بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفُسِنا، ومن سيئات أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَï´¾ [آل عمران: 102].
ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاï´¾ [النساء: 1].
ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاï´¾ [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فاتَّقوا الله - أيها المسلمون -، اتَّقُوه في السرِّ والعَلَن؛ فإن تقوَى الله - عز وجل - سببُ الأمن في الدنيا والهدايةِ في الآخرة: ï´؟الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَï´¾ [الأنعام: 82].
عباد الله:
لقد دخَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكةَ عام الفتح، وقلبُهُ مُفعَمٌ بشُكر الله على نصرهِ لنبيِّه، وإنجازِ وعدِه له، كان مُمتَطِيًا ناقَتَه القَصوَاء وسارَ بها حتى بلغ الكعبة، فطافَ بالبيت سبعًا، ثم صلَّى خلفَ المقام، وجلَس في المسجد والناسُ من حولِهِ، والعيونُ شاخِصةٌ إليه، ينتظِرُون ما هو فاعِلٌ بأهل مكة الذين آذَوه وقاتَلُوه، وأخرَجُوه من بلده التي هي أحبُّ أرض الله إلى الله.
في تلك اللحظات الحَرِجَة تطلَّعَ القومُ، واشرَأَبُّوا إلى معرفةِ صنيعِهِ بأعدائه، وقد تكاثَرَ الناسُ حولَه في المسجد، فخطَبَهم وتَلا عليهم قولَ الله - عز وجل -: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْï´¾ [الحجرات: 13]، ثم سألَهم: «مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟ فَقَالُوا: أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ فَقَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»([1]).
فاستَرَدَّ أهل مكة أنفاسهم، وبدأت البيوت تُفتَحُ على مصارِيعِها لتُبايِعَ رسولَ الله - بأبي هو وأمي صلواتُ الله وسلامُه عليه -.
الله أكبر! ما أجمل العفوَ عند المقدرة! ومن أحقُّ بذلك إن لم يكُن رسولَ الله - صلواتُ الله وسلامُه عليه -، وصدقَ الله إذ يقول: ï´؟وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍï´¾ [القلم: 4].
عباد الله:
لقد برَزَ حِلمُ النبي - صلى الله عليه وسلم - جليًّا في هذا الموقف، والذي سارَ عليه الأنبياءُ من قبله؛ فهذا هودٌ - عليه السلام - يستمِعُ إلى إجابةِ قومه بعدما دعاهم إلى توحيدِ الله - عز وجل -: ï´؟إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌï´¾ [الأعراف: 66- 68].
إن شتائِمَ أولئك الجُهَّال لم يطِش لها حِلمُ هودٍ - عليه السلام -؛ لأن الشُّقَّة بعيدةٌ بين رجلٍ اصطَفَاه الله رسولاً، وبين قومٍ سفَّهُوا أنفسَهم، وتهاوَوا على عبادةِ الأصنامِ.
أيها المسلمون:
بهذا الموقفِ وبغيره من المواقف العظيمة، عالَجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - محوَ الجاهلية التي كانت تقومُ على نوعَين من الجهالة: جهالةٌ مُضادَّةٌ للدين والعلم، وأخرى مُضادَّةٌ للحِلم.
فأما الأولى: فقد قطَّعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ظلامَها بأنواع المعرفة والإرشاد.
وأما الأخرى: فقد كبَحَ الهوى، ومنَعَ الفسادَ فيها بحِلمِهِ وعفوِهِ، ï´؟وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَï´¾ [آل عمران: 159].
لقد كانت مواقِفُهُ - صلى الله عليه وسلم - ناسخةً للجاهلية الجَهْلاء التي كان يعيشُها العربُ، والتي بلَغَت من الغِلظَةِ والشِّدَّةِ ما صدَّها عن مكارِمِ الأخلاقِ، كما صوَّر ذلك بعضُهم في قوله:
ألا لا يجهَلَنْ أحدٌ علينا
فنجهَلُ فوق جَهلِ الجاهِلينَا
ولم يكن للجاهلية حينها إلا كأمثالِ شعرِ الحماسةِ والجهل، والفخرِ والحمِيَّة والهِجاء، فجاء الإسلامُ ليُكفْكِفَ من هذه النَّزَوَات، ويُقيمَ أركانَ المجتمع على الفضل وحُسن التخلُّق، ولم تتحقَّق هذه الغاية - بعد فضل الله - إلا عندما هيمَنَ العلمُ النافعُ، والعقلُ الراشدُ على غريزَةِ الجهل والغضَب.
وكثيرٌ من النصائح التي أسدَاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس كافَّة، كانت تتَّجِهُ إلى هذا الهدف، مما جعلَ المسلمين يعُدُّون مظاهرَ الطَّيش والتعدِّي، والعُنف والأذَى شُرودًا من القيود التي ربَطَ بها الإسلام الجماعةَ المسلمة، لئلا تمِيدَ ولا تضطرِب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:«سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»([2]).
إن من الناس من لا يسكُتُ عن الغضب، فهو في ثورةٍ دائمةٍ، وتغيُّظٍ يطبَعُ على وجهه العَبُوس، إذا مسَّهُ أحدٌ بأذَى ارتَعَشَ كالمحمُومِ، وأنشَأَ يُرغِي ويُزبِد، ويلعَنُ ويطعَن، والإسلامُ برِيءٌ من هذه الخِلال الكَدِرَة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ بِاللَّعَّانِ، وَلَا الطَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ»([3]).
وقد حرَّم الإسلام المُهاترات السفيهة، وتبادُل السِّباب بين المُتخاصِمين، وكم من معارك ضارِيَة تُبتذَلُ فيها الأعراضُ، وتُنتَهَكُ فيها الحُرُمات، وما لهذه الآثام الغليظة من عِلَّة إلا تسلُّطُ الغضب، وضياعُ الأدب، وأوزارُ هذه المعارك العنيفة الوضيعَة تعودُ على المُوقِدِ الأول لجَمرَتها، قال - صلواتُ الله وسلامُه عليه -:« الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ، مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ »([4]).
والمسلَكُ الأمثَلُ في ذلك كلِّه، والدالُّ على العظَمَة والمُرُوءة هو أن يبتَلِعَ المرءُ غضبَه فلا ينفَجِر، وأن يقبِضَ يدَه فلا يقتَصَّ، وأن يجعَلَ عفوَه عن المُسيء نوعًا من شُكر الله الذي أقدَرَه على أن يأخذ حقَّه إذا شاء.
قال الأحنفُ بن قيس - رحمه الله -: "احذَرُوا رأيَ الأوغاد"، قالوا: ومن هم؟ قال: "الذين يرَونَ العفوَ والصفحَ عارًا".
أيها الناس:
إن كمالَ العلم في الحِلمِ، ولِينُ الكلام مِفتاحُ القلوب، يستطيعُ المسلمُ من خلالِهِ، أن يُعالِجَ أمراضَ النفوس، وهو هادِئُ النفس، مُطمئِنُّ القلب، لا يستنفِرُه الغضبُ، ولا يستَثِيرُه الحُمقُ، فلو كان الداعِي سيِّءَ الخُلُق، جافِيَ النفس، قاسِيَ القلب، لانفَضَّ من حوله الناسُ، وانصَرَفُوا عنه، فحُرِموا الهدايةَ بأنوار دينهم، فعاشُوا وماتُوا جُهَّالاً، وذلك هو الشقاءُ وهو سببُه وعِلَّتُه.
وتتفَاوَتُ درجاتُ الناس في الثَّباتِ أمام المُثيرَات؛ فمنهم من تستخِفُّه التوافِهُ، فيستَحمِقُ على عجَلْ، ومنهم من تستفِزُّه الشدائِد، فيُبقِي على وَقعِها الأليم، مُحتفِظًا برجاحَةِ فِكرِه، وسَجَاحَةِ خُلُقِه.
والرجلُ الحليمُ حقًّا هو من إذا حلَّقَ في آفاق دُنيا الناس، اتَّسَعَ صدرُه، وامتَدَّ حِلمُه، وعذَرَ الناسَ من أنفسهم، والتَمَسَ المُبرِّرات لأغلاطِهم، فإذا ما عَدَا عليه غِرٌّ يريد تجرِيحَه نظَرَ إليه من عُلُوٍّ، وفعلَ كما قال الأحنفُ بن قيسٍ - رحمه الله -: "ما آذانِي أحدٌ إلا أخذتُ في أمرِه بإحدى ثلاث: إن كان فوقِي عرفتُ له فضلَه، وإن كان مثلِي تفضَّلتُ عليه، وإن كان دُونِي أكرَمتُ نفسي عنه".
وكان مشهورًا بالحِلمِ - رحمه الله -، وبذلك سادَ عشيرتَه، وقد قيل له: ممن تعلَّمتَ الحِلمَ؟ فقال: "من قيسِ بن عاصِمٍ، كنا نختَلِفُ إليه في الحِلم كما يختَلِفُ إليَّ الفقهاءُ في الفقهِ، ولقد حضَرتُ عنده يومًا، وقد أتَوهُ برجُلٍ قد قتَلَ ابنَه، فجاؤوا به مكتُوفًا، فقال: ذَعرتُم أخي، أطلِقُوه، واحمِلُوا إلى أم ولَدِي دِيَتَه، فإنها ليست من قومِنا".
عباد الله:
اعلَمُوا أن الحليمَ إما أن يكون عاجزًا جبانًا، ليس له شيءٌ ولا عليه شيءٌ، فهذا إن لم يغنَم فإنه لا يأثَم.
وإما أن يكون مُخادِعًا مكَّارًا، ظاهِرُه سَمتُ المُؤمنين، وباطِنُه حِقدُ المجرمين، يتحلَّمُ ظاهرًا، ويعُفُّ علَنًا، ولكنه يغضَبُ باطِنًا، وينتقِمُ مُسرِفًا، وهذا حَقودٌ لَدودٌ، لا يلبَث أن يفضَحَه الله على رءوس الناس.
وإما أن يكون حليمًا مفطُورًا على الخير، مجبُولاً عليه، وهذا كأشَجِّ عبد القيس الذي قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:«إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ، الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمُ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: «بَلِ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا» قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ»([5]).
وإما أن يكون ثائِرَ النفس، أزعَجَه من ظَلَمَه، فيصبِرُ مُحتسِبًا، ويصفَحُ قادِرًا، ويأمره إيمانُه بالعُرْفِ، والعفوِ عن الجاهلين، وهذا هو المُثابُ في الدنيا والآخرة، والمشكورُ عند الله وعند خَلقه، وهو الموصوفُ بالشدَّة والقوَّة، كما في قولهِ - صلى الله عليه وسلم -:«لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»([6]).
وهو المقصودُ أيضًا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: « مَنْ كَظَمَ غَيْظًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاء »([7]).
أيها الناس:
إن قلَّةَ الحِلمِ وكثرةَ الغضب آفتان اثنتان، إذا استَشرَتَا في مُجتمعٍ ما قوَّضَتا بُنيَانَه، وهدَّمَتا أركانَه، وقادَتَا المُجتمعَ إلى هُوَّةٍ سحيقةٍ بعد أن كانتا كالسُّوس ينخَرُ في جسد المجتمع المسلم حتى يُودِيَ به إلى الهلاكِ - والعياذ بالله -.
وإلا فما تفسيرُ ضياع المجتمعات المسلمة، واندِثَار آدابها وأخلاقها، وانتِشارِ الشتائِمِ والفُحش بين أفرادها على كافَّة الأصعِدَة، مما ساعَدَ على تقطيعِ الأواصِرِ والروابِطِ، وإشاعة أجواء التباغُض والتدابُر والتحاسُد، وإظهار الشماتَةِ على الأمة المسلمة من قِبَل أعدائها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عَائِشَةُ» إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاه »([8]).
وهل الطلاقُ وما يكون بين الزوجَين من الشِّقاقِ، الذي أدَّى بالزوج إلى كسرِ ضِلَعها وضياعِ أمرها، إلا نتيجة الغضب وقلَّة الحِلم؟! ثم بعد ذلك يندَمُ، ولاتَ ساعةَ مندَم، ويتأسَّفُ على ما مضَى، ويرى أنه قد جنَى على نفسِه بالحِرمَان، وعلى زوجته بالعقوبةِ ولا ذنبَ لها، ويتَّمَ أولادَه وهو لم يزَلْ حيًّا.
ثم لا تسَلْ بعد ذلك عن مُحاولات هذا الغِرِّ في الرجوعِ إلى زوجته، واختِلاقِ الكذِبِ والمعاذِير، فيذهَبُ من قاضٍ إلى آخر، ومن مُفتٍ لآخر، ويستَعينُ على حاجته بكل بَرٍّ وفاجِرٍ، كلُّ ذلك لمَحوِ غلطةٍ ارتَكَبَها دون تفكُّرٍ أو روِيَّةٍ، أو تدرُّجٍ في التأديب، مما تسبَّبَ في هَدم لبِنَةٍ كان بإمكانِهِ مُعالجَتُها لو مَلَكَ عقلَه، وأشهَرَ حِلمَه، وكفَّ غضبَه.
وما ذنبُ الولد إذا خرَجَ من بيته هَلِعًا مُكفهِرًّا وجهه، ضائِقًا صدرُه، ينطلِقُ يمنةً ويسرَةً، يبحثُ عن سببٍ يُزيلُ به همَّه، ويجلُو به غمَّه، وسواءٌ عنده تلك الأسباب كانت من الحلال أم من الحرام، ولربما استبشَرَ به وبأمثاله وحوشُ الظلام، وذئابُ المجتمع، فيسير وراء تخبُّطِهم، ويضيعُ بضياعِهم.
كل ذلك نتيجةُ غضبةٍ من أبيه أو أمِّهِ، أعقَبَها سبٌّ وشتمٌ ولطمٌ، وربما طردٌ ولعنٌ، فيُبدِّدُ بذلك شملَ الأسرة، ويجعلُ البيتَ نارًا أو بُركانًا ثائرًا، وإن سمِعَ من جاره شيئًا غضِبَ، وردَّ أكثرَ مما قيل له، أو فُعِل به، فيُصبِحُ الجيرانُ أعداءً له وخُصُومًا، يكسِبُ في كل يوم عدوًّا، ويفقِدُ صديقًا، ويهدِمُ بيتًا، وربما خسِرَ تجارتَه، وطُرِد من وظيفتِه.
أعاذَنا الله وإياكم من الغضب، ومن سُوءه وآثاره، ورَزَقَنا وإياكم الحِلمَ والتحلُّمَ، إنه سميعٌ قريبٌ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ï´؟وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَï´¾ [آل عمران: 133، 134].
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولِي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِرُوه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلى رِضوانه، صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى أصحابِه وأتباعه وإخوانه.
أما بعد .. فيا أيها الناس:
اتَّقُوا الله، واعلَموا أنه يجبُ علينا جميعًا أن نعمل بتعاليم ديننا الحَنيف، وأن نأخُذ بإرشادات نبيِّنَا - صلواتُ الله وسلامُه عليه -، كما يجبُ علينا أن نقصُر أنفسَنا عن الغضَبِ، ولا نتسرَّع فيما يعودُ علينا بالحسرَةِ والندامَةِ.
والمرءُ المسلم مُطالَبٌ بكِتمان غيظِه، وإطفاءِ غضبه بما استطاعَ من تحلُّم وتصبُّر، واستعاذَةٍ بالله من النفسِ والهوَى والشيطان، وعليه أن يترفَّق أولاً في أهله، وثانيًا برعيَّتِه وجيرانه، وعُملائه ومُواطِنيه، فلا يكونُ عونًا لزوجته على النُّشُوز، ولأبنائه على العُقُوق، ولجيرانه على الإساءة، ولرعيَّته على التمرًّد، وللناس كافَّة على هجره ومُجانَبَته.
ويختلفُ الغضبُ في دُنيا الناس؛ إذ يتراوَحُ صعودًا وهبوطًا باختلاف الأحوال والظروف، ولكنه من خلال الإطار الشرعي لا يخرجُ عن ثلاث مراتب:
المرتبةُ الأولى: مرتبةُ الاعتدال، بأن يغضَبَ ليُدافِع عن نفسه أو دينه أو عِرضه أو ماله، ولولا ذلك لفسَدَت الأرضُ بانتشار الفوضَى، وتقويضِ نظام الاجتماع، كما قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»([9]).
المرتبةُ الثانية: أن ينحَطَّ الغضبُ عن الاعتدال، بأن يضعُف في الإنسان، أو يُفقَد بالكلية، وهذه الحالُ مذمومةٌ شرعًا، لاسيَّما إذا تعلَّقَت بحُرُمات الله، قالت عائشةُ - رضي الله عنها -:« مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً لَهُ قَطُّ، وَلَا جَلَدَ خَادِمًا لَهُ قَطُّ، وَلَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ تُنْتَهَكُ مَحَارِمُ اللهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ »([10]).
والمرتبةُ الثالثة: أن يطغَى الغضبُ على العقل والدين، وربما جرَّ صاحبه إلى ارتِكاب جرائِم كبيرة، ومُوبِقات كثيرة، ولا يمكن التخلُّص من هذه العقَبَة إلا بفعلِ ما أرشَدَ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ»([11]).
واستَبَّ رجُلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاحمَرَّ وجهُ أحدهما غضَبًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -:« إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ»([12]).
هذا وصلُّوا - رحِمَكم الله - على خير البريَّة، وأزكَى البشريَّة: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، صاحبِ الوجهِ الأنوَر، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن الخلفاء المهديِّين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وجُودِك وكرمِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداءَك أعداءَ الدين، واجعَل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا، وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهم انصُر من نصرَ الدين، اللهم انصُر من نصرَ الدين، واخذُل من خذَلَ عبادَك المُؤمنين يارب العالمين.
اللهم أصلِح أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورِنا، واجعَل ولايتَنا فيمن خافَكَ واتَّقاكَ، واتَّبعَ رِضاكَ ياربَّ العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيته للبرِّ والتقوى، اللهم أصلِح له بِطانَتَه يا ذا الجلال والإكرام.
ï´؟رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِï´¾ [البقرة: 201].
اللهم احفَظنا بالإسلام قائِمين، واحفَظنا بالإسلام قاعِدين، واحفَظنا بالإسلام راقِدين، ولا تُشمِت بنا الأعداءَ ولا الحاسِدين برحمتِك يا أرحم الراحمين.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، واغفِر لنا إنك أنت الغفورُ الرحيم.
عباد الله:
اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكُركُم، واشكُروه على نعمِه يزِدكُم، ولذِكرُ الله أكبرُ، والله يعلمُ ما تصنَعون.
([1]) أخرجه الشوكاني في "فتح القدير" (2/69).
([2]) متفق عليه: أخرجه البخاري في "صحيحه" باب: [خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ] (1/19) برقم: [48]، وأخرجه مسلم في "صحيحه" باب: [بَيَانِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»] (1/81) برقم: [64].
([3]) أخرجه أحمد في "المسند"(7/60)، برقم: [3948].
([4]) أخرجه مسلم في "صحيحه" باب: [النَّهْيِ عَنِ السِّبَابِ](4/2000)، برقم: [2587].
([5]) أخرجه أحمد في "المسند" (39/490)، وأخرجه أبو داود في "سننه" باب: [ ](4/357) برقم: [5225]، وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (5/275) برقم: [5313]، وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (11/294) برقم: [8560].
([6]) متفق عليه: أخرجه البخاري في "صحيحه" باب: [الحَذَرِ مِنَ الغَضَبِ](8/28)، برقم: [6114]، وأخرجه مسلم في "صحيحه" باب: [فَضْلِ مَنْ يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَذْهَبُ الْغَضَبُ](4/2014)، برقم: [2609].
([7]) أخرجه أحمد في "المسند" (24/398)، برقم: [15637]، وأخرجه ابن ماجه في "سننه" باب: [الْحِلْمِ](2/1400)، برقم: [4186]، وأخرجه أبو داود في "سننه" باب: [مَنْ كَظَمَ غَيْظًا ](4/248)، برقم: [4777]، وأخرجه الترمذي في "سننه" (4/656)، برقم: [2493]، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (2/1112)، برقم: [6520].
([8]) أخرجه مسلم في "صحيحه" باب: [ فضل الرفق ](4/2003)، برقم: [2593].
([9]) أخرجه أحمد في "المسند" (3/190) برقم: [1652]، وأخرجه أبو داود في "سننه" باب: [فِي قِتَالِ اللُّصُوصِ](4/246) برقم: [4772]، وأخرجه الترمذي في "سننه" باب: [مَا جَاءَ فِيمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ](4/30) برقم: [1421]، وأخرجه النسائي في "سننه" باب: [مَنْ قَاتَلَ دُونَ أَهْلِهِ](3/454) برقم: [3543]، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2/1047) برقم: [3529].
([10]) أخرجه أحمد في "المسند" (43/410)، برقم: [26404]، وأخرجه النسائي في "السنن الكبرى" باب: [ضرب الرجل زوجته] (8/262)، برقم: [9119]، وأخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (4/303)، برقم: [4266]، وصححه شعيب الأرنؤوط في "تحقيقه على مسند أحمد".
([11]) أخرجه أحمد في "المسند" (4/39)، برقم: [2135]، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1/180)، برقم: [690].
([12]) متفق عليه: أخرجه البخاري في "صحيحه" باب:[ الحَذَرِ مِنَ الغَضَبِ ] (8/28) برقم:[ 6115]، وأخرجه مسلم في "صحيحه" باب: [فَضْلِ مَنْ يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَذْهَبُ الْغَضَبُ](4/2015)، برقم: [2610].
المصدر موقع الشيخ سعود الشريم خطيب المسجد الحرام
السلام عليكم
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفُسِنا، ومن سيئات أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَï´¾ [آل عمران: 102].
ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاï´¾ [النساء: 1].
ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاï´¾ [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فاتَّقوا الله - أيها المسلمون -، اتَّقُوه في السرِّ والعَلَن؛ فإن تقوَى الله - عز وجل - سببُ الأمن في الدنيا والهدايةِ في الآخرة: ï´؟الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَï´¾ [الأنعام: 82].
عباد الله:
لقد دخَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكةَ عام الفتح، وقلبُهُ مُفعَمٌ بشُكر الله على نصرهِ لنبيِّه، وإنجازِ وعدِه له، كان مُمتَطِيًا ناقَتَه القَصوَاء وسارَ بها حتى بلغ الكعبة، فطافَ بالبيت سبعًا، ثم صلَّى خلفَ المقام، وجلَس في المسجد والناسُ من حولِهِ، والعيونُ شاخِصةٌ إليه، ينتظِرُون ما هو فاعِلٌ بأهل مكة الذين آذَوه وقاتَلُوه، وأخرَجُوه من بلده التي هي أحبُّ أرض الله إلى الله.
في تلك اللحظات الحَرِجَة تطلَّعَ القومُ، واشرَأَبُّوا إلى معرفةِ صنيعِهِ بأعدائه، وقد تكاثَرَ الناسُ حولَه في المسجد، فخطَبَهم وتَلا عليهم قولَ الله - عز وجل -: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْï´¾ [الحجرات: 13]، ثم سألَهم: «مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟ فَقَالُوا: أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ فَقَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»([1]).
فاستَرَدَّ أهل مكة أنفاسهم، وبدأت البيوت تُفتَحُ على مصارِيعِها لتُبايِعَ رسولَ الله - بأبي هو وأمي صلواتُ الله وسلامُه عليه -.
الله أكبر! ما أجمل العفوَ عند المقدرة! ومن أحقُّ بذلك إن لم يكُن رسولَ الله - صلواتُ الله وسلامُه عليه -، وصدقَ الله إذ يقول: ï´؟وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍï´¾ [القلم: 4].
عباد الله:
لقد برَزَ حِلمُ النبي - صلى الله عليه وسلم - جليًّا في هذا الموقف، والذي سارَ عليه الأنبياءُ من قبله؛ فهذا هودٌ - عليه السلام - يستمِعُ إلى إجابةِ قومه بعدما دعاهم إلى توحيدِ الله - عز وجل -: ï´؟إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌï´¾ [الأعراف: 66- 68].
إن شتائِمَ أولئك الجُهَّال لم يطِش لها حِلمُ هودٍ - عليه السلام -؛ لأن الشُّقَّة بعيدةٌ بين رجلٍ اصطَفَاه الله رسولاً، وبين قومٍ سفَّهُوا أنفسَهم، وتهاوَوا على عبادةِ الأصنامِ.
أيها المسلمون:
بهذا الموقفِ وبغيره من المواقف العظيمة، عالَجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - محوَ الجاهلية التي كانت تقومُ على نوعَين من الجهالة: جهالةٌ مُضادَّةٌ للدين والعلم، وأخرى مُضادَّةٌ للحِلم.
فأما الأولى: فقد قطَّعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ظلامَها بأنواع المعرفة والإرشاد.
وأما الأخرى: فقد كبَحَ الهوى، ومنَعَ الفسادَ فيها بحِلمِهِ وعفوِهِ، ï´؟وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَï´¾ [آل عمران: 159].
لقد كانت مواقِفُهُ - صلى الله عليه وسلم - ناسخةً للجاهلية الجَهْلاء التي كان يعيشُها العربُ، والتي بلَغَت من الغِلظَةِ والشِّدَّةِ ما صدَّها عن مكارِمِ الأخلاقِ، كما صوَّر ذلك بعضُهم في قوله:
ألا لا يجهَلَنْ أحدٌ علينا
فنجهَلُ فوق جَهلِ الجاهِلينَا
ولم يكن للجاهلية حينها إلا كأمثالِ شعرِ الحماسةِ والجهل، والفخرِ والحمِيَّة والهِجاء، فجاء الإسلامُ ليُكفْكِفَ من هذه النَّزَوَات، ويُقيمَ أركانَ المجتمع على الفضل وحُسن التخلُّق، ولم تتحقَّق هذه الغاية - بعد فضل الله - إلا عندما هيمَنَ العلمُ النافعُ، والعقلُ الراشدُ على غريزَةِ الجهل والغضَب.
وكثيرٌ من النصائح التي أسدَاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس كافَّة، كانت تتَّجِهُ إلى هذا الهدف، مما جعلَ المسلمين يعُدُّون مظاهرَ الطَّيش والتعدِّي، والعُنف والأذَى شُرودًا من القيود التي ربَطَ بها الإسلام الجماعةَ المسلمة، لئلا تمِيدَ ولا تضطرِب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:«سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»([2]).
إن من الناس من لا يسكُتُ عن الغضب، فهو في ثورةٍ دائمةٍ، وتغيُّظٍ يطبَعُ على وجهه العَبُوس، إذا مسَّهُ أحدٌ بأذَى ارتَعَشَ كالمحمُومِ، وأنشَأَ يُرغِي ويُزبِد، ويلعَنُ ويطعَن، والإسلامُ برِيءٌ من هذه الخِلال الكَدِرَة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ بِاللَّعَّانِ، وَلَا الطَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ»([3]).
وقد حرَّم الإسلام المُهاترات السفيهة، وتبادُل السِّباب بين المُتخاصِمين، وكم من معارك ضارِيَة تُبتذَلُ فيها الأعراضُ، وتُنتَهَكُ فيها الحُرُمات، وما لهذه الآثام الغليظة من عِلَّة إلا تسلُّطُ الغضب، وضياعُ الأدب، وأوزارُ هذه المعارك العنيفة الوضيعَة تعودُ على المُوقِدِ الأول لجَمرَتها، قال - صلواتُ الله وسلامُه عليه -:« الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ، مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ »([4]).
والمسلَكُ الأمثَلُ في ذلك كلِّه، والدالُّ على العظَمَة والمُرُوءة هو أن يبتَلِعَ المرءُ غضبَه فلا ينفَجِر، وأن يقبِضَ يدَه فلا يقتَصَّ، وأن يجعَلَ عفوَه عن المُسيء نوعًا من شُكر الله الذي أقدَرَه على أن يأخذ حقَّه إذا شاء.
قال الأحنفُ بن قيس - رحمه الله -: "احذَرُوا رأيَ الأوغاد"، قالوا: ومن هم؟ قال: "الذين يرَونَ العفوَ والصفحَ عارًا".
أيها الناس:
إن كمالَ العلم في الحِلمِ، ولِينُ الكلام مِفتاحُ القلوب، يستطيعُ المسلمُ من خلالِهِ، أن يُعالِجَ أمراضَ النفوس، وهو هادِئُ النفس، مُطمئِنُّ القلب، لا يستنفِرُه الغضبُ، ولا يستَثِيرُه الحُمقُ، فلو كان الداعِي سيِّءَ الخُلُق، جافِيَ النفس، قاسِيَ القلب، لانفَضَّ من حوله الناسُ، وانصَرَفُوا عنه، فحُرِموا الهدايةَ بأنوار دينهم، فعاشُوا وماتُوا جُهَّالاً، وذلك هو الشقاءُ وهو سببُه وعِلَّتُه.
وتتفَاوَتُ درجاتُ الناس في الثَّباتِ أمام المُثيرَات؛ فمنهم من تستخِفُّه التوافِهُ، فيستَحمِقُ على عجَلْ، ومنهم من تستفِزُّه الشدائِد، فيُبقِي على وَقعِها الأليم، مُحتفِظًا برجاحَةِ فِكرِه، وسَجَاحَةِ خُلُقِه.
والرجلُ الحليمُ حقًّا هو من إذا حلَّقَ في آفاق دُنيا الناس، اتَّسَعَ صدرُه، وامتَدَّ حِلمُه، وعذَرَ الناسَ من أنفسهم، والتَمَسَ المُبرِّرات لأغلاطِهم، فإذا ما عَدَا عليه غِرٌّ يريد تجرِيحَه نظَرَ إليه من عُلُوٍّ، وفعلَ كما قال الأحنفُ بن قيسٍ - رحمه الله -: "ما آذانِي أحدٌ إلا أخذتُ في أمرِه بإحدى ثلاث: إن كان فوقِي عرفتُ له فضلَه، وإن كان مثلِي تفضَّلتُ عليه، وإن كان دُونِي أكرَمتُ نفسي عنه".
وكان مشهورًا بالحِلمِ - رحمه الله -، وبذلك سادَ عشيرتَه، وقد قيل له: ممن تعلَّمتَ الحِلمَ؟ فقال: "من قيسِ بن عاصِمٍ، كنا نختَلِفُ إليه في الحِلم كما يختَلِفُ إليَّ الفقهاءُ في الفقهِ، ولقد حضَرتُ عنده يومًا، وقد أتَوهُ برجُلٍ قد قتَلَ ابنَه، فجاؤوا به مكتُوفًا، فقال: ذَعرتُم أخي، أطلِقُوه، واحمِلُوا إلى أم ولَدِي دِيَتَه، فإنها ليست من قومِنا".
عباد الله:
اعلَمُوا أن الحليمَ إما أن يكون عاجزًا جبانًا، ليس له شيءٌ ولا عليه شيءٌ، فهذا إن لم يغنَم فإنه لا يأثَم.
وإما أن يكون مُخادِعًا مكَّارًا، ظاهِرُه سَمتُ المُؤمنين، وباطِنُه حِقدُ المجرمين، يتحلَّمُ ظاهرًا، ويعُفُّ علَنًا، ولكنه يغضَبُ باطِنًا، وينتقِمُ مُسرِفًا، وهذا حَقودٌ لَدودٌ، لا يلبَث أن يفضَحَه الله على رءوس الناس.
وإما أن يكون حليمًا مفطُورًا على الخير، مجبُولاً عليه، وهذا كأشَجِّ عبد القيس الذي قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:«إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ، الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمُ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: «بَلِ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا» قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ»([5]).
وإما أن يكون ثائِرَ النفس، أزعَجَه من ظَلَمَه، فيصبِرُ مُحتسِبًا، ويصفَحُ قادِرًا، ويأمره إيمانُه بالعُرْفِ، والعفوِ عن الجاهلين، وهذا هو المُثابُ في الدنيا والآخرة، والمشكورُ عند الله وعند خَلقه، وهو الموصوفُ بالشدَّة والقوَّة، كما في قولهِ - صلى الله عليه وسلم -:«لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»([6]).
وهو المقصودُ أيضًا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: « مَنْ كَظَمَ غَيْظًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاء »([7]).
أيها الناس:
إن قلَّةَ الحِلمِ وكثرةَ الغضب آفتان اثنتان، إذا استَشرَتَا في مُجتمعٍ ما قوَّضَتا بُنيَانَه، وهدَّمَتا أركانَه، وقادَتَا المُجتمعَ إلى هُوَّةٍ سحيقةٍ بعد أن كانتا كالسُّوس ينخَرُ في جسد المجتمع المسلم حتى يُودِيَ به إلى الهلاكِ - والعياذ بالله -.
وإلا فما تفسيرُ ضياع المجتمعات المسلمة، واندِثَار آدابها وأخلاقها، وانتِشارِ الشتائِمِ والفُحش بين أفرادها على كافَّة الأصعِدَة، مما ساعَدَ على تقطيعِ الأواصِرِ والروابِطِ، وإشاعة أجواء التباغُض والتدابُر والتحاسُد، وإظهار الشماتَةِ على الأمة المسلمة من قِبَل أعدائها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عَائِشَةُ» إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاه »([8]).
وهل الطلاقُ وما يكون بين الزوجَين من الشِّقاقِ، الذي أدَّى بالزوج إلى كسرِ ضِلَعها وضياعِ أمرها، إلا نتيجة الغضب وقلَّة الحِلم؟! ثم بعد ذلك يندَمُ، ولاتَ ساعةَ مندَم، ويتأسَّفُ على ما مضَى، ويرى أنه قد جنَى على نفسِه بالحِرمَان، وعلى زوجته بالعقوبةِ ولا ذنبَ لها، ويتَّمَ أولادَه وهو لم يزَلْ حيًّا.
ثم لا تسَلْ بعد ذلك عن مُحاولات هذا الغِرِّ في الرجوعِ إلى زوجته، واختِلاقِ الكذِبِ والمعاذِير، فيذهَبُ من قاضٍ إلى آخر، ومن مُفتٍ لآخر، ويستَعينُ على حاجته بكل بَرٍّ وفاجِرٍ، كلُّ ذلك لمَحوِ غلطةٍ ارتَكَبَها دون تفكُّرٍ أو روِيَّةٍ، أو تدرُّجٍ في التأديب، مما تسبَّبَ في هَدم لبِنَةٍ كان بإمكانِهِ مُعالجَتُها لو مَلَكَ عقلَه، وأشهَرَ حِلمَه، وكفَّ غضبَه.
وما ذنبُ الولد إذا خرَجَ من بيته هَلِعًا مُكفهِرًّا وجهه، ضائِقًا صدرُه، ينطلِقُ يمنةً ويسرَةً، يبحثُ عن سببٍ يُزيلُ به همَّه، ويجلُو به غمَّه، وسواءٌ عنده تلك الأسباب كانت من الحلال أم من الحرام، ولربما استبشَرَ به وبأمثاله وحوشُ الظلام، وذئابُ المجتمع، فيسير وراء تخبُّطِهم، ويضيعُ بضياعِهم.
كل ذلك نتيجةُ غضبةٍ من أبيه أو أمِّهِ، أعقَبَها سبٌّ وشتمٌ ولطمٌ، وربما طردٌ ولعنٌ، فيُبدِّدُ بذلك شملَ الأسرة، ويجعلُ البيتَ نارًا أو بُركانًا ثائرًا، وإن سمِعَ من جاره شيئًا غضِبَ، وردَّ أكثرَ مما قيل له، أو فُعِل به، فيُصبِحُ الجيرانُ أعداءً له وخُصُومًا، يكسِبُ في كل يوم عدوًّا، ويفقِدُ صديقًا، ويهدِمُ بيتًا، وربما خسِرَ تجارتَه، وطُرِد من وظيفتِه.
أعاذَنا الله وإياكم من الغضب، ومن سُوءه وآثاره، ورَزَقَنا وإياكم الحِلمَ والتحلُّمَ، إنه سميعٌ قريبٌ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ï´؟وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَï´¾ [آل عمران: 133، 134].
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولِي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِرُوه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلى رِضوانه، صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى أصحابِه وأتباعه وإخوانه.
أما بعد .. فيا أيها الناس:
اتَّقُوا الله، واعلَموا أنه يجبُ علينا جميعًا أن نعمل بتعاليم ديننا الحَنيف، وأن نأخُذ بإرشادات نبيِّنَا - صلواتُ الله وسلامُه عليه -، كما يجبُ علينا أن نقصُر أنفسَنا عن الغضَبِ، ولا نتسرَّع فيما يعودُ علينا بالحسرَةِ والندامَةِ.
والمرءُ المسلم مُطالَبٌ بكِتمان غيظِه، وإطفاءِ غضبه بما استطاعَ من تحلُّم وتصبُّر، واستعاذَةٍ بالله من النفسِ والهوَى والشيطان، وعليه أن يترفَّق أولاً في أهله، وثانيًا برعيَّتِه وجيرانه، وعُملائه ومُواطِنيه، فلا يكونُ عونًا لزوجته على النُّشُوز، ولأبنائه على العُقُوق، ولجيرانه على الإساءة، ولرعيَّته على التمرًّد، وللناس كافَّة على هجره ومُجانَبَته.
ويختلفُ الغضبُ في دُنيا الناس؛ إذ يتراوَحُ صعودًا وهبوطًا باختلاف الأحوال والظروف، ولكنه من خلال الإطار الشرعي لا يخرجُ عن ثلاث مراتب:
المرتبةُ الأولى: مرتبةُ الاعتدال، بأن يغضَبَ ليُدافِع عن نفسه أو دينه أو عِرضه أو ماله، ولولا ذلك لفسَدَت الأرضُ بانتشار الفوضَى، وتقويضِ نظام الاجتماع، كما قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»([9]).
المرتبةُ الثانية: أن ينحَطَّ الغضبُ عن الاعتدال، بأن يضعُف في الإنسان، أو يُفقَد بالكلية، وهذه الحالُ مذمومةٌ شرعًا، لاسيَّما إذا تعلَّقَت بحُرُمات الله، قالت عائشةُ - رضي الله عنها -:« مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً لَهُ قَطُّ، وَلَا جَلَدَ خَادِمًا لَهُ قَطُّ، وَلَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ تُنْتَهَكُ مَحَارِمُ اللهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ »([10]).
والمرتبةُ الثالثة: أن يطغَى الغضبُ على العقل والدين، وربما جرَّ صاحبه إلى ارتِكاب جرائِم كبيرة، ومُوبِقات كثيرة، ولا يمكن التخلُّص من هذه العقَبَة إلا بفعلِ ما أرشَدَ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ»([11]).
واستَبَّ رجُلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاحمَرَّ وجهُ أحدهما غضَبًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -:« إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ»([12]).
هذا وصلُّوا - رحِمَكم الله - على خير البريَّة، وأزكَى البشريَّة: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، صاحبِ الوجهِ الأنوَر، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن الخلفاء المهديِّين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وجُودِك وكرمِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداءَك أعداءَ الدين، واجعَل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا، وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهم انصُر من نصرَ الدين، اللهم انصُر من نصرَ الدين، واخذُل من خذَلَ عبادَك المُؤمنين يارب العالمين.
اللهم أصلِح أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورِنا، واجعَل ولايتَنا فيمن خافَكَ واتَّقاكَ، واتَّبعَ رِضاكَ ياربَّ العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيته للبرِّ والتقوى، اللهم أصلِح له بِطانَتَه يا ذا الجلال والإكرام.
ï´؟رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِï´¾ [البقرة: 201].
اللهم احفَظنا بالإسلام قائِمين، واحفَظنا بالإسلام قاعِدين، واحفَظنا بالإسلام راقِدين، ولا تُشمِت بنا الأعداءَ ولا الحاسِدين برحمتِك يا أرحم الراحمين.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، واغفِر لنا إنك أنت الغفورُ الرحيم.
عباد الله:
اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكُركُم، واشكُروه على نعمِه يزِدكُم، ولذِكرُ الله أكبرُ، والله يعلمُ ما تصنَعون.
([1]) أخرجه الشوكاني في "فتح القدير" (2/69).
([2]) متفق عليه: أخرجه البخاري في "صحيحه" باب: [خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ] (1/19) برقم: [48]، وأخرجه مسلم في "صحيحه" باب: [بَيَانِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»] (1/81) برقم: [64].
([3]) أخرجه أحمد في "المسند"(7/60)، برقم: [3948].
([4]) أخرجه مسلم في "صحيحه" باب: [النَّهْيِ عَنِ السِّبَابِ](4/2000)، برقم: [2587].
([5]) أخرجه أحمد في "المسند" (39/490)، وأخرجه أبو داود في "سننه" باب: [ ](4/357) برقم: [5225]، وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (5/275) برقم: [5313]، وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (11/294) برقم: [8560].
([6]) متفق عليه: أخرجه البخاري في "صحيحه" باب: [الحَذَرِ مِنَ الغَضَبِ](8/28)، برقم: [6114]، وأخرجه مسلم في "صحيحه" باب: [فَضْلِ مَنْ يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَذْهَبُ الْغَضَبُ](4/2014)، برقم: [2609].
([7]) أخرجه أحمد في "المسند" (24/398)، برقم: [15637]، وأخرجه ابن ماجه في "سننه" باب: [الْحِلْمِ](2/1400)، برقم: [4186]، وأخرجه أبو داود في "سننه" باب: [مَنْ كَظَمَ غَيْظًا ](4/248)، برقم: [4777]، وأخرجه الترمذي في "سننه" (4/656)، برقم: [2493]، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (2/1112)، برقم: [6520].
([8]) أخرجه مسلم في "صحيحه" باب: [ فضل الرفق ](4/2003)، برقم: [2593].
([9]) أخرجه أحمد في "المسند" (3/190) برقم: [1652]، وأخرجه أبو داود في "سننه" باب: [فِي قِتَالِ اللُّصُوصِ](4/246) برقم: [4772]، وأخرجه الترمذي في "سننه" باب: [مَا جَاءَ فِيمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ](4/30) برقم: [1421]، وأخرجه النسائي في "سننه" باب: [مَنْ قَاتَلَ دُونَ أَهْلِهِ](3/454) برقم: [3543]، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2/1047) برقم: [3529].
([10]) أخرجه أحمد في "المسند" (43/410)، برقم: [26404]، وأخرجه النسائي في "السنن الكبرى" باب: [ضرب الرجل زوجته] (8/262)، برقم: [9119]، وأخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (4/303)، برقم: [4266]، وصححه شعيب الأرنؤوط في "تحقيقه على مسند أحمد".
([11]) أخرجه أحمد في "المسند" (4/39)، برقم: [2135]، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1/180)، برقم: [690].
([12]) متفق عليه: أخرجه البخاري في "صحيحه" باب:[ الحَذَرِ مِنَ الغَضَبِ ] (8/28) برقم:[ 6115]، وأخرجه مسلم في "صحيحه" باب: [فَضْلِ مَنْ يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَذْهَبُ الْغَضَبُ](4/2015)، برقم: [2610].
المصدر موقع الشيخ سعود الشريم خطيب المسجد الحرام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق