الأربعاء، 23 سبتمبر 2020

في حفظ السرّ.

قال ابن الجوزي رحمه الله:
" رأيت أكثر الناس لا يتمالكون من إفشاء سرهم، فإذا ظهر، عاتبوا من أخبروا به. فوا عجبًا! كيف ضاقوا بحبسه ذرعًا، ثم لاموا من أفشاه؟! "
إلى أن قال:
" ومن العجز إفشاء السر إلى الولد والزوجة، والمال من جملة السر، فاطلاعهم عليه: إن كان كثيرًا، فربما تمنوا هلاك المورث1، وإن كان قليلًا، تبرموا بوجوده، وربما طلبوا من الكثير على مقدار كثرته، فأتلفته النفقات.
وستر المصائب من جملة كتمان السر؛ لأن إظهارها يسر الشامت، ويؤلم المحب.
وكذلك ينبغي أن يكتم مقدار السن؛ لأنه إن كان كبيرًا، استهرموه، وإن كان صغيرًا، احتقروه.
ومما قد انهال فيه كثير من المفرطين: أنهم يذكرون بين أصدقائهم أميرًا أو سلطانًا، فيقولون فيه، فيبلغ ذلك إليه، فيكون سبب الهلاك. وربما رأي الرجل من صديقه إخلاصًا وافيًا، فأشاع سره. وقد قيل2:
احذر عدوك مرةً ... واحذر صديقك ألف مره
فلربما انقلب الصديـ ... ـق فكان أدرى بالمضره
ورب مفشٍ سره إلى زوجة أو صديق، فيصير بذلك رهينًا عنده، ولا يتجاسر أن يطلق الزوجة، ولا أن يهجر الصديق، مخافة أن يظهر سره القبيح.
فالحازم من عامل الناس بالظاهر، فلا يضيق [صدره بسره] 3، فإن فارقته امرأة أو صديق أو خادم، لم يقدر أحد منهم أن يقول فيه ما يكره.
ومن أعظم الأسرار الخلوات، ليحذر الحازم فيها من الانبساط بمرأى من مخلوق، ومن خلق له عقل ثاقب، دله على الصواب قبل الوصايا."
--------------
1 في الأصل: الموروث.
2 البيتان لعلي بن عيسى، انظر: محاضرات الراغب "3/ 28".
3 في الأصل: فلا يضيق سره في صدره.

صيد الخاطر ص 273
بترقيم الشاملة الحديثة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق