السلام عليكم،
كثيرة هي الفرائض والواجبات التي أضاعها بعض المسلمين في هذا الزّمان، ما كان الأوّلون يتصوّرون أبدا أنّ مسلما يمكن أن يستهين بها ويضيّعها، وكثيرة هي المحرّمات التي اقترفها بعض المسلمين وصارت من يومياتهم وعاداتهم التي يمارسونها جهارا وإصرارا، ما كان الأوائل يجرؤون على الاقتراب منها.. ضعفت محبّة الله في القلوب وأصبحت ذرياتنا وزوجاتنا وأموالنا وتجاراتنا ومساكننا وسياراتنا أحبّ إلينا من الله ورسوله ودينه! وأضحى كثير منّا يمُنّون على دين الله بفضول الفضول من أوقاتهم وجهودهم؛ لا يصلّي الواحد منهم حتّى يتفرّغ من كلّ المشاغل، ولا يتصدّق بالقليل النّادر حتّى يفضُل المال عن كلّ الحاجات والكماليات، ولا يقرأ القرآن حتّى تملّ نفسه من برامج التلفاز ومنشورات مواقع التواصل وجلسات المقاهي وجولات الأسواق.
الأكثر ألما من كلّ ما سبق أنّ ضعف محبّة الله في القلوب أدّى بدوره إلى ارتحال خشية الله منها.. قلّ الخوف من الله في قلوب بعضنا وانعدم من قلوب مسلمين يشهدون الشهادتين ويؤمنون بالبعث والنشور والحساب.. في أيامنا هذه، لو قلت لأحد من المسلمين: اتّق الله، أو خفِ الله، لانفجر في وجهك منكرا وقال لك: “هل رأيتني أحرق الجوامع أو أقتل الضّفادع؟”! مع أنّه يرى من نفسه كيف يضيّع الصّلاة ويهجر القرآن وتسرع نفسه إلى المحرّمات وإلى الظّلم والفساد.
ألا تدلّ هذه الأحوال على أنّنا لا نخاف الله؟!
كيف ينحدر عبد ينتسب إلى الإسلام إلى درك سبّ خالق الأرض والسّماوات بأقذع الكلمات؟ إنّه خواء القلب من خوف الله.. كيف تبلغ الجرأة بعبد مسلم إلى النّوم عن صلاة الفجر وإلى جمع الصّلوات في آخر اليوم، بل قد يصل به الأمر إلى ترك الصّلاة بالكلية؟ إنّه قحط القلب من خوف الله.. ما الذي يحمل عبدا مسلما يؤمن بالله واليوم الآخر على المماطلة والتثاقل في إخراج الزّكاة، وربّما يصل به الأمر إلى حدّ منعها وحتى جحدها، فإذا سئل عنها قال: أنا أدفع الضّرائب، ثمّ هذا المال قد تعبت في جمعه وتحصيله فلا يصحّ أن أضعه في يد غيري بكلّ سهولة؟! ما الذي يجعل عبدا مسلما عنده من المال ما يزيد على حاجاته الضرورية، يمتنع عن حجّ بيت الله الحرام ويجد لنفسه من الأعذار والمبرّرات ما هو أوهى من خيوط العنكبوت؟ إنّه ضعف الخوف من الله.
لماذا يظلم الرّجل زوجته فيسيء عشرتها ثمّ يخرجها من بيتها مع أوّل طلقة بعد أن يشبعها سبّا وضربا وركلا ويشرّدها مع أبنائها ويمنع عنها نفقتهم؟ إنّها قلة الخوف من الله.. وفي المقابل: لماذا تظلم الزوجة زوجها وتستطيل عليه بعملها ومالها فتذله وتهينه وربما تجره إلى المحاكم لتخلعه، وقد تمنعه حقه في رؤية أبنائه؟ إنّه فقر القلب إلى الخوف من الله.. لماذا يظلم بعض الأبناء والديهم فيعقّونهم ويتأففون منهم ويتجهّمون في وجوههم وربّما يهجرونهم لإرضاء زوجاتهم، بل قد يصل الأمر ببعض الأبناء إلى حدّ طرد والديهم من البيوت ورميهم في دور العجزة؟ وفي المقابل: لماذا يظلم بعض الآباء أبناءهم فيمنعون عنهم فضل مالهم ويسبّونهم ويصفونهم بكلّ قبيح ولا يعدلون بينهم؟ لماذا تخون بعض الفتيات ثقة والديهنّ، حينما تزعم الواحدة منهنّ أنّها متّجهة إلى الدّراسة أو إلى صديقة تراجع معها الدّروس، ثمّ تغيّر وجهتها لتخرج مع ذئب بشريّ يغريها كذبا بالزّواج لينال منها ما يريد ثمّ يرميها كما يرمي سيجارته؟
لماذا تصرّ مسلمة على الخروج من بيتها متبرّجة أو بحجاب متبرّج تلاعبت بطوله وعرضه، متعطّرة متزيّنة بالأصباغ متمايلة متبخترة؟ إنّه ضعف الخوف من الله؟ لماذا يصرّ رجل مسلم على النّظر إلى النّساء الغاديات والرائحات في الشّوارع والأسواق، ولماذا يصرّ على النّظر إلى المحرّمات في التلفاز وعلى شاشة الهاتف؟ إنّه ضعف الخوف من الله؟ كيف يجرؤ عبد مسلم على إحياء حفلة عرس في ساحة بيته يرفع فيها صوت الأغاني الهابطة السّاقطة؟ إنّه خواء القلب من خوف الله وخوف غضبه ونقمته؟ لماذا يصرّ بعض المسلمين على إيذاء جيرانهم وترويع الأطفال والشّيوخ في جنح الليل بإطلاق البارود في وقت النّوم؟ إنّها القلوب التي ما عادت تتحرّك بخشية الله وخوفه.
لماذا يصرّ بعض المسلمين على منع الميراث عن أخواتهم النّساء؟ لماذا يصرّ بعضٌ منّا على غصب الأراضي وتغيير مناراتها؟ لماذا يتوسّع بعضٌ منّا في فتح نوافذ وشرفات لمساكنهم في كلّ الاتّجاهات على حساب جيرانهم؟ لماذا يصرّ بعض الجيران على خنق جيرانهم ومنع الضّوء والهواء عنهم؟ إنّها القلوب التي أصبحت قاعا صفصفا من خشية الله.
لماذا يظلم بعض المسؤولين العمال الذين هم تحت مسؤوليتهم، فيكلّفونهم ما لا يطيقون وينقصون من حقوقهم؟ لماذا يصرّ بعض العمّال والموظّفين على أكل الحرام في أماكن عملهم بدخولهم متأخّرين وقضاء وقت العمل في القيل والقال وتصفّح الهواتف؟ ولماذا يصر بعض التجار على أكل الحرام في تجاراتهم، بتطفيفهم الكيل والميزان وغشّهم في النوعية والأثمان؟ لماذا يماطل بعض النّاس في سداد الديون وربّما يجحدونها، يقترض الواحد منهم ممن محلّ من المحلات حتّى يبلغ دينه أرقاما كبيرة، وفي كلّ مرة يعِد صاحب المحلّ بأنّه سيعطيه حقه عند دخول الراتب، ويدخل الراتب الأوّل والثّاني والثّالث، وتمرّ الأشهر والأعوام وهو يتهرب من صاحب الدين وربّما يعاديه، ويتعمد اقتناء حاجياته من محلّ آخر؟
لماذا يخون بعض المسؤولين أمانة المسؤولية، عندما يقربون اللّصوص والمفسدين ويبعدون النّاصحين المصلحين، ويحابون في المال العام فيمنحون الملايير لمعارفهم وأقاربهم ويمنعون عن باقي الناس الحدّ الأدنى الذي يحفظ إنسانيتهم؟
لماذا يبخل بعض الأساتذة والمعلّمين عن تلامذتهم بالشّرح الوافي للدّروس حتّى يضطرّوهم إلى أخذ دروس الدّعم؟ لماذا يرفع بعض الأطبّاء أسعار الفحص والكشف إلى أرقام ترجف لها القلوب وتندى لها الجيوب قبل الجباه؟ لماذا يغشّ بعض المقاولين في الطرق التي يُعهد إليهم بشقها وبالسكنات التي يعهد إليهم ببنائها؟ ولماذا يشهد بعض المهندسين زورا على صلاحية المشاريع ومطابقتها للمعايير لقاء رِشًا يأخذونها من المقاولين؟ لماذا يجرؤ بعض المسلمين على شهادة الزّور في المحاكم مقابل عرض من الدنيا قليل أو كثير؟…
ما فارق الخوفُ قلباً إلا خرِب
كلّ ما سبق وغيره، سببه خواء القلوب من خوف الله.. الله جلّ وعلا امتحن إيمان عباده بالخوف منه فقال: ((فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين)) (آل عمران: 175)، فهل نحن -مع كلّ هذا الذي نعيشه في واقعنا- نخاف الله ونخشاه حقّ خشيته؟ نعم لا شكّ في أنّ بيننا من يخافون الله ويخشونه، والكلام ليس عن هؤلاء، إنّما هو عمّن بارزوا الله بالكبائر وجاهروا بالمعاصي وأصرّوا على المحرّمات ومردوا عليها وألفوا إضاعة الفرائض والواجبات ورضوا بأحوالهم.
لو سكن الخوف من الله قلوبنا لحال بيننا وبين انتهاك حرمات الله وإضاعة فرائضه؟ ولما ظلم وآذى بعضنا بعضا.. قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: “ما فارق الخوف قلباً إلا خرب”.. لو سكن الخوف من الله قلوبنا لأخرج منها حبّ الشّهوات والتعلّق بالدّنيا ولأحرق فيها زيف الشّبهات: قال إبراهيم بن سفيان رحمه الله: “إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها”.
هكذا نغرس خوف الله في قلوبنا
من أعظم الأسباب التي تعين على غرس الخوف من الله في القلوب، أن يعلم العبد المؤمن علم اليقين أنّ الخوف من الله هو أعظم معين للاستقامة على دين الله، وأعظم معين لتنظيم الحياة والأوقات.. الخوف من الله أمن وسعادة وطمأنينة في الدّنيا وفي الآخرة.. الخوف من الله جنّة في الدّنيا وجنّة في الآخرة، ويكفي دليلا على هذا قول الله جلّ وعلا: ((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)) (النازعات: 40، 41)، وقوله سبحانه واصفا حال عباده المتّقين: ((تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون)) (السجدة: 16، 17). وقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: “عينان لا تمسهما النار؛ عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله”.
وممّا يعين على غرس الخوف من الله في القلوب أن يتذكّر العبد المؤمن ضعفه وقلّة حيلته في هذه الدّنيا، كيف بضعفه وقلة حيلته يوم القيامة، يوم يأتي ربّه فردا لا محامي ولا شفيع ولا حميم، يأخذ كتابه فيجد فيه كلّ صغيرة وكبيرة عملها في الدّنيا، ويزداد الحساب دقّة حينما تشهد له أو عليه الملائكة، وتشهد له أو عليه جوارحه بما اقترف وعمل، وتشهد الأرض التي كان يسعى على ظهره ((يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)).. يتذكّر العبد المؤمن ضعفه في مقابل قوة العزيز الجبّار سبحانه الذي يقضي في هذه الدّنيا ويحكم بما يشاء لا رادّ لأمره ولا معقّب لحكمه، وتخضع له الأصوات والرؤوس يوم القيامة: ((يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا)).
وممّا يعين القلوب على خشية الله، تذكّر العذاب الذي أعدّه الله لأصحاب القلوب القاسية التي خلت من خشية الله: ((فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِين))، وتذكّر عذاب الله المعدّ لمن لم يخافوه في الدّنيا: ((لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُون)).. وفي المقابل، يتذكّر العبد المؤمن ويعظ قلبه وروحه بما أعدّه الله لعباده الذين يخافونه ويخشونه حقّ خشيته: قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون)).. في المسند والترمذي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة)) أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: “لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه”.. قال الحسن رضي الله عنه: “اعملوا -والله- بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحساناً وخشيـة، والمنافق جمع إساءةً وأمناً”.. هؤلاء بشر مثلنا لكنّهم سقوا بذرة الخوف من الله في قلوبهم حتّى نمت وترعرعت وأينعت وأثمرت، وصار الواحد منهم لا يقف عند حدّ البعد عن المحرّمات والحرص على الطّاعات، بل يجتهد في الطّاعات ويخاف ألا يقبل الله منه.
يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “لا َيَلِجُ النَّارَ رَجْلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّه حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْع، وَلا يَجْتَمعُ غُبَارٌ في سَبِيلِ اللَّه ودُخانُ جَهَنَّمَ” (رواه الترمذي والنسائي)، ويقول الحبيب المصطفى عليه الصّلاة والسّلام: “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظلُّهُ…” الحديث، وفيه: “ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ” (رواه البخاري ومسلم).
الخوف من الله أمانٌ وجَنّة وجُنّة
الخوف من الله فرض وليس اختيارا، من خاف الله في هذه الدّنيا أمّنه يوم القيامة، ومن لم يخف الله في هذه الدّنيا خوّفه الله يوم القيامة وأفزعه، يقول اللّه -عزّ وجلّ- كما في الحديث القدسيّ: “وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ، وَلَا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ، إِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة” (رواه ابن المبارك في الزهد).
الخوف من الله جَنّة وجُنّة تردع المسلم وتردّه عن معصية الله؛ مهما كان قادرا ومهما تهيّأت الأسباب والدّواعي، فإنّ لاعج الخوف يقرعه ويردّه.. هذا نبيّ الله يوسف -عليه السّلام- حينما عرضت عليه المعصية وهو في ريعان شبابه، ((وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُون)).
وهذا شابّ مسلم من أمّة النبيّ محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- كان منه ما كان من نبيّ الله يوسف -عليه السّلام-؛ كان يعمل بائعا يتجول في الطرقات، فمرّ ذات يوم ببيت، فأطلت امرأة وسألته عن بضاعته فأخبرها، فطلبت منه أن يدخل لترى البضاعة، فلما دخل أغلقت الباب، ثم دعته إلى الفاحشة، فصاح بها، فقالت: والله إن لم تفعل ما أريده منك صرخت، فيحضر الناس فأقول: هذا الشاب اقتحم عليَّ داري، فما ينتظرك بعدها إلا القتل أو السجن. فخوّفها بالله فلم تنزجر، فلما رأى ذلك، قال لها: أريد الخلاء. فلما دخل الخلاء: أقبل على الصندوق الذي يُجمع فيه الغائط، وجعل يأخذ منه ويلقي على ثيابه، ويديه وجسده، ثم خرج إليها، فلما عافته وألقت عليه بضاعته، وطردته من البيت، فمضى يمشي في الطريق والصبيان يصيحون وراءه: مجنون، مجنون، حتى وصل إلى بيته، فأزال عنه النجاسة، واغتسل، فلم يزل يُشمُّ منه رائحة المسك، حتى مات رحمه الله.
هكذا حمل الخوف من الله هذا الشابّ على تلطيخ بدنه بالنّجاسة لينجو من معصية الله.. وهذا الخوف هو الذي حمل راعيا لم يعرف اسمه في كتب السير والتراجم على أن يحفظ أمانة حُمّلها: ذكر ابنُ الجوْزي -رحِمه الله- في “صفة الصفوة” عن نافع قال: خرجت مع ابْنِ عُمر في بعض نواحي المدينة، ومعه أصحابٌ له، فوضعوا سُفرةً، فمرَّ بِهم راعٍ، فقال له عبد الله: هلمَّ يا راعي، فأصِبْ من هذه السُّفرة، قال: إنِّي صائم. فقال له عبد الله: في مثلِ هذا اليومِ الشَّديد حرُّه، وأنت في هذه الشِّعاب في آثارِ هذِه الغنَم بين الجبال، وأنت صائم! فقال الراعي: أُبادر أيَّامي الخالية، فعجِب ابنُ عمر. وقال: هل لك أن تبيعَنا شاةً من غنمِك نجتَزِرُها، ونُطْعِمك من لَحمها ما تفطِرُ عليه، ونعطيك ثَمنَها؟ قال: إنَّها ليستْ لي، إنَّها لمولاي. قال: فما عسيْتَ أن يقول لكَ مولاك إن قُلْتَ: أكلها الذئب؟ فمضى الرَّاعي رافعا إصبعَه إلى السماء، وهو يقول: فأين الله؟ فلمْ يزل ابنُ عُمر يقول: قال الراعي: فأين الله. فما عدا أن قدِم المدينةَ، حتى بعث إلى سيِّده فاشترى منه الرَّاعي والغنم، فأعتق الرَّاعيَ، ووهبَ له الغَنم.
ومن عجائب بعض الصّالحين في خوفهم من الله أنّ كهمس بن الحسن (ت: 149هـ) سقط منه دينار، ففتش عنه حتى وجده، فلم يأخذه، وقال: لعلّه ليس ديناري، لعلّه لغيري.. رفض أن يأخذ ديناره خشية أن يكون لغيره! فما أرهفها أرواح وأرقّها من قلوب.. هذه القصّة الأخيرة نهديها إلى من يتهاونون في أعمالهم ووظائفهم ومع ذلك يأخذون رواتبهم كاملة غير منقوصة.. إلى التجار الذين لا يكلّون ولا يملّون من إحراج الزّبائن بالنّغمات المعهودة: “اسمح لي في مائة فرنك، اسمح لي في ثلاثمائة فرنك”… إلى الموسرين الذين يملكون الأراضي والعقارات وتعدّ مداخيلهم السنوية بمئات الملايين ومع ذلك ينافسون الفقراء في الاستفادة من منحة 5000 دج عند الدّخول المدرسيّ، ويزاحمون المعوزين على الاستفادة من الكتب والأدوات المدرسية مجّانا… اهـ.
* منقول من جريدة الشروق أونلاين الجزائرية
هل نحن نخاف الله ؟ *
أ. سلطان بركاني
03 أكتوبر 2021م
أ. سلطان بركاني
03 أكتوبر 2021م
كثيرة هي الفرائض والواجبات التي أضاعها بعض المسلمين في هذا الزّمان، ما كان الأوّلون يتصوّرون أبدا أنّ مسلما يمكن أن يستهين بها ويضيّعها، وكثيرة هي المحرّمات التي اقترفها بعض المسلمين وصارت من يومياتهم وعاداتهم التي يمارسونها جهارا وإصرارا، ما كان الأوائل يجرؤون على الاقتراب منها.. ضعفت محبّة الله في القلوب وأصبحت ذرياتنا وزوجاتنا وأموالنا وتجاراتنا ومساكننا وسياراتنا أحبّ إلينا من الله ورسوله ودينه! وأضحى كثير منّا يمُنّون على دين الله بفضول الفضول من أوقاتهم وجهودهم؛ لا يصلّي الواحد منهم حتّى يتفرّغ من كلّ المشاغل، ولا يتصدّق بالقليل النّادر حتّى يفضُل المال عن كلّ الحاجات والكماليات، ولا يقرأ القرآن حتّى تملّ نفسه من برامج التلفاز ومنشورات مواقع التواصل وجلسات المقاهي وجولات الأسواق.
الأكثر ألما من كلّ ما سبق أنّ ضعف محبّة الله في القلوب أدّى بدوره إلى ارتحال خشية الله منها.. قلّ الخوف من الله في قلوب بعضنا وانعدم من قلوب مسلمين يشهدون الشهادتين ويؤمنون بالبعث والنشور والحساب.. في أيامنا هذه، لو قلت لأحد من المسلمين: اتّق الله، أو خفِ الله، لانفجر في وجهك منكرا وقال لك: “هل رأيتني أحرق الجوامع أو أقتل الضّفادع؟”! مع أنّه يرى من نفسه كيف يضيّع الصّلاة ويهجر القرآن وتسرع نفسه إلى المحرّمات وإلى الظّلم والفساد.
ألا تدلّ هذه الأحوال على أنّنا لا نخاف الله؟!
كيف ينحدر عبد ينتسب إلى الإسلام إلى درك سبّ خالق الأرض والسّماوات بأقذع الكلمات؟ إنّه خواء القلب من خوف الله.. كيف تبلغ الجرأة بعبد مسلم إلى النّوم عن صلاة الفجر وإلى جمع الصّلوات في آخر اليوم، بل قد يصل به الأمر إلى ترك الصّلاة بالكلية؟ إنّه قحط القلب من خوف الله.. ما الذي يحمل عبدا مسلما يؤمن بالله واليوم الآخر على المماطلة والتثاقل في إخراج الزّكاة، وربّما يصل به الأمر إلى حدّ منعها وحتى جحدها، فإذا سئل عنها قال: أنا أدفع الضّرائب، ثمّ هذا المال قد تعبت في جمعه وتحصيله فلا يصحّ أن أضعه في يد غيري بكلّ سهولة؟! ما الذي يجعل عبدا مسلما عنده من المال ما يزيد على حاجاته الضرورية، يمتنع عن حجّ بيت الله الحرام ويجد لنفسه من الأعذار والمبرّرات ما هو أوهى من خيوط العنكبوت؟ إنّه ضعف الخوف من الله.
لماذا يظلم الرّجل زوجته فيسيء عشرتها ثمّ يخرجها من بيتها مع أوّل طلقة بعد أن يشبعها سبّا وضربا وركلا ويشرّدها مع أبنائها ويمنع عنها نفقتهم؟ إنّها قلة الخوف من الله.. وفي المقابل: لماذا تظلم الزوجة زوجها وتستطيل عليه بعملها ومالها فتذله وتهينه وربما تجره إلى المحاكم لتخلعه، وقد تمنعه حقه في رؤية أبنائه؟ إنّه فقر القلب إلى الخوف من الله.. لماذا يظلم بعض الأبناء والديهم فيعقّونهم ويتأففون منهم ويتجهّمون في وجوههم وربّما يهجرونهم لإرضاء زوجاتهم، بل قد يصل الأمر ببعض الأبناء إلى حدّ طرد والديهم من البيوت ورميهم في دور العجزة؟ وفي المقابل: لماذا يظلم بعض الآباء أبناءهم فيمنعون عنهم فضل مالهم ويسبّونهم ويصفونهم بكلّ قبيح ولا يعدلون بينهم؟ لماذا تخون بعض الفتيات ثقة والديهنّ، حينما تزعم الواحدة منهنّ أنّها متّجهة إلى الدّراسة أو إلى صديقة تراجع معها الدّروس، ثمّ تغيّر وجهتها لتخرج مع ذئب بشريّ يغريها كذبا بالزّواج لينال منها ما يريد ثمّ يرميها كما يرمي سيجارته؟
لماذا تصرّ مسلمة على الخروج من بيتها متبرّجة أو بحجاب متبرّج تلاعبت بطوله وعرضه، متعطّرة متزيّنة بالأصباغ متمايلة متبخترة؟ إنّه ضعف الخوف من الله؟ لماذا يصرّ رجل مسلم على النّظر إلى النّساء الغاديات والرائحات في الشّوارع والأسواق، ولماذا يصرّ على النّظر إلى المحرّمات في التلفاز وعلى شاشة الهاتف؟ إنّه ضعف الخوف من الله؟ كيف يجرؤ عبد مسلم على إحياء حفلة عرس في ساحة بيته يرفع فيها صوت الأغاني الهابطة السّاقطة؟ إنّه خواء القلب من خوف الله وخوف غضبه ونقمته؟ لماذا يصرّ بعض المسلمين على إيذاء جيرانهم وترويع الأطفال والشّيوخ في جنح الليل بإطلاق البارود في وقت النّوم؟ إنّها القلوب التي ما عادت تتحرّك بخشية الله وخوفه.
لماذا يصرّ بعض المسلمين على منع الميراث عن أخواتهم النّساء؟ لماذا يصرّ بعضٌ منّا على غصب الأراضي وتغيير مناراتها؟ لماذا يتوسّع بعضٌ منّا في فتح نوافذ وشرفات لمساكنهم في كلّ الاتّجاهات على حساب جيرانهم؟ لماذا يصرّ بعض الجيران على خنق جيرانهم ومنع الضّوء والهواء عنهم؟ إنّها القلوب التي أصبحت قاعا صفصفا من خشية الله.
لماذا يظلم بعض المسؤولين العمال الذين هم تحت مسؤوليتهم، فيكلّفونهم ما لا يطيقون وينقصون من حقوقهم؟ لماذا يصرّ بعض العمّال والموظّفين على أكل الحرام في أماكن عملهم بدخولهم متأخّرين وقضاء وقت العمل في القيل والقال وتصفّح الهواتف؟ ولماذا يصر بعض التجار على أكل الحرام في تجاراتهم، بتطفيفهم الكيل والميزان وغشّهم في النوعية والأثمان؟ لماذا يماطل بعض النّاس في سداد الديون وربّما يجحدونها، يقترض الواحد منهم ممن محلّ من المحلات حتّى يبلغ دينه أرقاما كبيرة، وفي كلّ مرة يعِد صاحب المحلّ بأنّه سيعطيه حقه عند دخول الراتب، ويدخل الراتب الأوّل والثّاني والثّالث، وتمرّ الأشهر والأعوام وهو يتهرب من صاحب الدين وربّما يعاديه، ويتعمد اقتناء حاجياته من محلّ آخر؟
لماذا يخون بعض المسؤولين أمانة المسؤولية، عندما يقربون اللّصوص والمفسدين ويبعدون النّاصحين المصلحين، ويحابون في المال العام فيمنحون الملايير لمعارفهم وأقاربهم ويمنعون عن باقي الناس الحدّ الأدنى الذي يحفظ إنسانيتهم؟
لماذا يبخل بعض الأساتذة والمعلّمين عن تلامذتهم بالشّرح الوافي للدّروس حتّى يضطرّوهم إلى أخذ دروس الدّعم؟ لماذا يرفع بعض الأطبّاء أسعار الفحص والكشف إلى أرقام ترجف لها القلوب وتندى لها الجيوب قبل الجباه؟ لماذا يغشّ بعض المقاولين في الطرق التي يُعهد إليهم بشقها وبالسكنات التي يعهد إليهم ببنائها؟ ولماذا يشهد بعض المهندسين زورا على صلاحية المشاريع ومطابقتها للمعايير لقاء رِشًا يأخذونها من المقاولين؟ لماذا يجرؤ بعض المسلمين على شهادة الزّور في المحاكم مقابل عرض من الدنيا قليل أو كثير؟…
ما فارق الخوفُ قلباً إلا خرِب
كلّ ما سبق وغيره، سببه خواء القلوب من خوف الله.. الله جلّ وعلا امتحن إيمان عباده بالخوف منه فقال: ((فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين)) (آل عمران: 175)، فهل نحن -مع كلّ هذا الذي نعيشه في واقعنا- نخاف الله ونخشاه حقّ خشيته؟ نعم لا شكّ في أنّ بيننا من يخافون الله ويخشونه، والكلام ليس عن هؤلاء، إنّما هو عمّن بارزوا الله بالكبائر وجاهروا بالمعاصي وأصرّوا على المحرّمات ومردوا عليها وألفوا إضاعة الفرائض والواجبات ورضوا بأحوالهم.
لو سكن الخوف من الله قلوبنا لحال بيننا وبين انتهاك حرمات الله وإضاعة فرائضه؟ ولما ظلم وآذى بعضنا بعضا.. قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: “ما فارق الخوف قلباً إلا خرب”.. لو سكن الخوف من الله قلوبنا لأخرج منها حبّ الشّهوات والتعلّق بالدّنيا ولأحرق فيها زيف الشّبهات: قال إبراهيم بن سفيان رحمه الله: “إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها”.
هكذا نغرس خوف الله في قلوبنا
من أعظم الأسباب التي تعين على غرس الخوف من الله في القلوب، أن يعلم العبد المؤمن علم اليقين أنّ الخوف من الله هو أعظم معين للاستقامة على دين الله، وأعظم معين لتنظيم الحياة والأوقات.. الخوف من الله أمن وسعادة وطمأنينة في الدّنيا وفي الآخرة.. الخوف من الله جنّة في الدّنيا وجنّة في الآخرة، ويكفي دليلا على هذا قول الله جلّ وعلا: ((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)) (النازعات: 40، 41)، وقوله سبحانه واصفا حال عباده المتّقين: ((تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون)) (السجدة: 16، 17). وقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: “عينان لا تمسهما النار؛ عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله”.
وممّا يعين على غرس الخوف من الله في القلوب أن يتذكّر العبد المؤمن ضعفه وقلّة حيلته في هذه الدّنيا، كيف بضعفه وقلة حيلته يوم القيامة، يوم يأتي ربّه فردا لا محامي ولا شفيع ولا حميم، يأخذ كتابه فيجد فيه كلّ صغيرة وكبيرة عملها في الدّنيا، ويزداد الحساب دقّة حينما تشهد له أو عليه الملائكة، وتشهد له أو عليه جوارحه بما اقترف وعمل، وتشهد الأرض التي كان يسعى على ظهره ((يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)).. يتذكّر العبد المؤمن ضعفه في مقابل قوة العزيز الجبّار سبحانه الذي يقضي في هذه الدّنيا ويحكم بما يشاء لا رادّ لأمره ولا معقّب لحكمه، وتخضع له الأصوات والرؤوس يوم القيامة: ((يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا)).
وممّا يعين القلوب على خشية الله، تذكّر العذاب الذي أعدّه الله لأصحاب القلوب القاسية التي خلت من خشية الله: ((فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِين))، وتذكّر عذاب الله المعدّ لمن لم يخافوه في الدّنيا: ((لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُون)).. وفي المقابل، يتذكّر العبد المؤمن ويعظ قلبه وروحه بما أعدّه الله لعباده الذين يخافونه ويخشونه حقّ خشيته: قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون)).. في المسند والترمذي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة)) أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: “لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه”.. قال الحسن رضي الله عنه: “اعملوا -والله- بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحساناً وخشيـة، والمنافق جمع إساءةً وأمناً”.. هؤلاء بشر مثلنا لكنّهم سقوا بذرة الخوف من الله في قلوبهم حتّى نمت وترعرعت وأينعت وأثمرت، وصار الواحد منهم لا يقف عند حدّ البعد عن المحرّمات والحرص على الطّاعات، بل يجتهد في الطّاعات ويخاف ألا يقبل الله منه.
يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “لا َيَلِجُ النَّارَ رَجْلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّه حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْع، وَلا يَجْتَمعُ غُبَارٌ في سَبِيلِ اللَّه ودُخانُ جَهَنَّمَ” (رواه الترمذي والنسائي)، ويقول الحبيب المصطفى عليه الصّلاة والسّلام: “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظلُّهُ…” الحديث، وفيه: “ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ” (رواه البخاري ومسلم).
الخوف من الله أمانٌ وجَنّة وجُنّة
الخوف من الله فرض وليس اختيارا، من خاف الله في هذه الدّنيا أمّنه يوم القيامة، ومن لم يخف الله في هذه الدّنيا خوّفه الله يوم القيامة وأفزعه، يقول اللّه -عزّ وجلّ- كما في الحديث القدسيّ: “وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ، وَلَا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ، إِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة” (رواه ابن المبارك في الزهد).
الخوف من الله جَنّة وجُنّة تردع المسلم وتردّه عن معصية الله؛ مهما كان قادرا ومهما تهيّأت الأسباب والدّواعي، فإنّ لاعج الخوف يقرعه ويردّه.. هذا نبيّ الله يوسف -عليه السّلام- حينما عرضت عليه المعصية وهو في ريعان شبابه، ((وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُون)).
وهذا شابّ مسلم من أمّة النبيّ محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- كان منه ما كان من نبيّ الله يوسف -عليه السّلام-؛ كان يعمل بائعا يتجول في الطرقات، فمرّ ذات يوم ببيت، فأطلت امرأة وسألته عن بضاعته فأخبرها، فطلبت منه أن يدخل لترى البضاعة، فلما دخل أغلقت الباب، ثم دعته إلى الفاحشة، فصاح بها، فقالت: والله إن لم تفعل ما أريده منك صرخت، فيحضر الناس فأقول: هذا الشاب اقتحم عليَّ داري، فما ينتظرك بعدها إلا القتل أو السجن. فخوّفها بالله فلم تنزجر، فلما رأى ذلك، قال لها: أريد الخلاء. فلما دخل الخلاء: أقبل على الصندوق الذي يُجمع فيه الغائط، وجعل يأخذ منه ويلقي على ثيابه، ويديه وجسده، ثم خرج إليها، فلما عافته وألقت عليه بضاعته، وطردته من البيت، فمضى يمشي في الطريق والصبيان يصيحون وراءه: مجنون، مجنون، حتى وصل إلى بيته، فأزال عنه النجاسة، واغتسل، فلم يزل يُشمُّ منه رائحة المسك، حتى مات رحمه الله.
هكذا حمل الخوف من الله هذا الشابّ على تلطيخ بدنه بالنّجاسة لينجو من معصية الله.. وهذا الخوف هو الذي حمل راعيا لم يعرف اسمه في كتب السير والتراجم على أن يحفظ أمانة حُمّلها: ذكر ابنُ الجوْزي -رحِمه الله- في “صفة الصفوة” عن نافع قال: خرجت مع ابْنِ عُمر في بعض نواحي المدينة، ومعه أصحابٌ له، فوضعوا سُفرةً، فمرَّ بِهم راعٍ، فقال له عبد الله: هلمَّ يا راعي، فأصِبْ من هذه السُّفرة، قال: إنِّي صائم. فقال له عبد الله: في مثلِ هذا اليومِ الشَّديد حرُّه، وأنت في هذه الشِّعاب في آثارِ هذِه الغنَم بين الجبال، وأنت صائم! فقال الراعي: أُبادر أيَّامي الخالية، فعجِب ابنُ عمر. وقال: هل لك أن تبيعَنا شاةً من غنمِك نجتَزِرُها، ونُطْعِمك من لَحمها ما تفطِرُ عليه، ونعطيك ثَمنَها؟ قال: إنَّها ليستْ لي، إنَّها لمولاي. قال: فما عسيْتَ أن يقول لكَ مولاك إن قُلْتَ: أكلها الذئب؟ فمضى الرَّاعي رافعا إصبعَه إلى السماء، وهو يقول: فأين الله؟ فلمْ يزل ابنُ عُمر يقول: قال الراعي: فأين الله. فما عدا أن قدِم المدينةَ، حتى بعث إلى سيِّده فاشترى منه الرَّاعي والغنم، فأعتق الرَّاعيَ، ووهبَ له الغَنم.
ومن عجائب بعض الصّالحين في خوفهم من الله أنّ كهمس بن الحسن (ت: 149هـ) سقط منه دينار، ففتش عنه حتى وجده، فلم يأخذه، وقال: لعلّه ليس ديناري، لعلّه لغيري.. رفض أن يأخذ ديناره خشية أن يكون لغيره! فما أرهفها أرواح وأرقّها من قلوب.. هذه القصّة الأخيرة نهديها إلى من يتهاونون في أعمالهم ووظائفهم ومع ذلك يأخذون رواتبهم كاملة غير منقوصة.. إلى التجار الذين لا يكلّون ولا يملّون من إحراج الزّبائن بالنّغمات المعهودة: “اسمح لي في مائة فرنك، اسمح لي في ثلاثمائة فرنك”… إلى الموسرين الذين يملكون الأراضي والعقارات وتعدّ مداخيلهم السنوية بمئات الملايين ومع ذلك ينافسون الفقراء في الاستفادة من منحة 5000 دج عند الدّخول المدرسيّ، ويزاحمون المعوزين على الاستفادة من الكتب والأدوات المدرسية مجّانا… اهـ.
* منقول من جريدة الشروق أونلاين الجزائرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق