منحة الدعاء
نحبك ربي، فكم أسرعنا نحوك وقت وجعنا، عندما كانت تسودُّ الدنيا بأعيننا، وتَمتلئ أنفسنا بالخيبات، وتنهمر دموع الأسى، وقلوبنا المعتصرة بالألم تقطر دمًا؛ نرفع رؤوسنا للسماء ونرفع باطن أيدينا؛ لندعوك ربي، لنشكو بثَّنا وحزننا إليك يا سندنا، فلا والله لا تنزل أيدينا خائبة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله حييٌّ كريم، يستحيي إذا وقع الرجل إليه يديه أن يردَّهما صفرًا خائبتين)؛ صحيح الترمذي.
فالدعاء عودة للأمل لحياتنا، عبادة عظيمة تُنجينا من المحن، تؤمن لنا المستقبل الغامض، والدعاء يرد القدر بحول الله وقدرته، وهذه حكمة عظيمة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء)؛ حديث حسن.
إن كانت لنا حاجة : نخاف من الأيام، نريد وظيفة، نحلم بأزواج صالحين، نريد تربية صالحة لأولادنا، تعِبنا مع أزواجنا، أرهَقتنا الدنيا بأحزانها وآهاتها وزلاتها.
هنا الدعاء ملاذ الحائرين، وأمان الخائفين، فلنرفع أكفَّنا، ولنسكب العَبرات، ونطلق الشهقات، ونلهج بالكلمات؛ لنخرج كل سرٍّ أثقلنا وهدَّ قوتنا؛ لننادي رب السماء، ونقول ما شئنا، فلن نضيع أبدًا؛ قال تعالى : ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].
فكيف نخاف ونُهرول، ونُنكس رؤوسنا بالانكسار وربُّنا قريب؟! كيف نسلِّم أنفسنا للأسقام ونقنط إذا حلَّت الأمراض ونحن نعرف معنى سجدة ودعوة في جوف الليل؟!
كم من مريض شُفي! كم من راسب نجح! كم من مهموم نجا! كم من حزنٍ انجلى! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ينزل ربُّنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا، حتى يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول : مَن يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، ومَن يستغفرني فأغفر له).
وها هو الدعاء أمره كله خير، فما أجملَه مِن خير! إما يُستجاب لنا في الدنيا، أو تؤخَّر الإجابة إلى أجلٍ معلوم مع أجرٍ عظيم من الله، أو يكون حسنات كثيرة تُختزن للآخرة، فكيف لنا بالصمت عن الدعاء؟!
ومن رحمة ربي بنا أن علَّمنا في الدعاء ألا ندعوَ على أنفسنا ولا أولادنا ولا أموالنا، فنصادف ساعة إجابة، فيستجاب لنا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ؛ لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيب لَكُمْ)؛ رواه مسلم.
وعلينا ألا يكون مطعمنا حرامًا ولا ملبسنا حرامًا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (...ثم ذكر الرجل يُطيل السفر، أشعث، أغبر، يمدُّ يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومَطعمه حرام ومَلبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب له)؛ رواه مسلم.
ولا بد من التيقن بالإجابة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ)؛ رواه الترمذي.
والحلاوة في الدعاء أننا نُلح ونُلح كيفما شئنا؛ وقد أُمرنا بالإلحاح بالدعاء، فلو كان أمامنا عاقل أو حكيم نطلب منه فائدة، فإننا سنستحيي من كثرة الطلب والإلحاح، ولله المثل الأعلى، أما ربُّنا فنخرج كل ما في جَعبتنا ونطلب ما شئنا ونكرِّره.
ومن رحمة ربي أن خصَّص لنا أوقاتًا للإجابة، فيا لها من منحة ربانية، وقت انهمار المطر، عند السجود، أثناء السفر، دعاؤك لأخيك في ظهر الغيب، ساعة في يوم الجمعة، ويوم عرفة، وعقب الصلوات المكتوبة، ولأن الدعاء مهم لسَيْر حياتنا ولتيسير خيراتنا، فلا بد من ملازمته واغتنامه لننعَم بأحلامنا وآمالنا، فلا ننسى أو نغفل عن مثلها عبادة؛ قال الله عز وجل : ﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ﴾ [الفرقان: 77].
فإلى نفسي وإليكم :
الزموا الدعاء عند الرخاء؛ فستسرُّون باستجابة الدعاء عند الشدائد؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكُرَب، فليُكثر الدعاء في الرخاء)؛ حديث صحيح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق