السبت، 25 أبريل 2020

صوم العـــــامة العُــرفي

قال محمد البشير الابراهيمي رحمه الله:
" فلا يتوهمنَّ المسلم أن الصوم هو ما عليه العامّة اليوم من إمساك تقليدي عن بعض الشهوات في النهار، يعقبه انهماك في جميع الشهوات بالليل، فإن الذي تشاهده من آثار هذا الصوم العرفي إجاعة البطن، وإظماء الكبد، وفتور الأعضاء، وانقباض الأسارير، وبذاءة اللسان، وسرعة الانفعال، واتخاذ الصوم شفيعًا فيما لا يحبّ الله من الجهر بالسوء من القول، وعذرًا فيما تبدر به البوادر من اللجاج والخصام والأيمان الفاجرة!! كلا ... إن الصوم لا يكمل، ولا تتم حقيقته، ولا تظهر حكمته ولا آثاره إلا بالفطام عن جميع الشهوات الموزّعة على الجوارح، وللأذن شهوات في الاستماع، وللعين شهوات في امتداد النظر وتسريحه، وللسان شهوات في الغيبة والنميمة، ولذّات في الكذب واللغو والتزويق: وإن شهوات اللسان لتربو على شهوات الجوارح كلها، وإن له لضراوة بتلك الشهوات لا يستطيع حبسه عنها إلا الموفَّقون من أصحاب العزائم القويّة، وأن تلك الضراوة هي التي هوّنت خطبه حتى على الخواص فلم يعتبروا صوم اللسان من شروط الصوم؛ وأعانهم على ذلك التهوين تقصير الفقهاء في تعريف الصوم، وقصرهم إياه على الإمساك عن الشهوتين، وافتتانهم بالتفريعات المفروضة، وغفلتهم عما جاء في السنَّة المطهرة من بيان لحقيقة الصوم وصفات الصائم
صوم رمضان محك للإرادات النفسية، وقمع للشهوات الجسمية، ورمز للتعبد في صورته العليا، ورياضة شاقّة على هجر اللذائذ والطيّبات، وتدريب منظّم على حمل المكروه من جوع وعطش وسكوت، ودرس مفيد في سياسة المرء لنفسه، وتحكّمه في أهوائها، وضبطه بالجِدّ لنوازع الهزل واللغو والعبث فيها، وتربية عملية لخلق الرحمة بالعاجز المعدم، فلولا الصوم لما ذاق الأغنياء الواجدون ألم الجوع، ولما تصوّروا ما يفعله الجوع بالجائعين، وفي الإدراكات النفسية جوانب لا يغني فيها السماع عن الوجدان، ومنها هذا، فلو أن جائعًا ظلّ وبات على الطوى خمسًا، ووقف خمسًا أخرى يصوّر للأغنياء البطان ما فعل الجوع بأمعائه وأعصابه، وكان حالُه أبلغ في التعبير من مقاله، لَما بلغ في التأثير فيهم ما تبلغه جوعة واحدة في نفس غني مترف.
لذلك كان نبيّنا إمام الأنبياء، وسيّد الحكماء، أجود ما يكون في رمضان."
آثاره (3-476)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق