الأربعاء، 24 أبريل 2019

باب فضل التوحيد وما يُكفّر من الذنوب

وقول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].

عن عبادة بن الصَّامت  قال: قال رسولُ الله ﷺ: مَن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأنَّ عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنةَ على ما كان من العمل أخرجاه.

ولهما في حديث عتبان: فإنَّ الله حرَّم على النار مَن قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله.

وعن أبي سعيدٍ الخدري، عن رسول الله ﷺ قال: قال موسى: يا ربّ، علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله، قال: يا ربّ، كل عبادك يقولون هذا! قال: يا موسى، لو أنَّ السماوات السبع وعامرهنَّ غيري والأرضين السبع في كفَّةٍ، ولا إله إلا الله في كفَّةٍ، مالت بهن لا إله إلا الله رواه ابن حبان والحاكم وصحَّحه.

وللترمذي وحسَّنه عن أنسٍ: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تُشرك بي شيئًا لأتيتُك بقرابها مغفرةً.


الشيخ: يقول رحمه الله: باب فضل التوحيد، باب بيان فضل التوحيد الذي جهله المشركون وأنكروه، وهو توحيد العبادة وما يتضمنه من توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصِّفات، توحيد الله هو أصل الدين، هو أصل العمل، مَن استقام عليه تمَّت له السعادة؛ ولهذا أورده المؤلفُ في هذا الباب ليعرف طالبُ العلم وليعلم كل مسلمٍ فضل التوحيد وعظم شأنه، وقد جحده المشركون، واتَّخذوا مع الله الآلهة والأنداد، وقالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، فأقروا بأن الله خالقهم ورازقهم، وأقرُّوا بأسمائه وصفاته، ولكن جحدوا استحقاقه العبادة وحده، وجعلوا معه الآلهة والشُّفعاء، فكانوا بهذا مشركين؛ استحلَّت الأنبياء دماءهم وأموالهم، واستحلَّ نبينا ﷺ دماءهم وأموالهم حتى يعبدوا الله وحده، حتى يخصُّوه بالعبادة فلا يعبدوا معه ملكًا ولا شجرًا ولا حجرًا ولا صنمًا ولا نبيًّا ولا غير ذلك، كما قال جلَّ وعلا: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]، وقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، وقال سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] يعني: مخلصين له العبادة، وقال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وقال سبحانه: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14].

هذا هو الواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس؛ أن يخصوا الله بالعبادة، ومَن مات على هذا التوحيد والإيمان صادقًا أدخله الله الجنة؛ لأنَّ الصدق في التوحيد يتضمن محي الذنوب، الصادق في التوحيد يكون إيمانه وتوحيده مُزيلًا للذنوب؛ لأنَّ صدقه في إيمانه وصدقه في توحيده يتضمن التوبة والإقلاع والحذر من الذنوب كلها؛ ولهذا في الرواية الأخرى: إذا قالها صدقًا من قلبه، إذا قالها بحقِّها دخل الجنة، فالصادق الذي يقول هذه الشهادة من قلبه، لا يُصرّ على السيئات، بل يتوب إلى الله منها، ويُقلع منها، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] يعني: الذين آمنوا بالله وحده، وخصُّوه بالعبادة، ولم يظلموا يعني: لم يُشركوا؛ لهم الأمن، ولهم الهداية، لما نزلت الآية جاء الصحابةُ إلى النبي ﷺ وقالوا: يا رسول الله، أينا لم يظلم نفسه؟! ظنوا أنَّ الظلم هذا يعمّ الظلم الأصغر والأكبر، فقال: ليس كما تظنون، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح -أي لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؟ فالمراد بالظلم هنا هو الشرك: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا لم يخلطوا، اللبس: الخلط: إِيمَانَهُمْ توحيدهم بِظُلْمٍ بشركٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] لهم الأمن والهداية؛ الأمن من دخول النار إذا صدقوا في إيمانهم، والأمن من الخلود فيها؛ إن ماتوا ولهم ذنوب، فلهم أصل الأمن، ولهم أصل الهداية، أصل الأمن والهداية مع أهل التوحيد، لكن إن ماتوا على التوحيد صادقين تائبين من الذنوب صار أمنهم كاملًا، وهدايتهم كاملةً، ودخلوا الجنة بغير حسابٍ، وإن كان أمنهم ناقصًا وهدايتهم ناقصةً، ومعهم سيئات ومعاصٍ صار أمنهم ناقصًا، وصاروا تحت المشيئة، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

فمَن نقص إيمانه ونقص توحيده باقترافه السيئات وعدم التوبة صار إيمانه ناقصًا، وتوحيده ناقصًا، فيكون تحت المشيئة، لا يُخلد في النار إن دخلها، لكن قد يدخلها بمعاصيه، وبهذا يُعلم أنَّ قوله: لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ يعني: لهم الأمن ولهم الهداية، إن كانوا قد حققوا التوحيد فلهم الأمن الكامل والهداية الكاملة، أما إن كانوا قد نقصوا التوحيد وجرحوه بالمعاصي فإنَّ أمنهم ناقص، وهدايتهم ناقصة، لكن لهم الأمن من الخلود في النار إن دخلوها، فإنهم لا يُخلدون إن دخلوها بذنوبهم وسيئاتهم، وإنما يُخلد فيها الكفرة.

فالأمن التام والهداية التامة لمن حقق توحيده، وسلم من المعاصي، فإن كان معه المعاصي لم يتب فأمنه ناقص، وهدايته ناقصة، وهو على خطرٍ.

ومن هذا حديث عبادة رضي الله عنه ابن الصامت: أن النبي عليه السلام قال: مَن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل يعني: من صلاحٍ وفسادٍ، من كمالٍ ونقصٍ، وهذا كالذي قبله إن حقق توحيده وإيمانه دخلها من أول وهلةٍ، وإن كان عنده نقص بالسيئات فهو مقيد بالأحاديث الأخرى؛ لأنَّ النصوص يُقيد بعضها بعضًا، والآيات يُقيد بعضها بعضًا.

فهذا الحديث وما جاء في معناه من الأحاديث المطلقة تُقيد بقوله جلَّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فتقيد بقوله ﷺ: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفَّارات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر، وما جاء في معنى هذا، وأحاديث الوعيد على المعاصي تُقيد هذه المطلقات، فيكون على ما كان من عملٍ يعني: إذا كان قد أدَّى الواجبات وترك المحارم، وإن كان عمله ليس كعمل السابق، بل له الجنة إذا كان أدَّى الفرائض وترك المحارم، أو مات على توبةٍ.

وهكذا حديث عتبان: إنَّ الله حرَّم على النار مَن قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله يعني: مَن قالها صادقًا حتى ترك المعاصي، فإنه إذا قالها صادقًا يبتغي وجه الله، لم يصرّ على السيئات، بادر بالتوبة؛ حرَّمه الله على النار كما دلَّت عليه النصوص الأخرى.

وهكذا حديث أبي سعيدٍ في قصة موسى حين قال: يا ربّ، علمني شيئًا أذكرك به وأدعوك به، قال: قل: لا إله إلا الله، قال: يا ربّ، كل عبادك يقولون هذا يعني: وإنما أردتُ شيئًا تخصني به، قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع يعني: وعامرهنَّ غيري في كفةٍ، ولا إله إلا الله في كفَّةٍ مالت بهن لا إله إلا الله رجحت بهن إذا قالها صادقًا مخلصًا، تاركًا للسيئات، تائبًا إلى الله منها، فإن هذه الحسنة ترجح بجميع سيئاته التي تركها، وحقق إيمانه بالتوبة منها، وعدم الإصرار عليها.

وهكذا حديث أنسٍ: يقول الله جلَّ وعلا: يا ابن آدم، لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا بضم القاف على الأشهر، يعني: ملؤها أو ما يُقارب ملأها ثم لقيتني لا تُشرك بي شيئًا يعني: مُوحِّدًا مُحقِّقًا توحيدك أتيتُك بقُرابها مغفرةً غفرتُ لك، فهذا يدل على أنَّ مَن أتى الله بالتوحيد الخالص الصَّادق المتضمن عدم الإصرار على السيئات والتوبة منها لقيه الله بالمغفرة من جميع سيئاته التي صدق في تركها والتوبة منها والإقلاع عنها، كما جاءت النصوص بذلك.

والنصوص يُقيد بعضُها بعضًا، ويُوضح بعضها بعضًا، ويُفسر بعضُها بعضًا، فالآيات المطلقة والأحاديث المطلقة تُقيد بالأحاديث المقيدة والآيات المقيدة، وبهذا لا يكون بين النصوص اختلافٌ، بل يُفسر بعضُها بعضًا، ويدل بعضُها على بعضٍ.

فالواجب على المؤمن أن يحذر السيئات، وأن يحذر جميع المعاصي، وأن يستقيم على توحيد الله والإخلاص له، وأداء فرائضه، وترك محارمه؛ حتى يلقاه الله بالمغفرة الكاملة والجنة والسعادة والكرامة.

وفَّق الله الجميع.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق