الثلاثاء، 20 فبراير 2018

لماذا لا نملّ القرآن؟؟

لماذا لا نملُّ القرآن؟

مقال لـ شريف محمد جابر (كاتب ومترجم)

في علاقتنا كبشر مع أيّ نصّ بشري لا بدّ من تسرّب الملل، حتى تلك النصوص التي تُبهرنا وتسلبُ قلوبنا وعقولنا لمدّة طويلة، سيأتي عليها يومٌ وتُمَلّ. بل إنّ الأمر يتعدّى ذلك ويتطرّق الملل إلى الكتّاب أنفسهم؛ ذلك الشاعر الذي ألهمتْنا قصائده العذبة وكنا نرتشف دواوينه دون ملل، لا بد أن يأتي يوم نشعر فيه بالاكتفاء منه، ومن ثم نشعر بالملل عند قراءة قصائده، فلم تعدْ مع تكرارها توفّر لنا تلك الشحنة التي كنا نشعر بها حين قرأناها في المرات الأولى، إلا لو انقطعنا عنها لمدّة طويلة.

وكذلك الأمر مع مفكّرينا المفضّلين، أولئك الذين ساهموا في بناء عقولنا وتوسيع آفاقنا، سيأتي يومٌ نشعرُ فيه بنضوب أفكارهم، وبأنّ المخزون المتوفّر منها لم يعدْ يصنع لنا شيئا كبيرا، لا على المستوى الفكري ولا الوجداني، فنملّها ونشعر بالاكتفاء منها، ومن ثمّ نفضّل "تجاوز" أولئك المفكّرين لنسبر أغوار عقول وكتب أخرى.

الاكتفاءُ ثم التجاوز، تلك هي الممارسة التي نقوم بها مع كلّ نصّ، إلا مع القرآن. القرآن وحده هو الذي لا يمكن أن نشعر بالاكتفاء منه، بل نظلّ نشعر بحاجة دائمة للنهل من ينابيعه، ولا يمكننا أن نفكّر يومًا في تجاوزه؛ ليس فقط لأنّ تلاوته وظيفة شرعية نقوم بها طاعةً لله، بل لأنّنا نحتاج إلى النهل من معينه في كلّ حين، ونشعر بالفقد الموجع لمجرّد التفكير في خيار تجاوزه! القرآن وحدهُ هو النصّ الذي لا يُملّ، حتى لو كنّا نحفظه ونواظب على تلاوته يوميّا. بل حتى على مستوى السورة الواحدة، لا نملّ قراءتها ونشعر بحاجة دائمة إلى الاسترواح على ضفافها وإجراء ألسنتنا بكلماتها وقلوبنا بمعانيها.. فما هو السرّ الذي يجعلنا لا نملُّ القرآن؟ سأحاول في هذه التدوينة الإشارة إلى أهم الميزات التي أعتبرها أسبابا رئيسية في عدم حصول الملل لنا ونحن نقرأ القرآن، والتي لا تتوفّر لأي نصّ بشري مهما بلغ من جمال العبارة وعبقرية الأفكار.

القرآن يجيبُ عن أسئلة الفطرة
هذا القرآن هو رسالة الوحي الأخيرة للبشرية، هو الذي قال الله سبحانه عنه: "إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ". وفي صلب هذه الهداية القرآنية تأتي إجابة القرآن عن أسئلة الفطرة التي تطرحها كلّ فطرة إنسانية وتجيب عنها في حياتها بشكل من الأشكال:
من أين جئنا؟ (المنشأ)
لماذا جئنا؟ (الغاية)
كيف نعيش؟ (المنهج)
إلى أين نذهب بعد الموت؟ (المصير)

إنّ جميع الإجابات البشرية المعزولة عن الوحي، سواء كانت إجابات مباشرة أو غير مباشرة عن هذه الأسئلة، هي إجابات قاصرة لا تُشبع الفطرة الإنسانية. لقد وقف العلم عاجزا عن معرفة المنشأ والمصير؛ لأنّه لا يملك الأدوات القادرة على الإجابة عن هذين السؤالين المهمين، ومن ثم ترك الإنسانَ المعاصرَ في تيه الدنيا معزولا عن أي هداية وإرشاد، ليتخبّط في تحديد الغاية المقصورة على الاستمتاع بتراب الدنيا، وفي رسم المناهج التي تلعن بعضها ويتولّد منها الفساد! أما الفلسفة، فقد حاولت على مدى قرون طويلة أن تقدّم إجابات "منطقية" عن تلك الأسئلة، فجاءت بالمضحكات، وتركت الفطرة الإنسانية شاردة في التيه، تتخبّط في العماء!

وحده القرآن هو الذي يقدّم تلك المساحة الرحبة من التعريف بالمنشأ؛ بدءا من التعريف بالخالق الكريم، بصفاته وأفعاله في الكون والحياة. وحده القرآن يقدّم غاية متجاوزة للمادة، تجعل من الدنيا دار اختبار دون نسيان نصيبنا منها، وتجعل لقاء الله هو الغاية العليا. وحده القرآن يقدّم "الشريعة" منهجًا متكاملا يصلح لضبط هذه النفس الإنسانية التي خلقها الله: "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ". وحده القرآن يرسم لنا مشاهد الآخرة كأنها حاضرة أمامنا، نشهد تفاصيلها ونرى مصائر المؤمنين والمجرمين في آن! إنّ الفطرة المتفتّحة للحقّ لا يسعها إلا أن تشعر بالطمأنينة حين تجد هذه الإجابات القرآنية المتّسقة والمتكاملة عن أسئلتها الملحّة الكبرى.. فكيف تملّ القرآن؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق