الثلاثاء، 1 ديسمبر 2020

التأمل في خلق الأرض

التأمل في خلق الأرض


إنَّ من آيات الله العظيمة هذه الأرض التي نمشي في مناكبها ونسير في فجاجها ونعيش على ظهرها ، فإنَّ فيها من الآيات العظيمة والدلالات الكريمة على كمال قدرة خالقها وتمام حكمة مبدعها ، ولذا فقد أكثر الله من ذكرها في القرآن ودعا عباده إلى النظر إليها والتفكر في خلقها والتأمل في آياتها وعجائبها ليزداد بذلك إيمانهم ويقوى يقينهم .

يقول الله تعالى : {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } [الذاريات:48] ، ويقول تعالى : {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ:6] ، ويقول سبحانه : {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا } [البقرة:22] ويقول : {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } [الغاشية:17-20] ، ويقول سبحانه {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية:3] ، وقال تعالى : {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20] والآيات في هذا المعنى كثيرة .

ومن يتأمل الأرض وكيف خُلقت يجدها من أعظم آيات فاطرها وبديعها ، خلقها سبحانه فراشاً ومهاداً ، وذللها لعباده وجعل فيها أرزاقهم وأقواتهم ومعايشهم ، وجعل فيها السبل لينتقلوا فيها في حوائجهم وتصرفاتهم {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] .

ثم إنه سبحانه أرساها بالجبال فجعلها أوتاداً لها تحفظها لئلا تميد بهم ، فأحكم جوانبها بالجبال الراسيات الشوامخ الصُّم الصلاب ، قال تعالى {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ6-7] ، وقال تعالى : {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات:32] ، وقال تعالى : {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } [النحل:15] .

ثم إنه سبحانه وسَّع أكناف الأرض ودحاها فمدَّها وبسطها وطحاها فوسَّعها من جوانبها ، ولولا ذلك لضاقت عن مساكن الإنس والحيوان وعن مزارعهم ومراعيهم ومنابت ثمارهم ، قال تعالى : {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سبأ:9] ، وقال تعالى : {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:7-8] .

ثم إنه سبحانه جعلها كفاتاً للأحياء والأموات ، قال تعالى : {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25-26] ، فهي تضمُّهم على ظهرها ما داموا أحياء ، ثم تضمهم في بطنها إذا ماتوا ، فظهرها وطن للأحياء، وبطنها وطن للأموات .

ثم إنه سبحانه ميَّز بين قطعها وفضَّل بعضها على بعض بالزروع المختلفة والنباتات المتنوعة {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد:4] .

ومن آيات الله العظيمة أنك ترى القطعة من الأرض هامدة خاشعة لا زرع فيها ولا نبات فإذا أنزل عليها الكريم الرحمن الماء اهتزت وتحركت ، وربت فارتفعت ، واخضرَّت وأنبتت من كل زوج بهيج في المنظر والمخبر {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:5-7] .

ومن آيات الله العجيبة البحار المكتنفة لأقطار الأرض التي هي خلجان من البحر الأعظم المحيط بجميع الأرض ، حتى إنَّ المكشوف من الأرض والجبال والمدن بالنسبة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم ، وبقية الأرض مغمورة بالماء . ولولا إمساك الرب تبارك وتعالى له بقدرته ومشيئته وحبسُه الماء لطفح على الأرض وعلاها كلها ، ولنا في التاريخ في هذا الباب عبرة ، يقول تعالى : {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [الحاقة:11-12] .

ثم إنه من لطف الله سبحانه بعباده في خلق الأرض أن جعلها واقفة ساكنة لتكون مهاداً ومستقراً للحيوان والنبات والأمتعة ، ويتمكن الناس والحيوان من السعي عليها في مآربهم والجلوس لراحتهم والنوم لهدوئهم من أعمالهم ، ولو كانت رجراجة منكفئة لم يستطيعوا على ظهرها قرارا ولا هدوءً ، ولم يثبت عليها بناء ، ولا أمكنهم عليها صناعة ولا تجارة ولا حراثة ولا مصلحة ، وكيف يهنئون بالعيش والأرض ترتج من تحتهم وتهتزُّ أسفل منهم !!

وخذ العبرة من ذلك بما يصيب الناس في بعض الأحيان من الزلازل على قلة مكثها ، كيف تصيِّرهم إلى ترك منازلهم والهرب من أوطانهم ، بل إنها إذا اشتدت دمَّرت المساكن وأهلكت الناس ، وقد نبَّه الله تعالى على ذلك بقوله : { وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } ، وقوله : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا } [غافر:64] أي واقفة ساكنة غير متحركة أو رجراجة .

ولهذا فإنَّ الله سبحانه قد يخوِّف عباده بأن يحدِث فيها الزلازل العظام ، فيحدُث من ذلك للعباد الخوف والخشية والإنابة والإقبال على الله ، يقول الله تعالى : { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا } [الإسراء:59] . قال بعض السلف -وقد زلزلت الأرض- : " إنَّ الله يستعتبكم " .

واعلموا أن الله خلق الإنسان ذلكم المخلوق العجيب وأخرجه من الأرض وأنبته منها { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا } [نوح:17-18] .

ثم إنه استخلف هذا الإنسان في الأرض وسخرها له لينظر كيف يعمل ؟ قال سبحانه : { مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الإسراء:15] ، وقال عز وجل : {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} [فاطر:39] .

وميَّز سبحانه بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمفسدين في الأرض ، فأعدَّ للمؤمنين الأجور العظيمة والعطايا الكريمة ، وأعدَّ للمفسدين العذاب الأليم { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ص:28] .

والواجب على كل إنسان أن ينظر إلى حاله ونفسه فوق أرض الله ماذا يعمل ؟ وماذا أعدَّ للقاء رب الأرض ورب السماوات ورب الخلق أجمعين ؟ والكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .

نسأل الله الكريم أن يحفظنا وإياكم من القلاقل والفتن والزلازل والمحن ما ظهر منها وما بطن ، وأن يمنَّ علينا جميعاً برضاه ، وأن يوفقنا لهداه ، وأن يغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ، إنه هو الغفور الرحيم .

*********

المصدر موقع الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق