يا له من ردع رهيب، وزجر مخيف؛ عن هذه الشعبة المقيتة من شعب الطغيان: الظلم!
إنه الداء الذي أبدا القرآن فيه وأعاد، حتى كرره في مئات المواضع، وما ذاك إلا لعظيم أثره، وقبيح عاقبته!
إن وضع الشيء في غير موضعه هو المعنى الجامع لهذا المعنى القبيح، فيدخل تحت هذا المعنى ما شاء الله من الصور والمعاني.
وهو معنى اتفقت الشرائع والفطر على مقته وخسته، لا مع بني الإنسان فحسب بل حتى مع الحيوان.
لنتأمل هذه القصة التي حدّث بها النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"عُذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً، فدخلت فيها النار" قال: فقال والله أعلم: "لا أنتِ أطعمتِها ولا سقيتِها حين حبستيها، ولا أنتِ أرسلتِها، فأكلتْ من خشاش الأرض".
يا الله! أي عظمة هذه! امرأة مكلّفة تدخل النار المحرقة بسبب ظلم هرةٍ صغيرة؟! نعم! هذا هو الدين العظيم الذي كفل حقوق الحيوانات، فضلاً عن الآدمي.
وإن القارئ والسامع لهذا الحديث وأمثاله ليتساءل: إذا كان هذا الوعيد على من ظلَم حيواناً، فكيف سيكون الوعيد على من ظلم إنساناً، وخاصةً إذا كان أخاه المسلم، أو من تربطه به علاقة خاصة!
إن المتابع والسامع، أو من يبتلي بأسئلة الناس؛ ليوقن عظيم غفلة كثيرٍ من الناس عن خطورة الظلم، وعن سوء عاقبة صاحبه في الدنيا قبل الآخرة.
كم من الأيتام الذين أُكلتْ أموالهُم ظلماً مع شدة الوعيد الوارد في حق أكل أموالهم بغير حق: "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا"[النساء:10]!
كم امتلأتْ أدراجُ المحاكم بمعاملات تتعلق بالسطو على الأراضي! ألم يسمع هؤلاء قولَه صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنهما -:"من أخذ شبراً من الأرض ظلماً؛ فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين"؟! هذه عقوبة مَن أخذ شبراً فقط، فما الظن بمن يسطو على ما هو أكثر من ذلك؟!
إن هذه القاعدة النبوية الجليلة: "الظلم ظلمات يوم القيامة" لا تستثني أحداً من الناس، ويعظم الوعيد ويشتد على من استغل قوتَه أو مكانتَه أو سلطتَه في ظلم العباد، وانظر كيف كانت نهاية فرعون حين تجبر وطغى "فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ"[يونس: 39]، ولمّا ذكر اللهُ قصةَ ثمود وما حلّ بهم، قال تعالى:"فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ"[النمل: 52]، فظلم العباد من أسرع موجبات الهلاك والخراب للأمم والمجتمعات، وفي التاريخ عبرة.
وإن من الظلمة من يغتر بإمهال الله له، فيِأَكْل أَمْوَال النَّاس، ويَأَخذهَا ظلماً، أو يظلم النَّاس بِالضَّرْبِ والشتم والتعدي، والاستطالة على الضُّعَفَاء، ولكن ليعلم كل ظالم أن له يوماً لا يُخلف، قال تعالى: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ"[إبراهيم: 42]، وقال تعالى:"وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ"[الشعراء: 227]، وقال تعالى:"وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ".
أيها الإخوة الأكارم:
"والظلم يشتمل على معصيتين: أخذُ مال الغير بغير حق، ومبارزةُ الرب بالمخالفة، والمعصية فيه أشد من غيرها؛ لأنه لا يقع غالباً إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار، وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب؛ لأنه لو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى المتقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى؛ اكتنفت ظلماتُ الظلم الظالمَ، حيث لا يغني عنه ظلمُه شيئاً" (1).
وأعظم الظلم الذي يقترفه العبد: ظلم نفسه بالشِّرْك، كما قال تعالى:"إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" فإنَّ المشركَ جعل المخلوقَ في منزلةِ الخالق، فعبده وتألَّهه، فوضع الأشياءَ في غيرِ موضعها، وأكثر ما ذُكِرَ في القرآن مِنْ وعيد الظالمين إنَّما أُريد به المشركون، كما قال الله عز وجل: "وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ"، ثمَّ يليه المعاصي على اختلاف أجناسها - من كبائرَ وصغائرَ -."
ويلي هذه المنزلة في الظلم: ظلمُ العبدِ لغيره، وهو المذكورُ في هذا الحديث، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: "إنَّ دماءكم وأموالَكُم وأعراضَكُم عليكُم حرامٌ، كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" (2).
ألا إن من أعظم ما يوعظ به الظالِمُ تذكيرُه بالله، وبعظيم قدرته عليه، ولهذا يؤثر عن معاوية رضي الله عنه أنه قال: أخوف ما أخاف من رجل لا يجد له ناصراً إلا الله!!
"قال دهقان لأسد بن عبد الله - وهو على خراسان، ومر به وهو يدهق في حبسه (3) -:إن كنتَ تعطي لترحم، فارحم من تظلم، إن السموات تنفرج لدعوة المظلوم؛ فاحذر من ليس له ناصر إلا الله، ولا جنة له إلا الثقة بنزول التغير، ولا سلاح له إلا الابتهال إلى من لا يعجزه شيء، يا أسد! إن البغي يصرع أهلَه، والبغي مصرعه وخيم، فلا تغتر بإبطاء الغياث مِن ناصرٍ متى شاء أن يغيث أغاث، وقد أملى لقومٍ كي يزدادوا إثماً" (4).
ودخل رجلٌ على سليمان بن عبد الملك فقال: اذكر يا أمير المؤمنين يوم الأذان! فقال: وما يوم الأذان؟ قال: اليوم الذي قال الله تعالى فيه: "فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" فبكى سليمان وأزال ظلامته (5).
أخي المسلم:
إن الظلم لا يكاد يسلم منه أحدٌ منا! فمنا المسترسل معه، ومنا المجاهد نفسه على تركه؛ ذلك أن الله تعالى وصف هذا الإنسان بأنه: ظلوم جهول، لكن السؤال:
ما هو الموقف الشرعي الذي يقفه المسلم من أخيه الظالم؟
لقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بأبلغ كلام وأوجز عبارة فقال:
"انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً! فقال رجل: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره" (6).
"ومعناه: أنه إذا نهاه ووعظه فقد نصره على شيطانه ونفسه الأمارة بالسوء، حتى غلبه ذلك" (7).
ومِن معانيه ما أشار له البيهقي فقال: "أن الظالم مظلوم في نفسه، فيدخل فيه ردع المرء عن ظلمه لنفسه حساً ومعنى، فلو رأى إنساناً يريد أن يَجُبّ نفسَه لِظَنه أن ذلك يزيل مفسدة طلبه الزنا مثلاً! منعه من ذلك وكان ذلك نصراً له" (8).
ومما يجلي معنى هذا الحديث أكثر أن يقال:
إنك إذا "تركتَه على ظلمه، ولم تكفّه عنه أذاه ذلك إلى أن يُقتص منه؛ فمنعك له مما يوجب عليه القصاص نصرُه، وهذا يدل من باب الحكم للشيء وتسميته بما يؤول إليه، وهو من عجيب الفصاحة، ووجيز البلاغة" (9).
ومن لطائف هذا الحديث أن فيه "إشعار بالحث على محافظة الصديق والاهتمام بشأنه، ومِن ثَم قيل: حافظ على الصديق ولو على الحريق" (10).
"فلا يجوز ترك مسلمٍ يكافح وحده في معترك، بل لابد من الوقوف بجانبه على أي حال؛ لإرشاده إن ضل، وحجزه إن تطاول، والدفاع عنه إن هوجم، والقتال معه إذا استبيح، وذلك معنى التناصر الذي فرضه الإسلام" (11).
أيها المسلمون:
"إياك إياك أن تظلم من لا ينتصر عليك إلا بالله؛ فإنه تعالى إذا علم التجاء عبدٍ إليه بصدق واضطرار انتصر له فوراً "أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ"[النمل: 62]" (12).
إن نور العدل شمس تضيء لأصحابها دروب الحياة، ولا يفارقهم نورُها حتى يبهر أبصارَهم نورُ الجنة التي إليها سيُساق العادلون!
العادلون في أقوالهم، وأفعالهم، وتفكيرهم، وأحكامهم، ومعاملتهم مع الكبير والصغير، والقريب والبعيد، المنصفون الناسَ حتى من أنفسهم، إنهم – بعدلهم هذا – على نور يمشون به بين الناس.
وأما الظالمون فهم في ظلمات لا يبصرون غير أنفسهم، ولا يحسون إلا بمصالحهم، ولا يشعرون إلا بذواتهم. (13)
وقفة:
"يا راضياً باسم الظالم كم عليك من المظالم! السجن جهنم والحق الحاكم! ولا حجة لك فيما تخاصم! القبر مهول، فتذكر حبسك، والحساب طويل فخلص نفسك، والعمر كيوم فبادر شمسك، تفرح بمالك والكسب خبيث! وتمرح بآمالك والسير حثيث! إن الظلم لا يُترك منه قدر أنملة، فإذا رأيت ظالماً قد سطا فنم له؛ فربما بات فأخَذَت جنبَه من الليل نملة - أي قروح في الجسد -" (14).
اللهم أجرنا من الظلم والظالمين، واجعلنا بالعدل وعلى العدل قائمين، وأنر لنا الطريق إلى جنات النعيم.
_________________
(1) فتح الباري: ( 5/ 100).
(2) جامع العلوم والحكم (ص: 224).
(3) قال أبو عمرو: الدَهَقُ بالتحريك: ضربٌ من العَذاب وهو بالفارسية أَشْكَنْجَهْ.[الصحاح في اللغة(دهق)].
(4) ذم البغي: (1/ 40).
(5) محاضرات الأدباء: (1/ 269).
(6) البخاري ح(6952).
(7) مشارق الأنوار على صحاح الآثار: (1/ 329).
(8) فتح الباري - ابن حجر: (5/ 98).
(9) شرح صحيح البخاري لابن بطال: (6/ 572).
(10) فيض القدير: (3/ 76).
(11) خلق المسلم: (ص141).
(12) فيض القدير: (1/ 134).
(13) لباب الآداب لأسامة بن منقذ (ص311): "قلت: هذا فصل يتعين اتّساع القول فيه لحاجة الناس إلى الكفّ عن الظلم، غير أنّني قد أوردت في كتابي المترجم بكتاب (ردع الظّالم وردّ المظالم) منه ما غنيت به عن الإطالة في إيراده في كتابي هذا".
(14) الكبائر الذهبي: (ص72).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق