أخرج الإمام البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خطّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خطًا مربَّعًا، وخطّ خطًا في الوسط خارجًا منه، وخطّ خططًا صغارًا إلى هذا الّذي في الوسط من جانبه الّذي في الوسط وقال: ”هذا الإنسان وهذا أجله محيط به -أو قد أحاط به- وهذا الّذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا”.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: المراد بالأعراض الآفات العارضة له، فإن سلم من هذا لم يسلم من هذا، وإن سلم من الجميع ولم تصبه آفة من مرض أو فقد مال أو غير ذلك بغته الأجل، والحاصل أنّ من لم يمُت بالسّيف مات بالأجل، وفي الحديث إشارة إلى الحضّ على قِصَر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل، وعبّر بالنّهش وهو لدغ ذات السمّ مبالغة في الإصابة والإهلاك.
اعلم رعاك الله أنّ طول الأمل نوعان: مشروع ومذموم؛ أمّا المشروع: فهو ما يحمل الإنسان على العمل لنفسه ولمَن بعده، دون أن يغفل عن الموت، فهذا أمر مشروع معقول، يدلّ على كمال عقل صاحبه، فربّنا سبحانه أمرنا بعمارة الأرض، وأمرنا بالزّواج، وأمرنا بالعلم والعمل، وقد كان المصطفى صلّى الله عليه وسلّم يخطّط لأعمال سنة بكاملها بل لعشرات السنين.
وأمّا طول الأمل المذموم: فهو الغفلة عن الموت، ونسيان لقاء المولى سبحانه، وهذا داء عضال ومرض قتَّال، يفسد القلب ويقود صاحبه إلى عالم الخيال والأوهام، وصاحب هذا الأمل يكبر ويكبر معه الحرص وطول الأمل: ”يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان حبّ المال وطول العمر”.
وإنّما كان طول الأمل من أسباب الانحراف والزّيغ عن سبيل الحقّ لأنّه يجرّ إلى التّسويف، وتأخير التّوبة، والتّماطل في ردّ الحقوق، وقد قال بعض السلف: إيّاك وسوف، فإنّها من جند إبليس، وليس هناك من علاج لهذا الدّاء القتَّال إلّا دواء واحد هو تذكّر الموت.
هـو المـوت ما منه ملاذ ومهرب
متى حُطَّ ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالًا ونرجو نتاجها
ولعلّ الموت ممّا نرجِّي أقرب
فالمسلم مطالَب بأن يخرج من الدّنيا قبل أن يُخرج منها، وقد تعاضدت النصوص الّتي تذمّ طول الأمل، وتأمر بتذكّر الموت، منها ما يجعل الموت أقرب شيء إلينا، لذلك في وقت ندبنا ربّنا للعمل في هذه الدّنيا نرى أنّه يحضّنا على تذكّر الموت في كلّ لحظة من لحظاتنا، وفي كلّ خطرة من خطراتنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، قال قتادة رحمه الله: ما زال ربُّكم يقرب السّاعة حتّى سمّاها غدًّا.
وتذكّر الموت أيضًا يدفع للعمل، ويقطع الأمل، يقول سيّد الخلق صلّى الله عليه وسلّم: ”أكْثِروا مِن ذِكْر هاذم اللّذات، فإنّه ما ذكره أحد في ضيْق إلّا وسعه الله، ولا ذكره في سعة إلّا ضيّقها عليه”، كما أنّه من أكبر الأدلة على عقل المرء وفطنته، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كنتُ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاءه رجل من الأنصار فسلّم عليه ثمّ قال: يا رسول الله أيُّ المؤمنين أفضل؟ قال: ”أحسنهم خُلُقًا”، قال: فأيُّ المؤمنين أكيس؟ قال: ”أكثرُهُم للموت ذِكْرًا، وأحسنُهُم لمَا بعده استعدادًا، أولئك الأكياس”.
وذكر الموت من أعظم مظاهر الحياء من الباري سبحانه، فعند الترمذي في جامعه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”استحيُوا من الله حقّ الحياء”، قال: قلنا: إنا نستحيي والحمد لله، قال: ”ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حقّ الحياء أن تحفظ الرأس وما وَعَى، والبطن وما حَوَى، ولتذكر الموت والبلى، ومَن أراد الآخرة ترك زينة الدّنيا، فمَن فعل ذلك فقد استحيَا من الله حقّ الحياء”.
وفي المقابل فإنّ نسيان الموت يعدّ من أسباب الهلاك، فعنه صلّى الله عليه وسلّم قال: ”أوّل صلاح هذه الأمّة باليقين والزُّهد، وأوّل فسادها بالبخل والأمل”، وأخبر المصطفى صلّى الله عليه وسلّم أصحابه أنّ هذه الأمّة سوف تصاب بشلل في معظم أجزائها، حتّى يحلّ العدوّ بفنائها: ”يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كلّ أُفُق، كما تداعى الأكلة على قصعتها”، قالوا: أَمِن قِلَّة بنا يومئذ؟ قال: ”أنتُم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السّيْل، ولينزعن الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهَن”، فقالوا: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: ”حبُ الدّنيا وكراهية الموت”.
هكذا تبيّن لنا أنّ طول الأمل، والغفلة عن الموت من أعظم أسباب انحراف الخلق عن منهج الحقّ، يقول ابن رجب رحمه الله: إنّ المؤمن لا ينبغي له أن يتّخِذ الدّنيا وطنًا ومسكنًا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنّه على جناح سفر يهيئ جهازه للرّحيل.
منقول
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: المراد بالأعراض الآفات العارضة له، فإن سلم من هذا لم يسلم من هذا، وإن سلم من الجميع ولم تصبه آفة من مرض أو فقد مال أو غير ذلك بغته الأجل، والحاصل أنّ من لم يمُت بالسّيف مات بالأجل، وفي الحديث إشارة إلى الحضّ على قِصَر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل، وعبّر بالنّهش وهو لدغ ذات السمّ مبالغة في الإصابة والإهلاك.
اعلم رعاك الله أنّ طول الأمل نوعان: مشروع ومذموم؛ أمّا المشروع: فهو ما يحمل الإنسان على العمل لنفسه ولمَن بعده، دون أن يغفل عن الموت، فهذا أمر مشروع معقول، يدلّ على كمال عقل صاحبه، فربّنا سبحانه أمرنا بعمارة الأرض، وأمرنا بالزّواج، وأمرنا بالعلم والعمل، وقد كان المصطفى صلّى الله عليه وسلّم يخطّط لأعمال سنة بكاملها بل لعشرات السنين.
وأمّا طول الأمل المذموم: فهو الغفلة عن الموت، ونسيان لقاء المولى سبحانه، وهذا داء عضال ومرض قتَّال، يفسد القلب ويقود صاحبه إلى عالم الخيال والأوهام، وصاحب هذا الأمل يكبر ويكبر معه الحرص وطول الأمل: ”يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان حبّ المال وطول العمر”.
وإنّما كان طول الأمل من أسباب الانحراف والزّيغ عن سبيل الحقّ لأنّه يجرّ إلى التّسويف، وتأخير التّوبة، والتّماطل في ردّ الحقوق، وقد قال بعض السلف: إيّاك وسوف، فإنّها من جند إبليس، وليس هناك من علاج لهذا الدّاء القتَّال إلّا دواء واحد هو تذكّر الموت.
هـو المـوت ما منه ملاذ ومهرب
متى حُطَّ ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالًا ونرجو نتاجها
ولعلّ الموت ممّا نرجِّي أقرب
فالمسلم مطالَب بأن يخرج من الدّنيا قبل أن يُخرج منها، وقد تعاضدت النصوص الّتي تذمّ طول الأمل، وتأمر بتذكّر الموت، منها ما يجعل الموت أقرب شيء إلينا، لذلك في وقت ندبنا ربّنا للعمل في هذه الدّنيا نرى أنّه يحضّنا على تذكّر الموت في كلّ لحظة من لحظاتنا، وفي كلّ خطرة من خطراتنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، قال قتادة رحمه الله: ما زال ربُّكم يقرب السّاعة حتّى سمّاها غدًّا.
وتذكّر الموت أيضًا يدفع للعمل، ويقطع الأمل، يقول سيّد الخلق صلّى الله عليه وسلّم: ”أكْثِروا مِن ذِكْر هاذم اللّذات، فإنّه ما ذكره أحد في ضيْق إلّا وسعه الله، ولا ذكره في سعة إلّا ضيّقها عليه”، كما أنّه من أكبر الأدلة على عقل المرء وفطنته، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كنتُ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاءه رجل من الأنصار فسلّم عليه ثمّ قال: يا رسول الله أيُّ المؤمنين أفضل؟ قال: ”أحسنهم خُلُقًا”، قال: فأيُّ المؤمنين أكيس؟ قال: ”أكثرُهُم للموت ذِكْرًا، وأحسنُهُم لمَا بعده استعدادًا، أولئك الأكياس”.
وذكر الموت من أعظم مظاهر الحياء من الباري سبحانه، فعند الترمذي في جامعه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”استحيُوا من الله حقّ الحياء”، قال: قلنا: إنا نستحيي والحمد لله، قال: ”ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حقّ الحياء أن تحفظ الرأس وما وَعَى، والبطن وما حَوَى، ولتذكر الموت والبلى، ومَن أراد الآخرة ترك زينة الدّنيا، فمَن فعل ذلك فقد استحيَا من الله حقّ الحياء”.
وفي المقابل فإنّ نسيان الموت يعدّ من أسباب الهلاك، فعنه صلّى الله عليه وسلّم قال: ”أوّل صلاح هذه الأمّة باليقين والزُّهد، وأوّل فسادها بالبخل والأمل”، وأخبر المصطفى صلّى الله عليه وسلّم أصحابه أنّ هذه الأمّة سوف تصاب بشلل في معظم أجزائها، حتّى يحلّ العدوّ بفنائها: ”يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كلّ أُفُق، كما تداعى الأكلة على قصعتها”، قالوا: أَمِن قِلَّة بنا يومئذ؟ قال: ”أنتُم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السّيْل، ولينزعن الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهَن”، فقالوا: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: ”حبُ الدّنيا وكراهية الموت”.
هكذا تبيّن لنا أنّ طول الأمل، والغفلة عن الموت من أعظم أسباب انحراف الخلق عن منهج الحقّ، يقول ابن رجب رحمه الله: إنّ المؤمن لا ينبغي له أن يتّخِذ الدّنيا وطنًا ومسكنًا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنّه على جناح سفر يهيئ جهازه للرّحيل.
منقول