُسن الختام.
أيها المسلمون: نحن مسافرون، ونحن مُقيمون، نعم مسافرون، ونحن في ديارنا مسافرون، ونحن بين أهلينا مسافرون، ونحن بين أولادنا، سفرٌ إلى الآخرة وسوف تستقل إلى نهايةٍ بلا عودة، فمنذ أن خرجنا من بطون أمهاتنا فنحن مسافرون (وَكُنْ في الدُّنْيا كأَنَّكَ غريبٌ، أَوْ عَابِرُ سبيلٍ) وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك، ومن فراغك لشغلك، ومن شبابك لهرمك.
أيها الإخوة الفضلاء: تمر الأسابيع وتمضي الشهور وتذهب الأعوام، تطلع شموسٌ وأقمارٌ وتغيب، وتُزهر نجومٌ وتُنير، وتأفل وتغور، فإذا العام قد انقضى وعامٌّ جديدٌ يدخل علينا.
نحن سائرون وإلى قبورنا قادمون، وعن أوطاننا ولذاتنا وأولادنا ذاهبون، وفي العمل الصالح فليتنافس المتنافسون.
قال الفضيل بن عياض لرجلٍ: “كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: أنت منذ ستين سنةً تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)[البقرة:156]؛ فقال الفضيل: تعرف تفسيرها؟ قال: لا، قال: من عرف أنه لله عبدٌ، وأنه إليه راجعٌ فليعلم أنه موقوف، ومَن علِم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول، ومن علِم أنه مسئول فليُعد للسؤال الجواب، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة تُحسن فيما بقي يُغفر لك ما مضـى، فإن أسأت فيما بقي أُخذِت بما مضى وما بقي”.
عباد الله: زرع الأعمار قد دنا للحصاد، ما هذا التباعد! ومُدد الأيام قد قاربت للنفاذ.
تَزَوَّدْ لِلَّذِي لَابُدَّ مِنْهُ *** فَإِنَّ المَوْتَ مِيقَاتُ العِبَادِ
أَيسـرك أَنْ تَكُونَ رَفِيقَ قَوْمٍ؟ *** هُمْ زَادٌ، وَأَنْتَ بِغَيْرِ زَادِ
(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة:197].
نسعى لراحاتنا، وسعة بيوتنا، وجمال مركوبنا، وكثرة أموالنا، ونحن عن قريبٍ سوف نفارق حياتنا ولا خيار لنا.
أَمَّا بُيوتُكَ في الدُّنْيَا فَوَاسِعَةٌ *** فَلَيْتَ قَبْرَكَ بَعد الموتِ يَتْسِعُ
أيها المسلمون: سرعة مرور الأيام عبرةٌ وعظةٌ لذوي العقول والأحلام، وأهل الذكرى والأفهام، فقدِّم لما تُقدم عليه، والمرء لا يدري ما بقاؤه، وما هي أيامه، وما يدري ما يعرض له في حياته وتقلباته (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)[لقمان:34]؛ من موتٍ أو عائقٍ أو مانعٍ أو حائلٍ، فالكيِّس من حاسب نفسه وعمل لِما بعد الموت، فقد تتغير الحال وداوم الحال من المُحال، وقد تنقلب الأمور، وينعكس ما في الصدور، فاجتهد لِما يؤنِّسك في القبور.
ليُفكر كل واحدٍ منَّا ماذا في عمرٍ أمضاه، وشبابه أبلاه؟ ماذا في عامٍ خلَّفه، ويومٍ أسلفه؟
في سرعة مرور الأيامن وتعاقب الأعوام تذكيرٌ للإنسان بالاستعداد والانتقال؛ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)[الفرقان:62].
عباد الله: انتبهوا وبادروا بالأعمال الصالحات وادَّكروا؛ فإن أعماركم سريعةً الانصرام، والأيام تمر بكم مر السحاب والغمام، والدنيا إذا تأملها اللبيب رآها كالسراب، وما فوق التراب تراب.
أعوامٌ سريعة المرور، وشهورُ تقتفي إثر شهور، فعلام الغرور؟! (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)[النساء:77].
سَلامٌ عَلَى دَارِ الغُرُورِ فإِنَّهَا *** مُنَغَّصَةٌ لِذَاتُهَا بِالفَجَائِعِ
فإِنَّ جَمَعَتْ بَيْنَ المُحِبيْنَ سَاعَةً *** فَعَمَّا قَلِيْلٍ أَرْدَفَتْ بِالموانِعِ
أيها المسلمون: لقد ذهب أكثر عامكم وفات، وتقضَّت أيامه ولياليه وأنتم منهمكون في اللذات، سادرون غافلون عن هادم اللذات، فحافظوا على أعماركم بحفظ أوقاتكم، واعمروها بطاعة مولاكم.
إِذَا كَانَ رَأسَ المَالِ عُمْرُكَ فَاحْتَرِزْ *** عَلَيْهِ مِنَ الإنفاق فِي غَيْرِ وَاجِبِ
تأملوا -عباد الله- سرعة مرور الشهور والأعوام، بالأمس الإنسان أعزب، ثم صار زوجًا، ثم أبًا، ثم جَدًّا، ثم له أحفادٍ وأسباط، لاسيما في زمننا مع كثرة الغفلة، وراحة البال، والأمن على العيال والمال، فتجري الأيام وتتقلب الأحوال، ونحن في غفلة بالٍ وسوء حال.
إخوة العقيدة والملة: في صحيح السُّنَّة “في آخر الزمان تكون السنة كالشهر، والشهر كالأسبوع، والأسبوع كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كإحراق السعفة بالنار“.
انت كأوراق التقويم تبدو لك في أول العام كميةً هائلة، وأوراقًا متتالية، ثم تنقص وتنقص، حتى تصير كالشن البالية، فهل تستطيع أن تُرجع ورقةً، والله لو دفعت الملايين ما استطعت أن تُرجع ورقةً من السنين، فأنت بين ثلاثة أيام: يومٌ مضـى وانقضـى، ويومٌ قادم، ويومٌ أنت فيه فاجتهد فيه، فهو كنزك وتجارتك.
يَا غَافِلَ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ الْمَنِيَّاتِ *** عَمَّا قَلِيلٍ سَتُثْوَى بَيْنَ أَمْوَاتِ
فَاذْكُرِ مَحِلَّكَ مِنْ قَبْلِ الْحُلُولِ بِهِ *** وَتُبْ إِلَى اللَّهِ مِنْ لَهْوٍ وَلَذَّاتِ
إِنَّ الْحِمَامَ لَهُ وَقْتٌ إِلَى أَجَلٍ **** فَاذْكُرْ مَصَائِبَ أَيَّامٍ وَسَاعَاتِ
لا تَطْمَئِنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا *** قَدْ آنَ لِلْمَوْتِ يَا ذَا اللُّبّ أَنْ يَأْتِي
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الشيخ : خالد بن علي أبا الخيل
ملتقى الخطباء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق