المختار من المبيح والمحرِّم عند التّعارض.
الملتقى الفقهي: قاسم عبدالواحد
الحمد لله ربّ العالمين, والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, سيّدنا ونبيّنا محمد الأمين, وعلى آله وصحبه أجمعين.فإذا وجدنا دليلين متعارضين في شيء معيَّن: أحدهما يتضمّن تحريمه والحذر منه, والآخر يتضمّن تحليله وإباحته, فما هو المرجَّح المعمول به بينهما عند علماء الأصول؟.
نقول وبالله التّوفيق: اختلفت آراء علماء الأصول في هذه المسألة؛ ولهم فيها ثلاثة آراء:
الرأي الأوّل: ذهب جهور الأصوليّين إلى ترجيح ما دلّ على التّحريم على ما دلّ على الإباحة[1].
قال الآمدي: ذهب الأكثر كأصحابنا, وأحمد بن حنبل, والكرخي والرازي من أصحاب أبي حنيفة إلى أن الحاظر أولى[2].
الأدلّة:
الدّليل الأوّل: ما أخرجه الحاكم في المستدرك؛ من حديث الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى مالا يريبك»[3].
وجه الدلالة: أنّ جواز هذا الفعل يريبه؛ لأنه بين أن يكون حراما وبين أن يكون مباحا, فما يريبه جواز فعله يجب تركه[4].
الدّليل الثّاني: ما أخرجه الإمام مالك في الموطأ؛ من طريق ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب، أن رجلا سأل عثمان بن عفان عن الأختين من ملك اليمين, هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان: أحلتهما آية، وحرمتهما آية، فأما أنا, فلا أحب أن أصنع ذلك[5]. فغلّب – رضي الله عنه – المحرّم على المبيح احتياطا.
الدّليل الثَّالث: الاستدلال بالقاعدة الفقهيّة: إذا اجتمع الحلال والحرام أو المحرم والمبيح غلب الحرام والمحرم[6]. وبلفظ: إذا اجتمع الحظر والإباحة كان الحكم للحظر[7].
الدّليل الرابع: أنه دار بين أن يرتكب الحرام أو يترك المباح, وترك المباح أولى, فكان الترجيح للمحرم احتياطا[8].
نوقش: بأنّه لا يمتنع أيضا أن يكون مباحا, فيكون باعتقاده الحظر مقدما على مالا يأمن كونه جهلا.
أجيب: بأنّه إذا استباح المحظور فقد أقدم على محظورين أحدهما: الفعل.
والثاني: اعتقاد إباحته, وليس كذلك إذا امتنع من المباح؛ لاعتقاد حظره؛ لأنه محظور واحد, والغرض هو الترجيح بضرب من القوة[9].
الرّأي الثَّاني في المسألة: وذهب بعضهم إلى ترجيح ما دلّ على الإباحة على ما دلّ على التّحريم[10].
التعليلات:
التّعليل الأوّل: أن الخبر المبيح قد تقوّى بالأصل؛ وهو الإباحة المستلزمة لنفي الحرج.
التّعليل الثّاني: أن النبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – كان يحب التخفيف على أمته؛ والأخبار في ذلك كثيرة, فكان المباح أولى[11].
الرّأي الثَّالث: وذهب بعض المالكيّة, وبعض الشّافعيّة إلى أنّه يتساوى ما دلّ على التّحريم مع ما دلّ على الإباحة؛ ولا يرجّح أحدهما الآخر[12].
قال الغزالي: الخبر الحاظر لا يرجح على المبيح على ما ظنه قوم؛ لأنهما حكمان شرعيان صدق الراوي فيهما على وتيرة واحدة[13].
التَّرجيح: الحق – والله تعالى أعلم – في الأخذ بالقول الأوّل الذي عليه جمهور الأصوليين؛ وهو القول بتقديم المحرِّم على المبيح؛ وذلك للأمور التالية:
الأمر الأوّل: قوة الأدلة التي استدلوا بها في المسألة.
الأمر الثاني: أن في ترجيح المحرم على المبيح أخذًا بالأحوط؛ وهو الأولى.
الأمر الثالث: أن في ترجيح المحرم على المبيح إعمالا لهذه القاعدة الفقهية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
أثر التّعارض بين الدليل المقتضي التحريم والمقتضي الإباحة:
من الآثار المترتبة على الاختلاف في المرجَّح بين الدليل المقتضي التحريم والمقتضي الإباحة اختلاف الفقهاء في كثير من الفروع الفقهية؛ التي تدور أدلتها المتعارضة بين التحريم والإباحة؛ ومن تلك المسائل على سبيل المثال لا الحصر مسألة نظر المرأة إلى الرجل.
فالفقهاء في مسألة نظر المرأة إلى الرجل مختلفون, ولهم فيها أقوال كثيرة, أشهرها قولان:
القول الأوّل: حرمة نظر المرأة إلى الرجل كحرمة نظره إليها. وعليه الشافعية, والحنابلة في رواية[14].
قال النووي: ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل الأجنبي لا إلى العورة ولا إلى غيرها من غير سبب[15].
الأدلة:
الدّليل الأول: قول الله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن}[16]. فأمرهن بغضّ البصر كما أمر الرّجال بذلك.
الدليل الثاني: ما أخرجه أبو داود والترمذي في سننهما؛ من طريق يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن نبهان، مولى أم سلمة، أنه حدثه أن أم سلمة حدثته؛ أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة قالت: فبينا نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احتجبا منه»، فقلت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه»[17].
الدّليل الثَّالث: ولأن النساء أحد نوعي الآدميين، فحرم عليهن النظر إلى النوع الآخر قياسا على الرجال، يحققه أن المعنى المحرم للنظر خوف الفتنة، وهذا في المرأة أبلغ، فإنها أشد شهوة، وأقل عقلا، فتسارع الفتنة إليها أكثر[18].
القول الثّاني في المسألة: جواز نظر المرأة إلى الرجل. وعليه الحنفية, والمالكيّة, والشافعية في قول, والحنابلة في المذهب[19].
قال في الأصل: ولا بأس بأن تنظر المرأة التي لا نكاح بينها وبين الرجل منه إلى جميع جسده ووجهه ورأسه إلا ما بين سرته إلى ركبته؛ فإن ذلك عورة، ولا ينبغي لها أن تنظر إليه[20].
وفي البيان والتحصيل: يصح للمرأة أن تنظر من الرجل الأجنبي إلى ما يصح للرجل أن ينظر إليه من ذوات محارمه[21].
الأدلة:
الدّليل الأول: ما أخرجه مسلم في صحيحه؛ من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها, أنّ النبيّ - صلّى الله عليه وسلّم – أمرها – عندما طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص البتة وهو غائب - أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: «تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنّه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني»[22].
وفي لفظ له: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – قال لها: «اعتدي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم، فإنه ضرير البصر، تلقي ثوبك عنده، فإذا انقضت عدتك فآذنيني»[23].
الدليل الثاني: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما؛ من حديث أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت: عائشة، قالت: «لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، أنظر إلى لعبهم»[24].
وفي لفظ لهما: قالت عائشة رضي الله عنها: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا التي أسأم»، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو[25].
الدليل الثالث: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما؛ من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم أضحى، أو فطر، فصلى ركعتين، لم يصل قبلها ولا بعدها، ثم أتى النساء ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي خرصها، وتلقي سخابها»[26].
الدّليل الرّابع: استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال, ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب لئلا يراهم النساء؛ فدل على تغاير الحكم بين الطائفتين[27].
سبب الخلاف في المسألة: هو اختلاف الأحاديث الواردة في المسألة؛ حيث تدلّ ظواهر بعضها على الحرمة, وظواهر بعضها على الحلّ؛ فمن غلّب ظواهر المحرّمة على ظواهر المبيحة, قال بحرمة النظر, ومن غلّب ظواهر المبيحة على المحرّمة؛ قال بجواز النظر, ومن جمع بينها؛ فلا يخلوا قوله من اثنين:
الأوّل: إمّا أن يقول بأنّ الأحاديث المحرّمة متقدّمة على المبيحة؛ فتكون المبيحة ناسخة للمحرمة.
الثّاني: وإما أن يقول بالتفريق بين مطلق النظر, وبين النظر الذي يخشى منه الوقوع في الفتنة؛ فتحمل الأحاديث المبيحة للنظر على النظر المطلق, وتحمل المحرِّمة على النظر الذي يخشى منه الفتنة[28].
قال ابن حجر العسقلاني: والجمع بين الحديثين احتمال تقدم الواقعة, أو أن يكون في قصة الحديث الذي ذكره نبهان شيء يمنع النساء من رؤيته؛ لكون بن أم مكتوم كان أعمى فلعله كان منه شيء ينكشف ولا يشعر به[29].
التَّرجيح: نقول - وبالله التوفيق – الحق في الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة؛ وذلك بأن تحمل الأحاديث الدالة على الجواز على مطلق النظر؛ بحيث لا يخاف منه الوقوع في الفتنة والمحظور.
وأن تحمل الأحاديث الدالة على التحريم على النظر الذي يخشى منه الفتنة؛ لأن العلة التي حرم من أجلها النظر؛ هي خوف الوقوع في الفتنة, والنظر العابر انتفت عنه العلة, فانتفى عنه التحريم[30].ــــــ
الملتقى الفقهي: قاسم عبدالواحد
الحمد لله ربّ العالمين, والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, سيّدنا ونبيّنا محمد الأمين, وعلى آله وصحبه أجمعين.فإذا وجدنا دليلين متعارضين في شيء معيَّن: أحدهما يتضمّن تحريمه والحذر منه, والآخر يتضمّن تحليله وإباحته, فما هو المرجَّح المعمول به بينهما عند علماء الأصول؟.
نقول وبالله التّوفيق: اختلفت آراء علماء الأصول في هذه المسألة؛ ولهم فيها ثلاثة آراء:
الرأي الأوّل: ذهب جهور الأصوليّين إلى ترجيح ما دلّ على التّحريم على ما دلّ على الإباحة[1].
قال الآمدي: ذهب الأكثر كأصحابنا, وأحمد بن حنبل, والكرخي والرازي من أصحاب أبي حنيفة إلى أن الحاظر أولى[2].
الأدلّة:
الدّليل الأوّل: ما أخرجه الحاكم في المستدرك؛ من حديث الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى مالا يريبك»[3].
وجه الدلالة: أنّ جواز هذا الفعل يريبه؛ لأنه بين أن يكون حراما وبين أن يكون مباحا, فما يريبه جواز فعله يجب تركه[4].
الدّليل الثّاني: ما أخرجه الإمام مالك في الموطأ؛ من طريق ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب، أن رجلا سأل عثمان بن عفان عن الأختين من ملك اليمين, هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان: أحلتهما آية، وحرمتهما آية، فأما أنا, فلا أحب أن أصنع ذلك[5]. فغلّب – رضي الله عنه – المحرّم على المبيح احتياطا.
الدّليل الثَّالث: الاستدلال بالقاعدة الفقهيّة: إذا اجتمع الحلال والحرام أو المحرم والمبيح غلب الحرام والمحرم[6]. وبلفظ: إذا اجتمع الحظر والإباحة كان الحكم للحظر[7].
الدّليل الرابع: أنه دار بين أن يرتكب الحرام أو يترك المباح, وترك المباح أولى, فكان الترجيح للمحرم احتياطا[8].
نوقش: بأنّه لا يمتنع أيضا أن يكون مباحا, فيكون باعتقاده الحظر مقدما على مالا يأمن كونه جهلا.
أجيب: بأنّه إذا استباح المحظور فقد أقدم على محظورين أحدهما: الفعل.
والثاني: اعتقاد إباحته, وليس كذلك إذا امتنع من المباح؛ لاعتقاد حظره؛ لأنه محظور واحد, والغرض هو الترجيح بضرب من القوة[9].
الرّأي الثَّاني في المسألة: وذهب بعضهم إلى ترجيح ما دلّ على الإباحة على ما دلّ على التّحريم[10].
التعليلات:
التّعليل الأوّل: أن الخبر المبيح قد تقوّى بالأصل؛ وهو الإباحة المستلزمة لنفي الحرج.
التّعليل الثّاني: أن النبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – كان يحب التخفيف على أمته؛ والأخبار في ذلك كثيرة, فكان المباح أولى[11].
الرّأي الثَّالث: وذهب بعض المالكيّة, وبعض الشّافعيّة إلى أنّه يتساوى ما دلّ على التّحريم مع ما دلّ على الإباحة؛ ولا يرجّح أحدهما الآخر[12].
قال الغزالي: الخبر الحاظر لا يرجح على المبيح على ما ظنه قوم؛ لأنهما حكمان شرعيان صدق الراوي فيهما على وتيرة واحدة[13].
التَّرجيح: الحق – والله تعالى أعلم – في الأخذ بالقول الأوّل الذي عليه جمهور الأصوليين؛ وهو القول بتقديم المحرِّم على المبيح؛ وذلك للأمور التالية:
الأمر الأوّل: قوة الأدلة التي استدلوا بها في المسألة.
الأمر الثاني: أن في ترجيح المحرم على المبيح أخذًا بالأحوط؛ وهو الأولى.
الأمر الثالث: أن في ترجيح المحرم على المبيح إعمالا لهذه القاعدة الفقهية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
أثر التّعارض بين الدليل المقتضي التحريم والمقتضي الإباحة:
من الآثار المترتبة على الاختلاف في المرجَّح بين الدليل المقتضي التحريم والمقتضي الإباحة اختلاف الفقهاء في كثير من الفروع الفقهية؛ التي تدور أدلتها المتعارضة بين التحريم والإباحة؛ ومن تلك المسائل على سبيل المثال لا الحصر مسألة نظر المرأة إلى الرجل.
فالفقهاء في مسألة نظر المرأة إلى الرجل مختلفون, ولهم فيها أقوال كثيرة, أشهرها قولان:
القول الأوّل: حرمة نظر المرأة إلى الرجل كحرمة نظره إليها. وعليه الشافعية, والحنابلة في رواية[14].
قال النووي: ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل الأجنبي لا إلى العورة ولا إلى غيرها من غير سبب[15].
الأدلة:
الدّليل الأول: قول الله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن}[16]. فأمرهن بغضّ البصر كما أمر الرّجال بذلك.
الدليل الثاني: ما أخرجه أبو داود والترمذي في سننهما؛ من طريق يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن نبهان، مولى أم سلمة، أنه حدثه أن أم سلمة حدثته؛ أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة قالت: فبينا نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احتجبا منه»، فقلت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه»[17].
الدّليل الثَّالث: ولأن النساء أحد نوعي الآدميين، فحرم عليهن النظر إلى النوع الآخر قياسا على الرجال، يحققه أن المعنى المحرم للنظر خوف الفتنة، وهذا في المرأة أبلغ، فإنها أشد شهوة، وأقل عقلا، فتسارع الفتنة إليها أكثر[18].
القول الثّاني في المسألة: جواز نظر المرأة إلى الرجل. وعليه الحنفية, والمالكيّة, والشافعية في قول, والحنابلة في المذهب[19].
قال في الأصل: ولا بأس بأن تنظر المرأة التي لا نكاح بينها وبين الرجل منه إلى جميع جسده ووجهه ورأسه إلا ما بين سرته إلى ركبته؛ فإن ذلك عورة، ولا ينبغي لها أن تنظر إليه[20].
وفي البيان والتحصيل: يصح للمرأة أن تنظر من الرجل الأجنبي إلى ما يصح للرجل أن ينظر إليه من ذوات محارمه[21].
الأدلة:
الدّليل الأول: ما أخرجه مسلم في صحيحه؛ من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها, أنّ النبيّ - صلّى الله عليه وسلّم – أمرها – عندما طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص البتة وهو غائب - أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: «تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنّه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني»[22].
وفي لفظ له: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – قال لها: «اعتدي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم، فإنه ضرير البصر، تلقي ثوبك عنده، فإذا انقضت عدتك فآذنيني»[23].
الدليل الثاني: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما؛ من حديث أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت: عائشة، قالت: «لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، أنظر إلى لعبهم»[24].
وفي لفظ لهما: قالت عائشة رضي الله عنها: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا التي أسأم»، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو[25].
الدليل الثالث: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما؛ من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم أضحى، أو فطر، فصلى ركعتين، لم يصل قبلها ولا بعدها، ثم أتى النساء ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي خرصها، وتلقي سخابها»[26].
الدّليل الرّابع: استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال, ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب لئلا يراهم النساء؛ فدل على تغاير الحكم بين الطائفتين[27].
سبب الخلاف في المسألة: هو اختلاف الأحاديث الواردة في المسألة؛ حيث تدلّ ظواهر بعضها على الحرمة, وظواهر بعضها على الحلّ؛ فمن غلّب ظواهر المحرّمة على ظواهر المبيحة, قال بحرمة النظر, ومن غلّب ظواهر المبيحة على المحرّمة؛ قال بجواز النظر, ومن جمع بينها؛ فلا يخلوا قوله من اثنين:
الأوّل: إمّا أن يقول بأنّ الأحاديث المحرّمة متقدّمة على المبيحة؛ فتكون المبيحة ناسخة للمحرمة.
الثّاني: وإما أن يقول بالتفريق بين مطلق النظر, وبين النظر الذي يخشى منه الوقوع في الفتنة؛ فتحمل الأحاديث المبيحة للنظر على النظر المطلق, وتحمل المحرِّمة على النظر الذي يخشى منه الفتنة[28].
قال ابن حجر العسقلاني: والجمع بين الحديثين احتمال تقدم الواقعة, أو أن يكون في قصة الحديث الذي ذكره نبهان شيء يمنع النساء من رؤيته؛ لكون بن أم مكتوم كان أعمى فلعله كان منه شيء ينكشف ولا يشعر به[29].
التَّرجيح: نقول - وبالله التوفيق – الحق في الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة؛ وذلك بأن تحمل الأحاديث الدالة على الجواز على مطلق النظر؛ بحيث لا يخاف منه الوقوع في الفتنة والمحظور.
وأن تحمل الأحاديث الدالة على التحريم على النظر الذي يخشى منه الفتنة؛ لأن العلة التي حرم من أجلها النظر؛ هي خوف الوقوع في الفتنة, والنظر العابر انتفت عنه العلة, فانتفى عنه التحريم[30].ــــــ
المراجع
[1] المحصول للرازي 5/439, الإحكام في أصول الأحكام 4/259.[2] الإحكام في أصول الأحكام 4/259.
[3] مستدرك الحاكم 4/110 برقم 7046. قال الذهبي: إسناده قويّ.
[4] المحصول للرازي 5/440.
[5] الموطأ 1/587 برقم 1520.
[6] قواعد الفقه للبركتي ص: 55, القواعد الفقهية للزحيلي 2/695.
[7] القواعد الفقهية للزحيلي 2/695.
[8] المحصول للرازي 5/440, الإحكام في أصول الأحكام 4/259.
[9] المحصول للرازي 5/440.
[10] البحر المحيط في أصول الفقه 8/195.
[11] مجلة الجامعة الإسلامية, العدد: 154 ص: 202.
[12] المستصفى ص: 378-379, الإحكام في أصول الأحكام 4/259, المحصول للرازي 5/439, كشف الأسرار شرح أصول البزدوي 3/94.
[13] المستصفى ص: 378-379.
[14] المجموع 16/139, المغني 7/106.
[15] المجموع 16/139.
[16] سورة النور: 31.
[17] سنن أبي داود 4/63 برقم 4112 كتاب اللّباس/ باب في قوله عزّ وجلّ: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن}. سنن التّرمذي 4/399 برقم 2778 باب ما جاء في احتجاب النّساء من الرجال. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
[18] المجموع 16/139, المغني 7/106.
[19] الأصل للشيباني 2/237, البيان والتحصيل 17/491, المغني 7/106.
[20] الأصل للشيباني 2/237.
[21] البيان والتحصيل 17/491.
[22] صحيح مسلم 2/1114 برقم 1480 كتاب الطلاق/ باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها.
[23] صحيح مسلم 2/1119 برقم 1480 كتاب الطلاق/ باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها.
[24] صحيح البخاري 1/98 برقم 454 كتاب الصلاة/ باب أصحاب الحراب في المسجد. صحيح مسلم 2/609 برقم 892 كتاب صلاة العيدين/ باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد.
[25] صحيح البخاري 7/38 برقم 5236 كتاب النكاح/ باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة. صحيح مسلم 2/609 برقم 892 كتاب صلاة العيدين/ باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد.
[26] صحيح البخاري 2/19 برقم 964 كتاب صلاة العيدين/ باب الخطبة بعد العيد. صحيح مسلم 2/606 برقم 884 كتاب صلاة العيدين/ باب ترك الصلاة قبل العيد وبعدها في المصلى.
[27] فتح الباري 9/337, المغني 7/106.
[28] مجلة الجامعة الإسلامية, العدد: 154 ص: 205.
[29] فتح الباري 9/337.
[30] ينظر: مجلة الجامعة الإسلامية, العدد: 154 ص: 205 بنوع من التصرف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق