الجمعة، 26 يوليو 2019

سبيل إصلاح الأمة

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فإنَّ الأُمَّةَ اليومَ تشكو مِن تَدَاعي الأممِ عليها بدياناتها ولُغاتِها وثقافاتها وأنواعِ سلوكاتها وأنماطِ أخلاقها؛ فتبعيَّةُ أُمَّتِنا المقهورةِ لها تبعيةُ ذُلٍّ وصَغَارٍ وضعفٍ، والمعروفُ مِن السنن الكونية أنَّ القويَّ يَسْتَحْوِذُ على الضعيف ويُهينُه، وهذا الخَطَرُ المُحْدِقُ بأُمَّتنا راجعٌ إلى بُعْدِها عن دينها وثوابتها، وانسلاخِها مِن تراثها وقِيَم دينها، وانصهارِها في حضاراتِ غيرِها مِن الأُمَمِ نتيجةَ الغزوِ الإعلاميِّ والثقافيِّ، وتوسيعِ دائرة نشاطات التنصير وشبكاته؛ الأمرُ الذي ـ إن لم يُسْتَدرك ـ قد يُفْضِي إلى الإبادة كما أُبيدَتْ أُمَمٌ مِن قبلها، ومَخْرجُ هذه الأُمَّةِ مِمَّا تُعاني منه ونجاحُها مرهونٌ بعودتها إلى دينها على ما كان عليه سَلَفُها الصالح؛ إذ «لا يُصْلِحُ آخِرَ هذه الأُمَّةِ إلَّا ما أَصْلَحَ أَوَّلَها»(١)، ولا تتمُّ دعوةُ الحقِّ إلَّا بهذا المنهجِ السنِّيِّ السلفيِّ القائمِ على توحيد الله الكامل، وتجريدِ مُتابَعةِ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، والتزكيةِ على صالِحِ الأخلاق والآداب؛ فإنه بقَدْرِ اتِّباعِ هذا المنهجِ والتربيةِ عليه والالتزامِ به يكون الابتعادُ عن الانحراف والضلال والتبعية.

إنَّ أعلام السلفِ فاقـوا غيرَهم مِن أصحابِ الفِرَق والطـوائف في مُخْتَلَفِ الميادين، سواءٌ في التصوُّرات المتجسِّدة في القضايا الكبرى الخاصَّةِ بالله سبحانه وتعالى، وكذا مخلوقاته في الحياة والكون، أو في المبادئ الإسلامية والقِيَمِ المُنْبَثِقةِ منها، التي سَلَكُوها في مُواجَهةِ التحدِّيات العلمية والعَقَدية التي أُثِيرَتْ في عصورهم، أو في المُنْطَلقات التأصيلية التي بَنَوْا عليها فَهْمَ الإسلامِ والعملَ به نصًّا وروحًا، أو في التفاعل مع الأحداث والوقائع المُسْتَجِدَّةِ التي واجَهوها وتصدَّوْا لها. كُلُّ ذلك يُنْبِئُ عن تَكامُلِ هذا المنهجِ الربَّانيِّ القويمِ في التصوُّر والقِيَم والمبادئ، وفي العملِ والإصلاح والتربية، وفي السلوك والتزكية؛ فكان أَنْ أنَارَ اللهُ به طريقَ المُهْتَدين، وأضاءَ به صدورَ العالَمين شرقًا وغربًا، وصانَ به دينَه وحَفِظ به كتابَه عن طريقِ الْتزام أعلام السلفية به جيلًا بعد جيلٍ، مِن صَدْرِ الإسلام إلى زماننا الحاضر؛ ذلك لأنَّ هذا المنهجَ السلفيَّ هو منهجُ الإسلامِ المصفَّى نَفْسِه، البيِّنةُ مَعالِمُه، المأمونةُ عواقبُه، يسيرُ على قواعدَ واضحةٍ، ويتحلَّى بخصائصَ جامعةٍ، فمِن قواعده: الاستدلالُ بالكتاب والسنَّة، والاسترشادُ بفهمِ سَلَفِ هذه الأُمَّة، ورفضُ التأويل الكلاميِّ، وعَدَمُ مُعارَضةِ النقل برأيٍ أو قياسٍ أو نحوهما، وتقديمُه على العقل مع نفيِ التعارض بينهما كما يُنفى التعارضُ بين النصوص الشرعية في ذاتها، وجَعْلُ الكتابِ والسنَّةِ ميزانًا للقَبول والرفض دون ما سواهما.

ومِن خصائصه الجامعة: شمولُه، وتوسُّطُه بين المَناهِجِ الأخرى، ومُحارَبتُه للبِدَعِ وتحذيرُه منها، واجتنابُ الجَدَلِ المذموم في الدِّين والتنفيرُ منه، ونَبْذُ الجمودِ الفكريِّ والتعصُّبِ المذهبيِّ، ومُسايَرتُه للفطرة والاعتقادِ القويمِ والعقلِ السليم.

فمثلُ المُناسَباتِ المُهِمَّةِ في حياةِ أُمَّتنا وحياةِ رجالها تُمَثِّلُ ـ بصدقٍ ـ فُرَصًا للتقويم والتقدير والمُراجَعة، كما تفتح مَجالًا واسعًا للتفكير في كيفيةِ نَشْرِ هذا الدِّينِ المصفَّى في أرضنا وعلى رُبوعها وعلى نطاقٍ واسعٍ بتربيةِ الناسِ على دينهم الحقِّ، ودعوتِهم إلى العمل بأحكامه والتحلِّي بآدابه، وإبعادِهم عن أنماط الضلالات الشركية وأنـواع الانحرافات الفكرية ومُخْتَلَف الأباطيل البدعية، التي شوَّهَتْ جمالَ الإسلامِ وكدَّرَتْ صفاءَه، وحالَتْ دون تَقَدُّمِ المسلمين، وكانَتْ سببًا لهذا البلاءِ الذي يعيشه المسلمون اليومَ.

إنَّ هذا المنهجَ الربَّانيَّ بمَسْلَكِه التربويِّ ومُبْتَغاه الدعويِّ وبُعْدِه المَقاصِديِّ لا يُوجَد له صدًى واسعٌ إلَّا بانتهاجِ أسلوبِ اللِّين والموعظةِ الحسنةِ بعيدًا عن التبكيت والغِلْظةِ والفجاجة؛ فإنَّ اللِّين ـ في مَجالِ التعليمِ والإعلام والنصح والدعوة والموعظة الحسنة ـ لَهُوَ مِن أَهَمِّ الأسبابِ في انتفاعِ الناسِ بدعوةِ الدُّعاةِ ومِن أهمِّ البواعث على تَقَبُّل توجيهاتهم وإرشاداتهم؛ قال تعالى: ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ﴾ [النحل: ١٢٥]؛ فليس مِن الحكمةِ الدعوةُ بالجهل لأنه يضرُّ ولا ينفع، وليس مِن الموعظةِ الحسنةِ والجدالِ بالحسنى الدعوةُ بالعنفِ والشدِّةِ لأنَّ ضَرَرَهُ أَشَدُّ وأَعْظَمُ؛ ذلك لأنَّ الأسلوب العنيفَ المُؤْذِيَ الضارَّ يَشُقُّ على الناسِ ويُنَفِّرُهم مِن الدِّين، بل الواجبُ الصبرُ والحِلْمُ والرِّفق في الدعوة إلى الله إلَّا إذا ظَهَرَ مِن المَدْعُوِّ العنادُ والظلم؛ فلا مانِعَ مِن الإغلاظ عليه لقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱغۡلُظۡ عَلَيۡهِمۡۚ﴾ [التحريم: ٩]، وقولِه تعالى: ﴿وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ﴾ [العنكبوت: ٤٦]، ومِثْلُ هذه الأساليبِ التي دَعَا إليها الشرعُ الحكيمُ إنَّما تقرَّرَتْ لتحقيقِ المقصود مِن الدعوة إلى الله تعالى، وهو إخراجُ الناسِ مِن الظلمات إلى النور؛ قال تعالى: ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ﴾ [البقرة: ٢٥٧]، وتحقيقُ هذه الغايةِ كان مِن وراءِ بعثة الرسل، والدُّعاةُ إلى اللهِ يقصدون هذه الغايةَ نَفْسَها، وينشطون لها لإخراجِ الناسِ مِن ظُلْمةِ الكفر إلى نورِ التوحيد، ومِن ظُلْمةِ المعصيةِ إلى نور الطاعة، ومِن ظُلْمةِ الجهل إلى نور العلم؛ ذلك العلمُ الذي يَتَوصَّلُ به المُسْتمسِكُ إلى مَعْرِفةِ دينِ الله الحقِّ، ويسلك فيه ـ بصدقٍ وعلمٍ ـ سبيلَ الدعوةِ إلى الله مع مَن معه على هذا المنوالِ لقوله تعالى: ﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٨﴾ [يوسف]؛ وبهذا يدعو فيه إلى الوحدةِ بالتوحيد والاتِّباع، وبهما يعمل على تحقيقِ الاجتماع والائتلاف، والحذرِ مِن الفُرْقة والاختلاف، عملًا بقوله تعالى: ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ﴾ [آل عمران: ١٠٣]، وقولِه تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ﴾ [آل عمران: ١٠٥]، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنِّي قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا، أَوْ عَمِلْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ»(٢)، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ المَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»(٣).

لذلك كان خيرُ ما سَعَى إليه المسلمُ وبَذَلَ فيه النَّفْسَ والمالَ هو العلمَ بالكتاب والسُّنَّة؛ إذ عليهما مَدَارُ السعادةِ والنجاح في الدنيا والآخرة؛ فلْيَحْرِصِ المرءُ على تحقيقِ الغايةِ مِن الدعوة إلى اللهِ بتحقيقِ وسيلتها بإخلاصٍ وصدقٍ؛ فلا يُثبِّطُه العَجْزُ والكَسَلُ فهما خُلُقان ذميمان، ولا يمنعُه العُجْبُ والغرورُ مِن الاستزادة والاستفادة؛ فإنَّ العُجْب والغرورَ مِن أَكْبَرِ العوائق عن الكمال، ومِن أعظمِ المَهالِكِ في الحال والمآل.

وأخيرًا أسأل اللهَ تعالى أن ينصر دينَه ويُعْليَ كلمتَه، ويخذل أعداءَه، ويوفِّق القائمين على الدعوة إلى الله لِمَا فيه خيرُ دينِهم وصلاحُ أمَّتهم.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.



مستخرج من مقدمة كتاب

- مجالس تذكيرية على مسائل منهجية -

١٤٢٤هـ / ٢٠٠٣م



(١) انظر: «التمهيد» لابن عبد البرِّ (٢٣/ ١٠)، «البيان والتحصيل» لابن رشد (١٨/ ٣٢٧).

(٢) أخرجه الحاكم في «المستدرَك» (٣١٩)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (١٠/ ١١٤)، مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال ابنُ عبد البرِّ في «التمهيد» (٢٤/ ٣٣١): «وهذا ـ أيضًا ـ محفوظٌ معروفٌ مشهورٌ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عند أهلِ العلمِ شهرةً يكاد يستغني بها عن الإسناد»، وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٢٩٣٧).

(٣) أخرجه أبو داود في «السنَّة» بابٌ في لزوم السنَّة (٤٦٠٧)، والترمذيُّ في «العلم» بابُ ما جاء في الأخذ بالسنَّة واجتنابِ البِدَع (٢٦٧٦)، وابنُ ماجه في «المقدِّمة» بابُ اتِّباعِ سنَّةِ الخلفاء الراشدين المهديِّين (٤٢)، مِنْ حديثِ العرباض بنِ سارية رضي الله عنه. وحسَّنه البغويُّ في «شرح السنَّة» (١/ ١٨١)، والوادعيُّ في «الصحيح المسند» (٩٣٨)، وصحَّحه ابنُ الملقِّن في «البدر المنير» (٩/ ٥٨٢)، وابنُ حجرٍ في «موافقة الخبر الخبر» (١/ ١٣٦)، والألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٢٥٤٩) وفي «السلسلة الصحيحة» (٢٧٣٥)، وشعيب الأرناؤوط في تحقيقه ﻟ: «مسند أحمد» (٤/ ١٢٦).

http://ferkous.com/home/?q=art-mois-2


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق