السلام عليكم
01.معنى الهوى:
الهوى ميل النّفس إلى الشّئ وفعله هوِىَ يَهوي هَوىً مثل عَمِيَ يَعْمي عمىً. جاء في الّلسان: "وأهل الأهواء: واحدها هوًى، وكلّ فارغ هواء ن وفي التّنزيل:"وأفئدتهم هواء" يقال فيه: إنّه لاعقو ل لهم. قال الجوهريّ: كلّ خالٍ هواء. وهوَى بالفتح ، يهوي هَويًّا : سقط من فوق إلى أسفل...
والهوى، مقصور: هوى النّفس، وهوى النّفس إرادتها والجمع: الأهواء. قال اللّغويّون: الهوى محبّة الإنسان الشك وغلبته على قلبه. قال تعالى:".. ونهى النّفس عن الهوى...الآية"(النّازعات:40) معناه: نهاها عن شهواتها وما تدعوا إليه من معاصي الله عز ّوجلّ .ومتى تكلّم بالهوى مطلقاً لم يكن إلاّ مذموماً حتّى يُنعت بما يخرج معناه كقولهم: هوًى حسن، وهوًى موافق للصّواب.
واستهوته الشّياطين: ذهبت بهواه وعقله وقيل: استهوته: استهامته وحيّرته، وهاوية والهاوية: اسم من أسماء جهنّم. اهـ بتصرّف يسير.لسان العرب (15/370-373).
03· ذم ّإتّباعه وفضل مخالفته:
فأمّا مخالفة الهوى فلم يجعل الله للجنّة طريقاً غير مخالفته، ولم يجعل للنّار طريقاً غير متابعته، قال تعالى:"فأمّا من طغى, وآثر الحياة الدّنيا، فإنّ الجحيم هي المأوى، وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النّفس عن الهوى، فإنّ الجنّة هي المأوى"(النّازعات:37-41)، وقال تعالى:" ولمن خاف مقام ربّه جنّتان"(الرّحمن: 46)، قيل هو العبد يهوي المعصية فيذكر مقام ربّه عليه في الدّنيا، ومقامه بين يديه في الآخرة فيتركها لله.
وقد أخبر سبحانه أنّ إتّباع الهوى يضلّ عن سبيله، فقال الله تعالى:" يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين النّاس بالحقّ ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله"(ص:26)، ثمّ ذكر مآل الضّالّين عن سبيله ومصيرهم فقال:"إنّ الذّين يضلّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب"(ص:26). وأخبر سبحانه أنّ بإتّباع الهوى يطبع على قلب العبد فقال:" أولئك الّذين طبع الله على قلوبهم واتّبعوا أهواءهم"( محمّد:16).
وقد ذكر القرطبي في تفسيره لآية ص:26، فقال:أي ملّكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فتخلف من كان قبلك من الأنبياء والأئمّة الصّالحين."فاحكم بين النّاس بالحقّ" أي بالعدل" ولا تتبع الهوى" أي لا تقتد بهواك المخالف لأمر الله "فيضلّك عن سبيل الله" أي عن طريق الجنّة.
....فدلّ هذا على بيان وجوب الحكم بالحقّ، وألا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع أو سبب يقتضي الميل من صحبة أو صداقة أو غيريهما. وقال ابن عبّاس رضي ال، 189)هما: إنّما ابتليَ داود عليه السّلام، لأنه تقدّم إليه خصمان فهوي أن يكون الحقّ لأحدهما.اهـ بتصرّف يسير.(تفسير القرطبي:15/18، 189)).
04· طرق دفع الهوى:
يمكن التّخلّص بعون الله وتوفيقه له بأمور:
[أحدها]: عزيمة حرّ يغار لنفسه وعليها.
[الثّاني]: جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك السّاعة.
[الثّالث]: قوّة نفس تشجّعه على شرب تلك الجرعة، والشّجاعة كلّها صبر ساعة، وخير عيش أدركه العبد بصبره.
[الرّابع]: ملاحظته حسن موقع العاقبة والشّفاء بتلك الجرعة.
[الخامسة]: ملاحظته الألم الزّائد على لذّة طاعة هواه.
[السّادس]:إبقاؤه على منزلته عند الله تعالى وفي قلوب عباده، وهو خير وأنفع له من لذّة موافقة الهوى.
[السّابع]: إيثاره لذّة العفّة وعزّتها وحلاوتها على لذّة المعصية.
[الثّامن]: فرحه بغلبة عدوّه وردّه خاسئا بغيظه وغمّه وهمّة حيث لم ينل أمنيّته، والله تعالى يحبّ من عبده أن يراغم عدوّه ويغيظه كما قال تعالى في كتابه العزيز:"ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفّار ولا ينالون من عدوّ نيلا إلاّ كتب لهم به عمل صالح"(التّوبة:120).وقال:"ليغيظ بهم الكفّار"(الفتح:29)، وقال تعالى:"ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة"(النّساء:100) أي مكانا يراغم فيه أعداء الله وعلامة المحبّة الصادقة مغايظة أعداء المحبوب ومراغمتهم.
[التّاسع]: التّفكّر في أنّه لم يُلق للهوى وإنّما هُيّء لأمر عظيم لا يناله إلاّ بمعصيته للهوى كما قيل:
قد هيّأوك لمر لو فطنت له ** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمَل
[العاشر]: أن لا يختار لنفسه أن يكون الحيوان البهيم أحسن حالا منه، فإنّ الحيوان يميّز بطبعه بين مواقع ما يضرّه وما ينفعه، فيؤثر النّافع على الضّارّ، والإنسان أعطي العقل لهذا المعنى.
(وينبغي أن يعلم أن الهوى وحده لا يستقل بفساد السيئات إلاّ مع الجهل وإلاّ فصاحب الهوى لو جزم بأن ارتكاب هواه يضره ولا بد ضررا راجحا لانصرفت نفسه عن طاعته له بالطبع فإن الله سبحانه جعل في النفس حبا لما ينفعها وبغضا لما يضرها فلا تفعل مع حضور عقلها ما تجزم بأنه يضرها ضررا راجحا ولهذا يوصف تارك ذلك بالعقل والحجى والّلبّ)[ شفاء العليل:1/171].
[الحادي عشر]: أن يسير بقلبه في عواقب الهوى فيتأمّل كم أفاتت معصيته من فضيلة، وكم أوقعت من رذيلة، وكم أكلة منعت أكلات، وكم من لذّة فوّتت لذّات، وكم من شهوة كسرت جاها، ونكّست رأسا، وقبّحت ذكرا، وأورثت ذمّا، وأعقبت ذلاّ، وألزمت عارا لا يغسله الماء، غير أنّ عين صاحب الهوى عمياء.
[الثّاني عشر]:أن يتصوّر العاقل انقضاء غرضه ممّن يهواه...[وليفتح عين البصيرة لتأمّل العواقب، واستحالة الّلذّة نعنه،إمّا لمللٍ أو لغيره من الآفات، أو لانقطاعها بامتناع الحبيب، فتكون المعصية الأولى كلقمة تناولها جائع، فما ردّت كلب الجوع، بل شهّت الطّعام. وليتذكّر الإنسان لذّة قهر الهوى مع تأمّل فوائد الصّبر عنه ، فمن وفّق لذلك كانت سلامته قريبة منه.اهـ.(صيد الخاطر ص58)].
[الثّالث عشر]:أن يتصوّر ذلك في حقّ غيره حقّ التصوّر، ثمّ ينزل نفسه تلك المنزلة، فحكم الشّيء حكم نظيره.
[الرّابع عشر]: أن يتفكّر فيما تطالبه به نفسه من ذلك، ويسأل عنه عقله ودينه يخبرانه بأنّه ليس بشيء.
[الخامس عشر]:أن يأنف لنفسه من ذلّ طاعة الهوى، فإنّه ما أطاع أحد هواه قطُّ إلاّ وجد في نفسه ذلاًّ، ولا يغترّ بصولة أتباع الهوى وكبرهم فهم أذلّ النّاس بواطن، قد جمعوا بين فصيلتي الكبر والذّلّ.
قال ابن القيّم في إغاثة الّلهفان ص 55: ( ولهذا يوجد في المتّبع هواه من ذلّ النّفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه، فإنّه سبحانه جعل العزّ لمن أطاعة، والذّلّ لمن عصاه...قال الحسن:" وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال، إنّ ذلّ المعصية لفي قلوبهم أبى الله إلاّ أن يذلّ من عصاه ). اهـ.
[السّادس عشر]: أن يوازن بين سلامة الدّين والعرض والمال والجاه ونيل الّلذّة المطلوبة، فإنّه لا يجد بينيهما نسبة البتّة، فليعلم أنّه من أسفه النّاس ببيعه هذا.( قد جمع الله سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض بالباطل لأنّ فساد الدّين إمّا أن يقع بالاعتقاد الباطل والتّكلّم به وهو الخوض أو يقع في العمل بخلاف الحقّ والصّواب وهو الاستمتاع بالخلاق فالأوّل البدع والثّاني إتّباع الهوى وهذان هما أصل كلّ شرّ وفتنة وبلاء و بهما كُذّبت الرّسل وعصي الرّبّ ودخلت النّار وحلّت العقوبات فالأوّل من جهة الشّبهات والثّاني من جهة الشّهوات ولهذا كان السّلف يقولون احذروا من النّاس صنفين صاحب هوى فتنه هواه وصاحب دنيا أعجبته دنياه)[ إعلام الموقّعين:1/136 ].
[السّابع عشر]: أن يأنف عنه: أن يكون تحت قهر عدوّه، فإنّ الشّيطان إذا رأى من العبد ضعف عزيمة وهمّة وميلاً إلى هواه طمع فيه وصرعه وألجمه بلجام الهوى وساقه حيث أراد، ومتى أحسّ منه بقوّة عزم وشرف نفس وعلوّ همّة لم يطمع فيه إلاّ اختلاساً وسرقة.
قال ابن مسعود رضي الله عنه :" أنتم في زمان يقود الحقّ الهوى ، وسيأتي زمان يقود الهوى الحقّ، فنعوذ بالله من ذلك الزّمان"(الجامع لأحكام القرآن 19/208).
[الثّامن عشر]: أن يعلم أنّ الهوى ما خالط شيئاً إلاّ أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضّلالة وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء، و‘ن وقع في الزّهد أخرج صاحبه إلى الرّياء ومخالفة السّنّة، و‘ن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظّلم وصدّه عن الحقّ، و‘ن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قسمة الجور، وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يولّي بهواه ويعزل بهواه، وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون طاعة وقربة، فما قارن شيئا إلاّ أفسده.
[التّاسع عشر]: أن يعلم أنّ الشّيطان ليس له مدخل على ابن آدم إلاّ من باب هواه، فإنّه يطيف به من أين يدخل عليه حتّى يفسد عليه قلبه وأعماله، فلا يجد مدخلاً إلاّ من باب الهوى، فيسري معه سريان السّمّ في الأعضاء.
[العشرون]: أنّ الله سبحانه وتعالى جعل الهوى مضادّاً لما أنزل رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وجعل إتّباعه مقابلاً لمتابعة رسله، وقسّم النّاس إلى قسمين: إتّباع الوحي، وإتّباع الهوى، وهذا كثير في القرآن كقوله تعالى: " فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنّما يتّبعون أهواءهم "(القصص:50).وقوله تعالى:"ولئن أتّبعت أهواءهم بعد الّذي جاءك من العلم"(البقرة:120)ونظائره.
[الحادي والعشرون]: أنّ الله سبحانه وتعالى شبّه أتباع الهوى بأخسّ الحيوانات صورة ومعنى، فشبّههم بالكلب تارة كقوله تعالى: "ولكنّه أخلد للأرض واتّبع هواه فمثله كمثل الكلب "(الأعراف:176) وبالحمر تارة كقوله تعالى: "كأنّهم حمر مستنفرة، فرّت من قسورة"(المدّثّر:50، 51) وقلب صورهم إلى صورة القردة والخنازير تارة.
[الثّاني والعشرون]: أنّ المتّبع الهوتعالى:هلاً أن يطاع ولا يكون إماماً ولا متبوعاً، فإنّ الله سبحانه وتعالى عزله عن الإمامة ونهى عن طاعته، أمّا عزله فإنّ الله سبحانه وتعالى قال لخليله إبراهيم:"إنّي جاعلك للنّاس إماماً قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظّالمين"(البقرة:124) أي لا ينال عهدي بالإمامة ظالماً. وكلّ من اتّبع هواه فهو ظالم كما قال تعالى :" بل اتّبع الّذين اتّبعوا أهواءهم بغير علم"( الرّوم:29). وأمّا النّهي عن طاعته فلقوله تعالى:" ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فرطاً"(الكهف:28).
(فائدة جليلة: كلّ من آثر الدّنيا من أهل العلم واستحبّها فلا بدّ أن يقول على الله غير الحقّ في فتواه وحكمه في خبره وإلزامه لأنّ أحكام الرّبّ سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض النّاس ولا سيما أهل الرّياسة والّذين يتّبعون الشّبهات فإنّهم لا تتمّ لهم أغراضهم إلاّ بمخالفة الحقّ ودفعه كثيراً فإذا كان العالم والحاكم محبّين للرّياسة متّبعين للشّهوات لم يتم لهما ذلك إلاّ بدفع ما يضادّه من الحقّ ولا سيما إذا قامت له شبهة فتتفق الشّبهة والشّهوة ويثور الهوى فيخفى الصّواب وينطمس وجه الحقّ وإن كان الحقّ ظاهراً لا خفاء به ولا شبه فيه أقدم على مخالفته وقال لي مخرج بالتّوبة)[ الفوائد1/100].
[ الثّالث والعشرون]: أنّ الله سبحانه وتعالى جعل متّبع الهوى بمنزلة عابد الوثن فقال تعالى:" أرأيت من أتّخذ إلهه هواه"( الفرقان:42) (والجاثية:23).
قال عكرمة: أفرأيت من جعل إلهه الّذي يعبده ما يهواه ويستحسنه فإذا استحسن شيئاً وهويه اتّخذه إلهاً!! وقال سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر !!. اهـ(القرطبي:16/167).
[الرّابع والعشرون]: أنّ الهوى هو حظار جهنّم المحيط بها حولها، فمن وقع فيه وقع فيها.
(ذكر الشّهرستاني في أوّل كتابه في الملل والنّحل أنّ مبدأ أنواع كلّ الضّلالات هو من تقديم الرّأي على النّصّ واختيار الهوى على الشّرع فسرى في المنتسبين إلى العلم والدّين من أهل الفقه والكلام والتّصوّف من أقوال الملا حدة بسبب هذا الأصل مالا يعلمه إلاّ الله)[ درء التّعارض:5/7].
[الخامس والعشرون]: أن يخاف على اتّبع الهوى أن ينسلخ من الإيمان وهو لا يشعر.
فقد(أخبر سبحانه أنّ كلّ حكم خالف حكمه الّذي أنزله على رسوله فهو من أحكام الهوى لا من أحكام العقل وهو من أحكام الجاهلية لا من حكم العلم والهدى فقال تعالى:" وإن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تّتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولّوا فاعلم أنّما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإنّ كثيرا من النّاس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون"( المائدة:50، 49 ) فأخبر سبحانه وتعالى أنّه ليس وراء ما أنزله إلا إتّباع الهوى الّذي يضلّ عن سبيله وليس وراء حكمه إلاّ حكم الجاهليّة وكلّ هذه الآراء والمعقولات المخالفة لما جاء به الرّسول صلّى الله عليه وسلّم هي من قضايا الهوى وأحكام الجاهليّة وإن سمّاها أربابها بالقواطع العقليّة والبراهين اليقينيّة كتسمية المشركين أوثانهم وأصنامهم آلهة وتسمية المنافقين السّعي في الأرض بالفساد وصدّ القلوب عن الإيمان إصلاحاً وإحساناً وتوفيقاً...)[ الصّواعق المرسلة:3/1046]
[السّادس والعشرون]: أنّ إتّباع الهوى من المهلكات.(انظر حديث قتادة عن أنس مرفوعاً المتقدّم).
[السّابع والعشرون]: أنّ مخالفة الهوى تورث العبد قوّة في بدنه وقلبه ولسانه، قال بعض السّلف: الغالب لهواه أشدّ من الّذي يفتح المدينة وحده. وفي الحديث الصّحيح:"ليس الشّديد بالصّرعة ولكنّ الشّديد الّذي يملك نفسه عند الغضب"( البخاري كتاب الأدب ومسلم كتاب البرّ والصّلة).
[الثّامن والعشرون]: أنّ أغزر النّاس مرؤة أشدّهم مخالفة لهواه. قال معاوية: المرؤة ترك الشّهوات وعصيان الهوى، فإتّباع الهوى يزمن –يمرض ويضعف- المرؤة، ومخالفته تنعشها.
[التّاسع والعشرون]: أنّه ما من يوم إلاّ والهوى والعقل يعتلجان في صاحبه، فأيّهما قوي على صاحبه طرده وتحكّم وكان الحكم له. قال أبو الدّرداء: إذا أصبح الرّجل اجتمع هواه وعمله، فإن كان عمله تبعاً لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان هواه تبعاً لعمله فيومه يوم صالح.
[الثّلاثون]: أنّ الله سبحانه وتعالى جعل الخطأ وإتّباع الهوى قرينين، وجعل الصّواب ومخالفة الهوى قرينين، كما قال بعض السّلف: إذا أشكل عليك أمران لا تدري أيّهما أرشد فخالف أقربهما من هواك، فإنّ أقرب ما يكون الخطأ في متابعة الهوى.
[الحادي والثّلاثون]: أنّ الهوى داء ودواؤه مخالفته.قال بشر الحافي:البلاء كلّه في هواك، والشّفاء كلّه في مخالفتك إيّاه. ( ومتى أراد الله بالعبد كمالا وفقه لاستفراغ وسعه فيما هو مستعدّ له قابل له قد هيئ له فإذا استفرغ وسعه على غيره وفاق النّاس فيه كما قيل ما زال يسبق حتّى قال حاسده هذا طريق إلى العلياء مختصر وهذا كالمريض الّذي يشكو وجع البطن مثلا إذا استعمل دواء ذلك الدّاء انتفع به وإذا استعمل دواء وجع الرّأس لم يصادف داءه فالشّحّ المُطاع مثلاَ من المهلكات ولا يزيله صيام مائة عام ولا قيام ليلها وكذلك داء إتّباع الهوى والإعجاب بالنّفس لا يلائمه كثرة قراءة القرآن واستفراخ الوسع في العلم والذّكر والزّهد وإنّما يزيله إخراجه من القلب بضدّه )[ عدّة الصابرين:1/94].
[الثّاني والثّلاثون]: أنّ جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفّار فليس بدونه، قال رجل للحسن البصري رحمه الله تعالى: يا أبا سعيد، أيّ الجهاد أفضل؟ قال: جهادك هواك.
[الثّالث والثّلاثون]:–التّخليط:تخليط –التّخليط:فساد العقل واضطرابه-ومخالفته حمية-الحمية: الوقاية والحماية من الضّارّ-, ويخاف على من أفرط في الحمية أن يصرعه داؤه.
[الرّابع والثّلاثون]: أنّ إتّباع الهوى يغلق عن العبد أبواب التّوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأنّ الله لو وفَّق لكان كذا وكذا، وقد سدّ على نفسه طرق التّوفيق بإتّباعه هواه.قال الفضيل بن عياض: من استحوذ عليه الهوى واتّبع الشّهوات انقطعت عنه موارد التّوفيق.
[الخامس والثّلاثون]: أنّ من نصر هواه فسد عليه عقله ورأيه، لأنّه قد خان الله في عقله فأفسده عليه، وهذا شأنه سبحانه وتعالى في كلّ من خانه في أمر من الأمور، فإنّه يفسده عليه.
[السّادس والثّلاثون]: أنّ من فسح لنفسه في إتّباع الهوى ضيّق عليها في قبره ويوم معاده، ومن ضيّق عليها بمخالفة الهوى وسّع عليها في قبره ومعاده وقد أشار الله تعالى إلى هذا في قوله تعالى:"وجزاهم بما صبروا جنّة وحريراً"(الإنسان:21). فلمّا كان في الصّبر الّذي هو حبس النّفس عن الهوى خشونة وتضييق، جازاهم على ذلك نعومة الحرير وسعة الجنّة.
[السّابع والثّلاثون]: أنّ إتّباع الهوى يصرع العبد عن النّهوض يوم القيامة عن السّعي مع النّاجين، كما صرع قلبه في الدّنيا عن مرافقتهم.
[الثّامن والثّلاثون]: أنّ إتّباع الهوى يحلّ العزائم ويوهنها، ومخالفته تشدّها وتقوّيها.قيل ليحيى بن معاذ:من أصحّ النّاس عزماً؟ قال: الغالب لهواه.
[التّاسع والثّلاثون]: أنّ مثلَ راكب الهوى كمثل راكب فرس حديد صعب جموح لا لجام له فيوشك أن يصرعه فرسه في خلال جريه به أو يسير به إلى مهلك.
[الأربعون]: أنّ التّوحيد وإتّباع الهوى متضادّان. وتأمّل قول الخليل عليه السّلام، لقومه:"ما هذا التّماثيل الّتي أنتم لها عاكفون"( الأنبياء:52) كيف تجده مطابقاَ للتّماثيل الّتي يهواها القلب ويعكف عليها ويعبدها من دون الله، قال تعالى:" أرأيت من اتّخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً، أم تحسب أنّ أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضلّ سبيلاً"(الفرقان:44, 43).
[الحادي والأربعون]: أنّ مخالفة الهوى طرَدَة للدّاء عن القلب والبدن، ومتابعته مجلبة لداء القلب والبدن.
(ولا ريب أنّ القلب يصدأ كما يصدأ النّحاس والفضّة وغيريهما وجلاؤه بالذّكر فإنّه يجلوه حتّى يدعه كالمرآة البيضاء فادا ترك صدئ فإذا صدا القلب بأمرين: بالغفلة والذّنب وجلاؤه بشيئين:بالاستغفار والذّكر فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصّدا متراكبا على قلبه وصداه بحسب غفلته وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه فيرى الباطل في صورة الحقّ والحقّ في صورة الباطل لأنّه لمّا تراكم عليه الصّدا أظلم فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه فإذا تراكم عليه الصّدا وأسودّ وركبه الرّان فسد تصوّره وإدراكه فلا يقبل حقّا و لا ينكر باطلاً وهذا أعظم عقوبات القلب وأصل ذلك من الغفلة وإتّباع الهوى فإنّهما يطمسان نور القلب ويعميان بصره قال تعالى:" ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فرطا " فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر هل هو من أهل الذّكر أو من الغافلين و هل الحاكم عليه الهوى أو الوحي فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة كان أمره فرطا)[ الوابل1/60].
[الثّاني والأربعون]: أنّ أصل العداوة والشّرّ والحسد الواقع بين النّاس من إتّباع الهوى، فمن خالف هواه أراح قلبه وبدنه وجوارحه فاستراح وأراح: قال أبوبكر الورّاق: إذا غلب الهوى أظلم القلب، وإذا أظلم ضاق الصّدر، وإذا ضاق الصّدر ساء الخُلُق، وإذا ساء الخُلُق أبغضه الخلْق وأبغضهم، فانظر ماذا يتولّد من التّباغض من الشّرّ والعداوة وترك الحقوق وغيرها.
[ الثاّلث والأربعون]: أنّ الله سبحانه وتعالى جعل في العبد هوى وعقلاً فأيّهما ظهر توارى الآخر. قال علي بن سهل:العقل والهوى يتنازعان، فالتّوفيق قرين العقل، والخذلان قرين الهوى، والنّفس واقفة بينيهما، فإيّهما غلب كانت النّفس معه.
[ الرّابع والأربعون]: أنّ الله سبحانه وتعالى جعل القلب ملَك الجوارح ومعدن معرفته ومحبّته وعبوديّته، وامتحنه بالإتّباع للحقّ أو للهوى.
[الخامس والأربعون]: أنّ أعدى عدوّ للمرء شيطانه وهواه، وأصدق صديق له عقله والملك النّاصح له، فإذا اتّبع هواه أعطى بيده لعدوّه واستأسر له وأشمته به وساء صديقه ووليّه، وهذا هو بعينه هو جهد البلاء، ودرك الشّقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
[السّادس والأربعون]: أنّ لكلّ عبدٍ بداية ونهاية، فمن كانت بدايته إتّباع الهوى، كانت نهايته الذّلّ والصّغار والحرمان والبلاء، والمتبوع بحسب ما اتبع من هواه.قيل للمهلّب بن أبي صفرة: بم نلت ما نلت؟ قال: بطاعة الحزم وعصيان الهوى.( قال أبو عثمان من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة)[ الاستقامة:1/97 ].
[السّابع والأربعون]: أنّ الهوى رقّ في القلب، وغلّ في العنق، وقيد في الرّجل، ومتابعه أسير لكلّ سيئ الملكة، فمن خالفه عتَق من رقّه وصار حرّاً، وخلع الغلّ من عنقه والقيد من رجله وصار بمنزلة رجل سالم لرجل بعد أن كان رجلاً فيه شركاء متشاكسون.
قال ابن المبارك:
ومن البلاء وللبلاء علامةٌ ** أن لا يرى لك عن هواك نزوعُ
العبد عبد النّفس في شهواتها** والحــرّ يشبع تارة ويجوع
[الثّامن والأربعون]: أنّ مخالفة الهوى تقيم العبد في مقام من لو أقسم على الله لأبرّه، فيقضي له من الحوائج أضعاف أضعاف ما فاته من الهوى، فتأمّل انبساط يد يوسف الصّدّيق عليه الصّلاة والسّلام ولسانِه وقدمهِ ونفسهِ بعد خروجه من السّجن لمّا قبض نفسه عن الحرام.
[التّاسع والأربعون]: أنّ مخالفة الهوى توجب شرف الدّنيا وشرف الآخرة، وعزّ الظّاهر وعزّ الباطن.
[ الخمسون]: أنّك إذا تأمّلت السّبعة الّذين يظلّهم الله عزّ وجلّ في ظلّ عرشه يوم لا ظل إلاّ ظلّه –الحديث أخرجه البخاري كتاب الأذان ومسلم كتاب الزّكاة-، وجدتهم إنّما نالوا ذلك الظّلّ بمخالفة الهوى.
الّلهمّ إنّا نعيذك من أهواء نفوسنا الأمّارة بالسّوء ،الّلهمّ اجعل هوانا تَبَعا لما تحبّه وترضاه ، إنّك على كلّ شيء قدير ، وبالإجابة جدير.
م/ن
قال تعالى
( ونهى النفس عن الهوى )
01.معنى الهوى:
الهوى ميل النّفس إلى الشّئ وفعله هوِىَ يَهوي هَوىً مثل عَمِيَ يَعْمي عمىً. جاء في الّلسان: "وأهل الأهواء: واحدها هوًى، وكلّ فارغ هواء ن وفي التّنزيل:"وأفئدتهم هواء" يقال فيه: إنّه لاعقو ل لهم. قال الجوهريّ: كلّ خالٍ هواء. وهوَى بالفتح ، يهوي هَويًّا : سقط من فوق إلى أسفل...
والهوى، مقصور: هوى النّفس، وهوى النّفس إرادتها والجمع: الأهواء. قال اللّغويّون: الهوى محبّة الإنسان الشك وغلبته على قلبه. قال تعالى:".. ونهى النّفس عن الهوى...الآية"(النّازعات:40) معناه: نهاها عن شهواتها وما تدعوا إليه من معاصي الله عز ّوجلّ .ومتى تكلّم بالهوى مطلقاً لم يكن إلاّ مذموماً حتّى يُنعت بما يخرج معناه كقولهم: هوًى حسن، وهوًى موافق للصّواب.
واستهوته الشّياطين: ذهبت بهواه وعقله وقيل: استهوته: استهامته وحيّرته، وهاوية والهاوية: اسم من أسماء جهنّم. اهـ بتصرّف يسير.لسان العرب (15/370-373).
02.أسباب اتباع الهوى :
1- عدم التعويد على ضبط الهوى منذ الصغر .
2- مجالسة أهل الأهواء ومصاحبتهم .
3- ضعف المعرفة الحقة بالله والدار الآخرة.
4- تقصير الأخرين في القيام بواجبهم نحو صاحب الهوى.
5- حب الدنيا والركون إليها مع نسيان الآخرة
6- الجهل بالعواقب المترتبة على اتباع الهوى.
1- عدم التعويد على ضبط الهوى منذ الصغر .
2- مجالسة أهل الأهواء ومصاحبتهم .
3- ضعف المعرفة الحقة بالله والدار الآخرة.
4- تقصير الأخرين في القيام بواجبهم نحو صاحب الهوى.
5- حب الدنيا والركون إليها مع نسيان الآخرة
6- الجهل بالعواقب المترتبة على اتباع الهوى.
03· ذم ّإتّباعه وفضل مخالفته:
فأمّا مخالفة الهوى فلم يجعل الله للجنّة طريقاً غير مخالفته، ولم يجعل للنّار طريقاً غير متابعته، قال تعالى:"فأمّا من طغى, وآثر الحياة الدّنيا، فإنّ الجحيم هي المأوى، وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النّفس عن الهوى، فإنّ الجنّة هي المأوى"(النّازعات:37-41)، وقال تعالى:" ولمن خاف مقام ربّه جنّتان"(الرّحمن: 46)، قيل هو العبد يهوي المعصية فيذكر مقام ربّه عليه في الدّنيا، ومقامه بين يديه في الآخرة فيتركها لله.
وقد أخبر سبحانه أنّ إتّباع الهوى يضلّ عن سبيله، فقال الله تعالى:" يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين النّاس بالحقّ ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله"(ص:26)، ثمّ ذكر مآل الضّالّين عن سبيله ومصيرهم فقال:"إنّ الذّين يضلّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب"(ص:26). وأخبر سبحانه أنّ بإتّباع الهوى يطبع على قلب العبد فقال:" أولئك الّذين طبع الله على قلوبهم واتّبعوا أهواءهم"( محمّد:16).
وقد ذكر القرطبي في تفسيره لآية ص:26، فقال:أي ملّكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فتخلف من كان قبلك من الأنبياء والأئمّة الصّالحين."فاحكم بين النّاس بالحقّ" أي بالعدل" ولا تتبع الهوى" أي لا تقتد بهواك المخالف لأمر الله "فيضلّك عن سبيل الله" أي عن طريق الجنّة.
....فدلّ هذا على بيان وجوب الحكم بالحقّ، وألا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع أو سبب يقتضي الميل من صحبة أو صداقة أو غيريهما. وقال ابن عبّاس رضي ال، 189)هما: إنّما ابتليَ داود عليه السّلام، لأنه تقدّم إليه خصمان فهوي أن يكون الحقّ لأحدهما.اهـ بتصرّف يسير.(تفسير القرطبي:15/18، 189)).
قال ابن الجوزي في كتابه ذم الهوى :
ينبغي للعاقل أن يتمرن على دفع الهوى المأمون العواقب ليستمر بذالك على ترك ما تؤذي غايته وليعلم العاقل ان مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذونها وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها لأنها قد صارت عندهم كالعيش الاضطراري فيلقي نفسه في المهالك لنيل ما يقتضيه تعوده ولو زال رين الهوى عن بصر بصيرته لراى انه قد شقي من حيث قدر السعادة واغتم من حيث ظن الفرح وألم من حيث أراد اللذة فهو كالحيوان المخدوع بحب الفخ لا هو نال ما خُدع به ولا أطاق التخلص مما وقع فيه .
ينبغي للعاقل أن يتمرن على دفع الهوى المأمون العواقب ليستمر بذالك على ترك ما تؤذي غايته وليعلم العاقل ان مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذونها وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها لأنها قد صارت عندهم كالعيش الاضطراري فيلقي نفسه في المهالك لنيل ما يقتضيه تعوده ولو زال رين الهوى عن بصر بصيرته لراى انه قد شقي من حيث قدر السعادة واغتم من حيث ظن الفرح وألم من حيث أراد اللذة فهو كالحيوان المخدوع بحب الفخ لا هو نال ما خُدع به ولا أطاق التخلص مما وقع فيه .
وسئل الحسن البصري أي الجهاد أفضل ؟
فقال ( جهادك هواك ).
04· طرق دفع الهوى:
يمكن التّخلّص بعون الله وتوفيقه له بأمور:
[أحدها]: عزيمة حرّ يغار لنفسه وعليها.
[الثّاني]: جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك السّاعة.
[الثّالث]: قوّة نفس تشجّعه على شرب تلك الجرعة، والشّجاعة كلّها صبر ساعة، وخير عيش أدركه العبد بصبره.
[الرّابع]: ملاحظته حسن موقع العاقبة والشّفاء بتلك الجرعة.
[الخامسة]: ملاحظته الألم الزّائد على لذّة طاعة هواه.
[السّادس]:إبقاؤه على منزلته عند الله تعالى وفي قلوب عباده، وهو خير وأنفع له من لذّة موافقة الهوى.
[السّابع]: إيثاره لذّة العفّة وعزّتها وحلاوتها على لذّة المعصية.
[الثّامن]: فرحه بغلبة عدوّه وردّه خاسئا بغيظه وغمّه وهمّة حيث لم ينل أمنيّته، والله تعالى يحبّ من عبده أن يراغم عدوّه ويغيظه كما قال تعالى في كتابه العزيز:"ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفّار ولا ينالون من عدوّ نيلا إلاّ كتب لهم به عمل صالح"(التّوبة:120).وقال:"ليغيظ بهم الكفّار"(الفتح:29)، وقال تعالى:"ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة"(النّساء:100) أي مكانا يراغم فيه أعداء الله وعلامة المحبّة الصادقة مغايظة أعداء المحبوب ومراغمتهم.
[التّاسع]: التّفكّر في أنّه لم يُلق للهوى وإنّما هُيّء لأمر عظيم لا يناله إلاّ بمعصيته للهوى كما قيل:
قد هيّأوك لمر لو فطنت له ** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمَل
[العاشر]: أن لا يختار لنفسه أن يكون الحيوان البهيم أحسن حالا منه، فإنّ الحيوان يميّز بطبعه بين مواقع ما يضرّه وما ينفعه، فيؤثر النّافع على الضّارّ، والإنسان أعطي العقل لهذا المعنى.
(وينبغي أن يعلم أن الهوى وحده لا يستقل بفساد السيئات إلاّ مع الجهل وإلاّ فصاحب الهوى لو جزم بأن ارتكاب هواه يضره ولا بد ضررا راجحا لانصرفت نفسه عن طاعته له بالطبع فإن الله سبحانه جعل في النفس حبا لما ينفعها وبغضا لما يضرها فلا تفعل مع حضور عقلها ما تجزم بأنه يضرها ضررا راجحا ولهذا يوصف تارك ذلك بالعقل والحجى والّلبّ)[ شفاء العليل:1/171].
[الحادي عشر]: أن يسير بقلبه في عواقب الهوى فيتأمّل كم أفاتت معصيته من فضيلة، وكم أوقعت من رذيلة، وكم أكلة منعت أكلات، وكم من لذّة فوّتت لذّات، وكم من شهوة كسرت جاها، ونكّست رأسا، وقبّحت ذكرا، وأورثت ذمّا، وأعقبت ذلاّ، وألزمت عارا لا يغسله الماء، غير أنّ عين صاحب الهوى عمياء.
[الثّاني عشر]:أن يتصوّر العاقل انقضاء غرضه ممّن يهواه...[وليفتح عين البصيرة لتأمّل العواقب، واستحالة الّلذّة نعنه،إمّا لمللٍ أو لغيره من الآفات، أو لانقطاعها بامتناع الحبيب، فتكون المعصية الأولى كلقمة تناولها جائع، فما ردّت كلب الجوع، بل شهّت الطّعام. وليتذكّر الإنسان لذّة قهر الهوى مع تأمّل فوائد الصّبر عنه ، فمن وفّق لذلك كانت سلامته قريبة منه.اهـ.(صيد الخاطر ص58)].
[الثّالث عشر]:أن يتصوّر ذلك في حقّ غيره حقّ التصوّر، ثمّ ينزل نفسه تلك المنزلة، فحكم الشّيء حكم نظيره.
[الرّابع عشر]: أن يتفكّر فيما تطالبه به نفسه من ذلك، ويسأل عنه عقله ودينه يخبرانه بأنّه ليس بشيء.
[الخامس عشر]:أن يأنف لنفسه من ذلّ طاعة الهوى، فإنّه ما أطاع أحد هواه قطُّ إلاّ وجد في نفسه ذلاًّ، ولا يغترّ بصولة أتباع الهوى وكبرهم فهم أذلّ النّاس بواطن، قد جمعوا بين فصيلتي الكبر والذّلّ.
قال ابن القيّم في إغاثة الّلهفان ص 55: ( ولهذا يوجد في المتّبع هواه من ذلّ النّفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه، فإنّه سبحانه جعل العزّ لمن أطاعة، والذّلّ لمن عصاه...قال الحسن:" وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال، إنّ ذلّ المعصية لفي قلوبهم أبى الله إلاّ أن يذلّ من عصاه ). اهـ.
[السّادس عشر]: أن يوازن بين سلامة الدّين والعرض والمال والجاه ونيل الّلذّة المطلوبة، فإنّه لا يجد بينيهما نسبة البتّة، فليعلم أنّه من أسفه النّاس ببيعه هذا.( قد جمع الله سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض بالباطل لأنّ فساد الدّين إمّا أن يقع بالاعتقاد الباطل والتّكلّم به وهو الخوض أو يقع في العمل بخلاف الحقّ والصّواب وهو الاستمتاع بالخلاق فالأوّل البدع والثّاني إتّباع الهوى وهذان هما أصل كلّ شرّ وفتنة وبلاء و بهما كُذّبت الرّسل وعصي الرّبّ ودخلت النّار وحلّت العقوبات فالأوّل من جهة الشّبهات والثّاني من جهة الشّهوات ولهذا كان السّلف يقولون احذروا من النّاس صنفين صاحب هوى فتنه هواه وصاحب دنيا أعجبته دنياه)[ إعلام الموقّعين:1/136 ].
[السّابع عشر]: أن يأنف عنه: أن يكون تحت قهر عدوّه، فإنّ الشّيطان إذا رأى من العبد ضعف عزيمة وهمّة وميلاً إلى هواه طمع فيه وصرعه وألجمه بلجام الهوى وساقه حيث أراد، ومتى أحسّ منه بقوّة عزم وشرف نفس وعلوّ همّة لم يطمع فيه إلاّ اختلاساً وسرقة.
قال ابن مسعود رضي الله عنه :" أنتم في زمان يقود الحقّ الهوى ، وسيأتي زمان يقود الهوى الحقّ، فنعوذ بالله من ذلك الزّمان"(الجامع لأحكام القرآن 19/208).
[الثّامن عشر]: أن يعلم أنّ الهوى ما خالط شيئاً إلاّ أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضّلالة وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء، و‘ن وقع في الزّهد أخرج صاحبه إلى الرّياء ومخالفة السّنّة، و‘ن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظّلم وصدّه عن الحقّ، و‘ن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قسمة الجور، وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يولّي بهواه ويعزل بهواه، وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون طاعة وقربة، فما قارن شيئا إلاّ أفسده.
[التّاسع عشر]: أن يعلم أنّ الشّيطان ليس له مدخل على ابن آدم إلاّ من باب هواه، فإنّه يطيف به من أين يدخل عليه حتّى يفسد عليه قلبه وأعماله، فلا يجد مدخلاً إلاّ من باب الهوى، فيسري معه سريان السّمّ في الأعضاء.
[العشرون]: أنّ الله سبحانه وتعالى جعل الهوى مضادّاً لما أنزل رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وجعل إتّباعه مقابلاً لمتابعة رسله، وقسّم النّاس إلى قسمين: إتّباع الوحي، وإتّباع الهوى، وهذا كثير في القرآن كقوله تعالى: " فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنّما يتّبعون أهواءهم "(القصص:50).وقوله تعالى:"ولئن أتّبعت أهواءهم بعد الّذي جاءك من العلم"(البقرة:120)ونظائره.
[الحادي والعشرون]: أنّ الله سبحانه وتعالى شبّه أتباع الهوى بأخسّ الحيوانات صورة ومعنى، فشبّههم بالكلب تارة كقوله تعالى: "ولكنّه أخلد للأرض واتّبع هواه فمثله كمثل الكلب "(الأعراف:176) وبالحمر تارة كقوله تعالى: "كأنّهم حمر مستنفرة، فرّت من قسورة"(المدّثّر:50، 51) وقلب صورهم إلى صورة القردة والخنازير تارة.
[الثّاني والعشرون]: أنّ المتّبع الهوتعالى:هلاً أن يطاع ولا يكون إماماً ولا متبوعاً، فإنّ الله سبحانه وتعالى عزله عن الإمامة ونهى عن طاعته، أمّا عزله فإنّ الله سبحانه وتعالى قال لخليله إبراهيم:"إنّي جاعلك للنّاس إماماً قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظّالمين"(البقرة:124) أي لا ينال عهدي بالإمامة ظالماً. وكلّ من اتّبع هواه فهو ظالم كما قال تعالى :" بل اتّبع الّذين اتّبعوا أهواءهم بغير علم"( الرّوم:29). وأمّا النّهي عن طاعته فلقوله تعالى:" ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فرطاً"(الكهف:28).
(فائدة جليلة: كلّ من آثر الدّنيا من أهل العلم واستحبّها فلا بدّ أن يقول على الله غير الحقّ في فتواه وحكمه في خبره وإلزامه لأنّ أحكام الرّبّ سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض النّاس ولا سيما أهل الرّياسة والّذين يتّبعون الشّبهات فإنّهم لا تتمّ لهم أغراضهم إلاّ بمخالفة الحقّ ودفعه كثيراً فإذا كان العالم والحاكم محبّين للرّياسة متّبعين للشّهوات لم يتم لهما ذلك إلاّ بدفع ما يضادّه من الحقّ ولا سيما إذا قامت له شبهة فتتفق الشّبهة والشّهوة ويثور الهوى فيخفى الصّواب وينطمس وجه الحقّ وإن كان الحقّ ظاهراً لا خفاء به ولا شبه فيه أقدم على مخالفته وقال لي مخرج بالتّوبة)[ الفوائد1/100].
[ الثّالث والعشرون]: أنّ الله سبحانه وتعالى جعل متّبع الهوى بمنزلة عابد الوثن فقال تعالى:" أرأيت من أتّخذ إلهه هواه"( الفرقان:42) (والجاثية:23).
قال عكرمة: أفرأيت من جعل إلهه الّذي يعبده ما يهواه ويستحسنه فإذا استحسن شيئاً وهويه اتّخذه إلهاً!! وقال سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر !!. اهـ(القرطبي:16/167).
[الرّابع والعشرون]: أنّ الهوى هو حظار جهنّم المحيط بها حولها، فمن وقع فيه وقع فيها.
(ذكر الشّهرستاني في أوّل كتابه في الملل والنّحل أنّ مبدأ أنواع كلّ الضّلالات هو من تقديم الرّأي على النّصّ واختيار الهوى على الشّرع فسرى في المنتسبين إلى العلم والدّين من أهل الفقه والكلام والتّصوّف من أقوال الملا حدة بسبب هذا الأصل مالا يعلمه إلاّ الله)[ درء التّعارض:5/7].
[الخامس والعشرون]: أن يخاف على اتّبع الهوى أن ينسلخ من الإيمان وهو لا يشعر.
فقد(أخبر سبحانه أنّ كلّ حكم خالف حكمه الّذي أنزله على رسوله فهو من أحكام الهوى لا من أحكام العقل وهو من أحكام الجاهلية لا من حكم العلم والهدى فقال تعالى:" وإن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تّتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولّوا فاعلم أنّما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإنّ كثيرا من النّاس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون"( المائدة:50، 49 ) فأخبر سبحانه وتعالى أنّه ليس وراء ما أنزله إلا إتّباع الهوى الّذي يضلّ عن سبيله وليس وراء حكمه إلاّ حكم الجاهليّة وكلّ هذه الآراء والمعقولات المخالفة لما جاء به الرّسول صلّى الله عليه وسلّم هي من قضايا الهوى وأحكام الجاهليّة وإن سمّاها أربابها بالقواطع العقليّة والبراهين اليقينيّة كتسمية المشركين أوثانهم وأصنامهم آلهة وتسمية المنافقين السّعي في الأرض بالفساد وصدّ القلوب عن الإيمان إصلاحاً وإحساناً وتوفيقاً...)[ الصّواعق المرسلة:3/1046]
[السّادس والعشرون]: أنّ إتّباع الهوى من المهلكات.(انظر حديث قتادة عن أنس مرفوعاً المتقدّم).
[السّابع والعشرون]: أنّ مخالفة الهوى تورث العبد قوّة في بدنه وقلبه ولسانه، قال بعض السّلف: الغالب لهواه أشدّ من الّذي يفتح المدينة وحده. وفي الحديث الصّحيح:"ليس الشّديد بالصّرعة ولكنّ الشّديد الّذي يملك نفسه عند الغضب"( البخاري كتاب الأدب ومسلم كتاب البرّ والصّلة).
[الثّامن والعشرون]: أنّ أغزر النّاس مرؤة أشدّهم مخالفة لهواه. قال معاوية: المرؤة ترك الشّهوات وعصيان الهوى، فإتّباع الهوى يزمن –يمرض ويضعف- المرؤة، ومخالفته تنعشها.
[التّاسع والعشرون]: أنّه ما من يوم إلاّ والهوى والعقل يعتلجان في صاحبه، فأيّهما قوي على صاحبه طرده وتحكّم وكان الحكم له. قال أبو الدّرداء: إذا أصبح الرّجل اجتمع هواه وعمله، فإن كان عمله تبعاً لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان هواه تبعاً لعمله فيومه يوم صالح.
[الثّلاثون]: أنّ الله سبحانه وتعالى جعل الخطأ وإتّباع الهوى قرينين، وجعل الصّواب ومخالفة الهوى قرينين، كما قال بعض السّلف: إذا أشكل عليك أمران لا تدري أيّهما أرشد فخالف أقربهما من هواك، فإنّ أقرب ما يكون الخطأ في متابعة الهوى.
[الحادي والثّلاثون]: أنّ الهوى داء ودواؤه مخالفته.قال بشر الحافي:البلاء كلّه في هواك، والشّفاء كلّه في مخالفتك إيّاه. ( ومتى أراد الله بالعبد كمالا وفقه لاستفراغ وسعه فيما هو مستعدّ له قابل له قد هيئ له فإذا استفرغ وسعه على غيره وفاق النّاس فيه كما قيل ما زال يسبق حتّى قال حاسده هذا طريق إلى العلياء مختصر وهذا كالمريض الّذي يشكو وجع البطن مثلا إذا استعمل دواء ذلك الدّاء انتفع به وإذا استعمل دواء وجع الرّأس لم يصادف داءه فالشّحّ المُطاع مثلاَ من المهلكات ولا يزيله صيام مائة عام ولا قيام ليلها وكذلك داء إتّباع الهوى والإعجاب بالنّفس لا يلائمه كثرة قراءة القرآن واستفراخ الوسع في العلم والذّكر والزّهد وإنّما يزيله إخراجه من القلب بضدّه )[ عدّة الصابرين:1/94].
[الثّاني والثّلاثون]: أنّ جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفّار فليس بدونه، قال رجل للحسن البصري رحمه الله تعالى: يا أبا سعيد، أيّ الجهاد أفضل؟ قال: جهادك هواك.
[الثّالث والثّلاثون]:–التّخليط:تخليط –التّخليط:فساد العقل واضطرابه-ومخالفته حمية-الحمية: الوقاية والحماية من الضّارّ-, ويخاف على من أفرط في الحمية أن يصرعه داؤه.
[الرّابع والثّلاثون]: أنّ إتّباع الهوى يغلق عن العبد أبواب التّوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأنّ الله لو وفَّق لكان كذا وكذا، وقد سدّ على نفسه طرق التّوفيق بإتّباعه هواه.قال الفضيل بن عياض: من استحوذ عليه الهوى واتّبع الشّهوات انقطعت عنه موارد التّوفيق.
[الخامس والثّلاثون]: أنّ من نصر هواه فسد عليه عقله ورأيه، لأنّه قد خان الله في عقله فأفسده عليه، وهذا شأنه سبحانه وتعالى في كلّ من خانه في أمر من الأمور، فإنّه يفسده عليه.
[السّادس والثّلاثون]: أنّ من فسح لنفسه في إتّباع الهوى ضيّق عليها في قبره ويوم معاده، ومن ضيّق عليها بمخالفة الهوى وسّع عليها في قبره ومعاده وقد أشار الله تعالى إلى هذا في قوله تعالى:"وجزاهم بما صبروا جنّة وحريراً"(الإنسان:21). فلمّا كان في الصّبر الّذي هو حبس النّفس عن الهوى خشونة وتضييق، جازاهم على ذلك نعومة الحرير وسعة الجنّة.
[السّابع والثّلاثون]: أنّ إتّباع الهوى يصرع العبد عن النّهوض يوم القيامة عن السّعي مع النّاجين، كما صرع قلبه في الدّنيا عن مرافقتهم.
[الثّامن والثّلاثون]: أنّ إتّباع الهوى يحلّ العزائم ويوهنها، ومخالفته تشدّها وتقوّيها.قيل ليحيى بن معاذ:من أصحّ النّاس عزماً؟ قال: الغالب لهواه.
[التّاسع والثّلاثون]: أنّ مثلَ راكب الهوى كمثل راكب فرس حديد صعب جموح لا لجام له فيوشك أن يصرعه فرسه في خلال جريه به أو يسير به إلى مهلك.
[الأربعون]: أنّ التّوحيد وإتّباع الهوى متضادّان. وتأمّل قول الخليل عليه السّلام، لقومه:"ما هذا التّماثيل الّتي أنتم لها عاكفون"( الأنبياء:52) كيف تجده مطابقاَ للتّماثيل الّتي يهواها القلب ويعكف عليها ويعبدها من دون الله، قال تعالى:" أرأيت من اتّخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً، أم تحسب أنّ أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضلّ سبيلاً"(الفرقان:44, 43).
[الحادي والأربعون]: أنّ مخالفة الهوى طرَدَة للدّاء عن القلب والبدن، ومتابعته مجلبة لداء القلب والبدن.
(ولا ريب أنّ القلب يصدأ كما يصدأ النّحاس والفضّة وغيريهما وجلاؤه بالذّكر فإنّه يجلوه حتّى يدعه كالمرآة البيضاء فادا ترك صدئ فإذا صدا القلب بأمرين: بالغفلة والذّنب وجلاؤه بشيئين:بالاستغفار والذّكر فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصّدا متراكبا على قلبه وصداه بحسب غفلته وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه فيرى الباطل في صورة الحقّ والحقّ في صورة الباطل لأنّه لمّا تراكم عليه الصّدا أظلم فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه فإذا تراكم عليه الصّدا وأسودّ وركبه الرّان فسد تصوّره وإدراكه فلا يقبل حقّا و لا ينكر باطلاً وهذا أعظم عقوبات القلب وأصل ذلك من الغفلة وإتّباع الهوى فإنّهما يطمسان نور القلب ويعميان بصره قال تعالى:" ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فرطا " فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر هل هو من أهل الذّكر أو من الغافلين و هل الحاكم عليه الهوى أو الوحي فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة كان أمره فرطا)[ الوابل1/60].
[الثّاني والأربعون]: أنّ أصل العداوة والشّرّ والحسد الواقع بين النّاس من إتّباع الهوى، فمن خالف هواه أراح قلبه وبدنه وجوارحه فاستراح وأراح: قال أبوبكر الورّاق: إذا غلب الهوى أظلم القلب، وإذا أظلم ضاق الصّدر، وإذا ضاق الصّدر ساء الخُلُق، وإذا ساء الخُلُق أبغضه الخلْق وأبغضهم، فانظر ماذا يتولّد من التّباغض من الشّرّ والعداوة وترك الحقوق وغيرها.
[ الثاّلث والأربعون]: أنّ الله سبحانه وتعالى جعل في العبد هوى وعقلاً فأيّهما ظهر توارى الآخر. قال علي بن سهل:العقل والهوى يتنازعان، فالتّوفيق قرين العقل، والخذلان قرين الهوى، والنّفس واقفة بينيهما، فإيّهما غلب كانت النّفس معه.
[ الرّابع والأربعون]: أنّ الله سبحانه وتعالى جعل القلب ملَك الجوارح ومعدن معرفته ومحبّته وعبوديّته، وامتحنه بالإتّباع للحقّ أو للهوى.
[الخامس والأربعون]: أنّ أعدى عدوّ للمرء شيطانه وهواه، وأصدق صديق له عقله والملك النّاصح له، فإذا اتّبع هواه أعطى بيده لعدوّه واستأسر له وأشمته به وساء صديقه ووليّه، وهذا هو بعينه هو جهد البلاء، ودرك الشّقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
[السّادس والأربعون]: أنّ لكلّ عبدٍ بداية ونهاية، فمن كانت بدايته إتّباع الهوى، كانت نهايته الذّلّ والصّغار والحرمان والبلاء، والمتبوع بحسب ما اتبع من هواه.قيل للمهلّب بن أبي صفرة: بم نلت ما نلت؟ قال: بطاعة الحزم وعصيان الهوى.( قال أبو عثمان من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة)[ الاستقامة:1/97 ].
[السّابع والأربعون]: أنّ الهوى رقّ في القلب، وغلّ في العنق، وقيد في الرّجل، ومتابعه أسير لكلّ سيئ الملكة، فمن خالفه عتَق من رقّه وصار حرّاً، وخلع الغلّ من عنقه والقيد من رجله وصار بمنزلة رجل سالم لرجل بعد أن كان رجلاً فيه شركاء متشاكسون.
قال ابن المبارك:
ومن البلاء وللبلاء علامةٌ ** أن لا يرى لك عن هواك نزوعُ
العبد عبد النّفس في شهواتها** والحــرّ يشبع تارة ويجوع
[الثّامن والأربعون]: أنّ مخالفة الهوى تقيم العبد في مقام من لو أقسم على الله لأبرّه، فيقضي له من الحوائج أضعاف أضعاف ما فاته من الهوى، فتأمّل انبساط يد يوسف الصّدّيق عليه الصّلاة والسّلام ولسانِه وقدمهِ ونفسهِ بعد خروجه من السّجن لمّا قبض نفسه عن الحرام.
[التّاسع والأربعون]: أنّ مخالفة الهوى توجب شرف الدّنيا وشرف الآخرة، وعزّ الظّاهر وعزّ الباطن.
[ الخمسون]: أنّك إذا تأمّلت السّبعة الّذين يظلّهم الله عزّ وجلّ في ظلّ عرشه يوم لا ظل إلاّ ظلّه –الحديث أخرجه البخاري كتاب الأذان ومسلم كتاب الزّكاة-، وجدتهم إنّما نالوا ذلك الظّلّ بمخالفة الهوى.
الّلهمّ إنّا نعيذك من أهواء نفوسنا الأمّارة بالسّوء ،الّلهمّ اجعل هوانا تَبَعا لما تحبّه وترضاه ، إنّك على كلّ شيء قدير ، وبالإجابة جدير.
م/ن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق